مقدمة:
– التعريف بموضوع البحث وإشكالاته:
الحمد لله رب العالمين؛ والصلاة والسلام على نبي الله ورسوله الأمين؛ سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. وبعد؛
إننا – نحن المسلمين- نعتقد جازمين بأن الله تعالى قد لاحق الإنسانية بوحيه من لدن آدم عليه السلام إلى أن ختمت الظاهرة بالوحي المتمثل في القرآن الكريم والسنة النبوية…
ولذلك فقد أجمع العلماء المسلمون على أن كل ما يصدر عن النبيe من سنة أقوالا وأفعالا وقرارات- بوصفه رسولا مبلغا عن الله سبحانه يعتبر وحيا مصداقا لقوله تعالى في حق نبيه محمد e: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [1].
المزيد من المشاركات
الحب في البيت النبوي
عبد الصمد الخزروني فبراير 26, 2020
ما في رضاع خاتم الرسالات من لطائف وإشارات
عبد الواحد شاكري فبراير 4, 2020
ولما كانت السنة النبوية وحيا- كالقرآن- فقد أجمع العلماء على مبدإ حجيتها على مختلف تعاليم الإسلام سواء في ميدان العقيدة أو الشريعة أو مكارم الأخلاق، فتتضافر مع القرآن الكريم لبلورة تعاليم دين الإسلام الحنيف، حتى إن النبيe قد جعل التمسك بهما معا سبب الهداية الدائمة للمسلمين فقال فيما أخرجه الإمام مالك في موطئه والحاكم في مستدركه «إِنِّي قَدْ خَلَّفْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا مَا أَخَذْتُمْ بِهِمَا أَوْ عَمِلْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي وَلَنْ تَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَىَّ الْحَوْضَ »[2].
ومع ذلك فإنه قد وجدت منذ القديم نزعة مغرضة ترفض الاحتجاج بالسنة النبوية على يد الرافضة وبعض فرق المعتزل والشيعة ونحوهم من المبتدعة[3] ثم تجددت في عصرنا الحديث على يد المستشرقين وبعض المتمسلمين؛ (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [4].
ويأتي هذا البحث ردا على هذه النزعة المغرضة الرافضة للاحتجاج بالسنة النبوية –سواء في ثوبها القديم أو ثوبها الحديث- وتوضيحا لما يحتج به منها في ميداني العقيدة والشريعة-معا- ومواصفات ما يحتج به منها في ميداني الشريعة خاصة- وقد اقتضى منهج الدراسة تناول الكلام في هذا البحث ضمن المباحث التالية:
المبحث الأول: مبدأ ومنزلة السنة النبوية في الحجية.
المبحث الثاني: حجية السنة بين ميداني العقيدة والشريعة.
المبحث الثالث: موقف العلماء من الاحتجاج بالضعيف والمرسل من السنة النبوية.
المبحث الأول: مبدأ.. ومنزلة السنة النبوية في الحجية.
مقالات أخرى للكاتب
إشكال البناء النسقي لمداخل منهاج مادة التربية الإسلامية (نماذج…
د. عبد السلام العزوزي مارس 12, 2020
محورية وظيفة المسجد في حياة المسلمين
د. عبد السلام العزوزي فبراير 8, 2020
-مبدأ حجية السنة النبوية:
لقد أجمع المحققون من علماء المسلمين كما سبق على مبدأ حجية السنة النبوية على مختلف تعاليم الإسلام في ميداني العقيدة أو الشريعة أو مكارم الأخلاق. ومتى ما ثبت صدورها عن النبي e على سبيل التشريع من جهة التبليغ بصفة أنه رسول. وذلك لما قام عندهم على هذه القضية من أدلة كثيرة… ومنها:
أن النبي e لا يقول ولا يفعل ولا يقر – فيما له علاقة بالدين- إلا عن وحي من رب العالمين، بدليل قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[5] وكما أنه لا ينطق إلا عن وحي فإنه كذلك لا يفعل ولا يقر إلا عن وحي: فالوحي وحيان: وحي يتلى – تعبدا- وهو القرآن الكريم، ووحي لا يتلى- تعبدا – وهو السنة النبوية، وقد روى أبو داود عن المقداد بن معد يكرب عن رسول الله e قوله: ” ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه”[6].
