بقلم: يوسف أبو زر
الرأسمالية هي منظومة من الخطايا، تحرسها الدولة. أما إنجازاتها، فدافعها المال وغايتها الأرباح و ليس الإنسان، و رعاية الدولة الرأسمالية لعموم الناس ودعمها لهم هو أمر ثانوي وليس أصيلا فيها، بل هو أمر يأتي لتشغيل ماكينة الأرباح باستمرار الطلب و كذلك لتلافي الثورة على تلك المنظومة.
والدولة الرأسمالية كالبيوت الضخمة الفخمة الجميلة ولكنها متصدعة لا يسترها إلا الصيف، حتى إذا جاء الشتاء ظهرت الصدوع وسالت الشقوق على رؤوس أصحابها وظهر للعيان عيب البنيان وضعف الأركان.
وإذا كانت هذه الصدوع قد ظهرت في الدول القوية الغنية في أوروبا وأمريكا مع تفشي وباء كورونا، فهي في النسخة الممسوخة من الدول الرأسمالية في بلداننا أظهر.
لقد أثبتت الدول الحالية أنها بنظمها الرأسمالية ليست دول رعاية حقة، اللهم إلا لرعاية مصالح رأس المال وأصحابه، وقد ظهر ذلك في أزمة الوباء الحالي ظهورا صارخا بارزا في الأمور التالية:
1 – من أسباب تفاقم الوباء الذي تكرر في أكثر الدول حتى أدى إلى ما أدى إليه هو قلة الاكتراث والتباطؤ في الإجراءات عندما بدأت المشكلة "صحية "، والاستنفار السريع عندما صارت تتحول مشكلة الوباء إلى مشكلة "اقتصادية" لا فرق في ذلك بين الصين وإيطاليا وأمريكا وغيرها، أما الأنظمة في بلداننا فالكثير منها بقي في حالة نكران وتجاهل وتخبط واستهتار حتى وصل الحجر إلى بيوت حكامها لأنهم لا يملكون من الخطط إلا خطط استمرار البقاء في الحكم.
2 – التفاقم السريع للمرض أدى إلى الكشف عن ضعف المنظومة الصحية وهشاشتها في دول كانت الناس تراها قوية، فنقص أجهزة التنفس والكمامات وأجهزة الفحص والكشف المبكر وقصور المستشفيات في الدول الأوروبية وحتى أمريكا، أما كيان يهود فقد تدخلت مخابراته "الموساد " لتغطية النقص في عينات الفحص بشراء مئة ألف وحدة من دولة "خليجية"!.
3 – إن القصور الذي ظهر سريعا في القطاعات الصحية الغربية كان نتيجة طبيعية لتخلي تلك الدول عن مسؤولياتها في أمر أساسي كالصحة وذلك بخصخصتها وتركها سلعة خاضعة لقوى السوق التجاري مع الاكتفاء بنظم التأمين الصحي القاصرة حتى صارت أسعار التداوي خيالية، وقد أدى ذلك بمنطق السوق إلى ظهور النقص في تخزين مواد طبية استراتيجية أو حيوية مع ظهور كورونا، و ذلك لأن تخزينها لا ربح فيه وأدى إلى جعل الأبحاث الطبية و الدوائية مرتبطة بمختبرات الشركات الربحية، مع أن كلا الأمرين أي وجود مخزون استراتيجي من المواد الطبية الحيوية و أبحاث الطب مما يجب أن تنفق عليه الدولة وتخصص له الموارد، كما تخصص مئات المليارات لمخزون الأسلحة وأبحاث غزو الفضاء.
4 – وبالمقابل، فانه بمجرد أن بدأت تظهر الآثار الاقتصادية على الشركات الرأسمالية وأسواق المال حتى بدأت حزم الإنقاذ بمئات المليارات بل بالتريليونات لإنقاذ تلك الشركات، مع أنه كان يجب أن تتجه تلك المليارات إلى خطة طوارئ لتعزيز الصناعة الطبية وبنية القطاع الصحي، وإلى خطة رعاية لتامين الاحتياجات الأساسية لعموم الرعايا.
ومع أن إدارة الكوارث أو إدارة الطوارئ في هذا الوقت صارت "علما" يعرف بعلم إدارة الكوارث، بحيث يتم التنبؤ بالكوارث والأزمات على أنواعها ورسم سيناريوهاتها والتحضير لها وبحث سرعة الاستجابة وغير ذلك، إلا أن الارتباك والفشل كان واضحا مكشوفا، وكان بأن ظهرت تلك الدول على حقيقتها بأنها دول رعاية رأس المال بدلا من أن تكون دول رعاية لمواطنيها.