قال أبو البقاء:” والحاصل أن القرآن والحديث يتحدان في كونهما وحيا منزلا من الله بدليل (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) إلا أنهما يتفارقان من حيث أن القرآن هو المنزل للإعجاز والتحدي به بخلاف الحديث، وأن ألفاظ القرآن مكتوبة في اللوح المحفوظ وليس لجبريل عليه السلام ولا للرسول e أن يتصرفا فيها أصلا، وأما الأحاديث فيحتمل أن يكون النازل على جبريل منها صرفا فكساه حلة العبارة”[7].
وقال ابن حزم: ” لما بينا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفا لرسوله صلى الله عليه وسلم { وما ينطق عن لهوى إن هو إلا وحي يوحى } فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من الله عز وجل إلى رسوله صلى الله عليه وسلم على قسمين:
أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفا معجز النظام وهو القرآن.
والثاني وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء وهو الخبر الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المبين عن الله عز و جل مراده منا… ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي لأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بلله واليوم لآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }……
فلم يسع مسلما يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق وأما من فعله مستحلا للخروج عن أمرهما وموجبا لطاعة أحد دونهما فهو كافر لا شك عندنا في ذلك”[8].
2– إن مهمة الرسولe بالإضافة إلى تبليغه القرآن الكريم هي تبيينه وشرحه قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )[9] وقال: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)[10].
مما يستفاد منه أنه لابد من الرجوع إلى السنة لفهم وتنفيذ نصوص القرآن حتى قال مكحول: “القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن”.
ألا ترى مثلا أن دية السرقة قاضية بقطع يد كل سارق فخصته السنة بمن سرق نصابا محرزا. وهي أيضا تفيد قطع اليد كلها فقيدتها السنة بالكوعين..؟ وكذلك آيات الزكاة شاملة لكل مال فخصصتها السنة بأموال مخصوصة من عين وأنعام وحرث..؟ وأباح الله تعالى في القرآن جميع النساء غير المذكورات قبل قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم)[11]. وخصصت السنة ذلك العموم بنكاح المرأة على عمتها وخالتها…؟ إلى غير ذلك مما بينت السنة فيه مجمل القرآن أو قيدت مطلقه أو خصصت عامه أو عينت المراد منه.. مما يستفاد منه أنه لابد من الرجوع إلى السنة لتنفيذ نصوص القرآن…
قال ابن حزم: “… ولو أن امرأ قال: لا نأخذ إلا ما وجدنا في القرآن لكان كافرا بإجماع الأمة ولكان لا يلزمه إلا ركعة ما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل وأخرى عند الفجر، لأن ذلك هو أقل ما يقع عليه اسم الصلاة ولا حد للأكثر في ذلك وقائل هذا كافر مشرك حلال الدم والمال وإنما ذهب إلى هذا بعض غالية الرافضة ممن قد اجتمعت الأمة على كفرهم”[12].
الآيات القرآنية التي تفرض على المؤمنين اتباع الرسول والتسليم لحكمه وهي آيات لا تحتمل التأويل في وجوب طاعته بالتزام سنته المتمثلة في أقواله وأفعاله… ومن تكلم الآيات: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا)[13]. قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا)[14].
وقوله تعالى وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[15] وقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[16].
وقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [17].
وقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [18].
إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بطاعة الرسول واتباعه أو الناهية عن عصيانه ومخالفته فيما جاء به، أو المرغبة في الاقتداء به..
الأحاديث النبوية الدالة على وجوب طاعة الرسول e في كل ما جاء به –قرآنا كان أم سنة- وهي أحاديث كثيرة بلغت حد التواتر المعنوي فيما نحن بصدده ومنها:
– ما رواه ابن عبد البر من أن رسول الله e قال: « تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي… »[19].
– ما رواه البخاري – حدثنا محمد بن سنان حدثنا فليح حدثنا هلال بن علي عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى. قالوا يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى»[20].
– وما رواه الترمذي وأبو داود، حدثنا علي بن حجر حدثنا بقية بن الوليد عن بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن سنن عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال رجل: إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي فإنه من يعش منكم يرى اختلافا كثيرا وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ ». قال أبو عيسى: هذا حديث صحيح “[21].
إلى غير ذلك من الأحاديث التي دلت على ما دل عليه القرآن الكريم من وجوب طاعة الرسول فيما صدر عنه من سنة.
4- العمل المستمر من عهد الرسولe إلى يومنا هذا من نزوع علماء المسلمين في التعرف على أحكام الدين والاستدلال عليها بالسنة النبوية بعد القرآن الكريم، مما يدل على الاتفاق على مبدإ حجية السنة النبوية عند جميع المعتد بهم من علماء الإسلام عبر الأجيال:
– ومن الجزئيات الدالة على فزع علماء المسلمين عبر التاريخ إلى السنة النبوية لمعرفة حكم الله تعالى على سبيل المثال:
– ما روي في سبب نزول قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[22] إذ إن جملة الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية يتلخص في أن النبيe قضى للزبير بن العوام بالشرب من سراج الحرة قبل رجل شهد بدرا من الأنصار.
ولا ريب أن حديث النبيe هنا قد انفرد بالتشريع في هذه المسألة التي لم يعرض لها القرآن بحكم صريح فمعنى تفسير الآية على جميع الآراء هو أن الأنصاري الذي اعترض على سقي الزبير قبله كان جديرا به قبول الحكم النبوي دون أن يجد في نفسه حرجا.[23]
-وما روي من أن عبد الرحمن بن يزيد، أنه رأى محرما عليه ثياب فنهى المحرم، فقال: «آتني بآية من كتاب الله تنزع ثيابي. قال: فقرأ عليه: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}[24]».[25]
فنزع الثوب المخيط لم يرد صريحا في كتاب الله تعالى، وإنما ورد الحديث فقط، ومع ذلك فقد فهم عبد الرحمن كغيره أنه أمر واجب الاتباع لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بالانتهاء لما نهى عنه النبيe والأخذ بما أمر به..
-وما روي من أن ابن عباس رأى الإمام الكبير طاووس يصلي بعد العصر ركعتين فقال له: اتركهما، فأجابه طاووس: أن الرسولe إنما نهى عنهما مخافة أن تتخذ سنة، ولا خير في هاتين الركعتين إن صليتا بغير نية الاستمرار, ولكن ابن عباس يصر على نهي الرسولe مطلقا بعد العصر، ويؤكد لطاووس أنه ليس له الخيار فيما جاء به الرسول e مستندا إلى قوله تعالى (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ) [26].
إلى غير ذلك من الجزئيات التي لا يمكن حصرها والتي تدل في مجموعها على أن سنة المسلمين العملية المتواترة في جميع الأجيال السابقة هي استدلالهم على الأحكام بما صح من سنة رسول اللهe.
وهكذا يثبت بمجموع تلك الأدلة وغيرها مبدأ حجية السنة النبوية في كل ما يتعلق بالدين… قال الإمام الشافعي:
” لم أَسْمَعْ أَحَدًا نَسَبَهُ الناس أو نَسَبَ نَفْسَهُ إلَى عِلْمٍ يُخَالِفُ في أَنْ فَرَضَ اللَّهُ عز وجل اتِّبَاعَ أَمْرِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَالتَّسْلِيمَ لِحُكْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لم يَجْعَلْ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ إلَّا اتِّبَاعَهُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَوْلٌ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا بِكِتَابِ اللَّهِ أو سُنَّةِ رَسُولِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَأَنَّ ما سِوَاهُمَا تَبَعٌ لَهُمَا وَأَنَّ فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْنَا وَعَلَى من بَعْدَنَا وَقَبْلَنَا في قَبُولِ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ في أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ قَبُولُ الْخَبَرِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم إلَّا فِرْقَةٌ سَأَصِفُ قَوْلَهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى” [27].