وإنه إذا كان ما سبق من الكلام هو عن حال الدول النموذج للرأسمالية الغربية، فإن الحال في الدول ذات النسخة الممسوخة للرأسمالية في بلادنا الإسلامية هو أسوأ بكثير، فالفشل وسوء الرعاية في كل شيء حاصل قبل الوباء، وموارد البلد لم تكن تخصص أو تدار إلا بالطريقة التي تخدم النظام الحاكم وبقاءه. ومع بدء الإصابة بالمرض في بلادنا الإسلامية، وان لم ينتشر بشكل واسع -ونسأل الله عز وجل العافية منه لكافة المسلمين – فقد بدأت الحكومات في بلداننا بإجراءات مرحلة الطوارئ، ولكنها طوارئ فقط في سلوك الناس بالحجر وليست في سلوك الحكومات، إذ ليست هناك "حزم إنقاذ" ولا توسيع سريع للقطاعات الصحية للاستعداد، ولا خطة تمويلية لإشباع الحاجات الأساسية لمن أقعدهم الحجر وقصرت بهم الإمكانات من العمال والعوائل، بل ظهر الفشل والارتباك حتى في "توزيع الخبز" أثناء الحجر مثلما كان في الأردن.
وفي هذا الوقت و الذي تنكشف فيه سوءة الدول العلمانية الرأسمالية، المتقدمة منها كما المتخلفة، في هشاشة الرعاية الصحية و الجشع مع الفشل في الرعاية الاقتصادية، فإن العودة إلى ما يقتضيه الإسلام كسياسة اقتصادية للدولة الإسلامية سنرى فيها أن الدولة هي الضامن لإشباع الحاجات الأساسية للأفراد فردا فردا، ومع أن الدولة لا تقوم بشؤون الأفراد إلا اذا عجزوا عنها، فان ظرفا كظرف الوباء الحالي الذي يتطلب الحجر يجعل الكثير من الأفراد عاجزين عن القيام بشؤون معيشتهم و كفاية أنفسهم، وهنا تقوم الدولة بالمباشرة وبكل أسلوب مناسب لقضاء شؤونهم بما يشبع حاجاتهم الأساسية إشباعا كليا، ومثلها كرعاية صحية ما يتعلق بضمان التطبيب والرعاية الطبية لكل فرد بعينه مع القوامة على الصحة العامة والإجراءات حال الوباء بما قررته الأحكام الشرعية.
إن هذه السياسة للدولة الإسلامية ليست برنامجا حكوميا وإنما هي سياسة ثابتة قررتها الأحكام الشرعية، وهي وإن كانت الآن طرحا فكريا سياسيا، فقد كانت فيما مضى واقعا مضيئاً بخلاف ظلام الرأسمالية الذي نحياه هذه الأيام.
لقد حصل في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قحط شديد أدى إلى هلاك الزرع والضرع والأنعام فيما عرف بعام "الرمادة"، و قد لجأ الناس من الأطراف والبوادي إلى عمر في المدينة إدراكا منهم لمعنى مسؤولية الدولة وأن الإمام راع مسؤول وأنهم عيال الدولة وليست الدولة هي العالة عليهم، و كانت أعدادهم هائلة حتى كان يطبخ في المدينة يوميا لعشرات الآلاف من الناس يشرف على كل ذلك وبالتفصيل عمر رضي الله عنه، و قد استنفر عمر الولايات فأرسل الولاة من المواد اللازمة ما يكفي ويزيد حتى اذا انجلت الأزمة عاد الناس إلى أماكنهم وهم محملون بما يكفيهم، فكان كل ذلك تطبيقا عمليا لما اقتضته أحكام الشرع من مسؤولية الدولة عن إشباع حاجات الناس اذا عجزوا عنها والاستنفار في تخصيص الموارد حين الأزمة الاقتصادية، كما كان الحجر وقت الطاعون صورة عن إدارة الأزمة الصحية الوبائية بما اقتضته الأحكام الشرعية أيضا، و من هنا فقد باتت الدولة الإسلامية ضرورة يقتضيها العيش الكريم للبشر كما هي واجب شرعي تفتضيه النصوص.
28-3-2020