وقال الإمام ابن حزم: ” جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ففرض اتباعه وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن وبيان لمجمله”[28].
منزلة السنة النبوية من القرآن في الحجية:
لقد اختلف العلماء في منزلة السنة في القرآن من حيث الرتبة في الاحتجاج على مذهبين:
-مذهب القائلين بأن السنة والقرآن في المرتبة سواء من حيث الحجية؛ ولذلك فإنه إذا تعارض خبر من السنة- في الظاهر[29] – مع آية من القرآن جاز أن يكون المتأخر منهما ناسخا للمتقدم.
وهذا هو مذهب الحنفية[30] والمالكية[31] وابن حزم الظاهري[32] مستدلين بأن كلا من القرآن والسنة النبوية يتساويان في أنهما وحي من الله تعالى القائل عن نبيه e: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [33].
نعم إن الحنفية والمالكية يشترطون أن يكون الحديث متواترا حتى ينسخ القرآن، أما ابن حزم فإن خبر الآحاد والمتواتر عنده سواء في جواز نسخ الكتاب.
2- مذهب القائلين بأن السنة في المرتبة التالية للقرآن، ولذلك فإن السنة عندهم لا تنسخ القرآن، وإذا حصل تعارض ظاهري بين القرآن والسنة، ولم نستطع الجمع بينهما فلا يتعدى الأمر أحد الاحتمالات الأربعة التالية:
أ- أن تكون الآية منسوخة بآية أخرى.
ب- أن تكون السنة منسوخة.
ج- أن يكون الحديث ضعيفا لا يحتج به.
د- أن يكون وجه الاستدلال في الآية أو الحديث ضعيفا.
وإلى هذا الرأي ذهب الإمامان الشافعي[34]، وأحمد بن حنبل[35] مستدلين على أن السنة النبوية تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث الاستدلال والحجية بالأدلة التالية:
أن القرآن الكريم أصل وأن السنة النبوية فرع عنه.. ومن المقرر أن الفرع لا يقوى قوة الأصل.. وذلك أن القرآن هو المعجزة الدالة على صدق الرسولe إذ به ثبتت نبوته وصدقه في أنه يوحى إليه، وهو الذي شهد له بأن كل ما يصدر عنه لا ينطق فيه عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى… فدل بذلك على أن كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال وإقرارات- مما له علاقة بالدين كلها راجعة إلى الوحي.. ولولا هذه الشهادة لما كانت السنة حجة ملزمة.
أن القرآن الكريم كله قطعي في وروده حيث نقل إلينا جميعه بالتواتر، أما السنة النبوية فأغلبها منقول إلينا بطريق الآحاد، ولم يتواتر منه إلا القليل.. مما يجعلها في الغالب ظنية الثبوت، وما كان قطعي الثبوت كان أقوى من ظني الثبوت بداهة.
إن الآيات الدالة على حجية السنة النبوية تذكرها في المرتبة الثانية بعد وجوب اتباع القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأولا).[36]
إقرار النبيe معاذا بن جبل على اعتبار السنة مصدرا يلي القرآن الكريم في الحجية، واستقرار ذلك عند الصحابة حتى إن عمرt كتب بذلك إلى بعض من ولاه القضاء:
فقد أخرج أبو داود “أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال « كيف تقضى إذا عرض لك قضاء ». قال أقضي بكتاب الله. قال « فإن لم تجد في كتاب الله ». قال فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « فإن لم تجد في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا في كتاب الله ». قال أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صدره وقال: « الحمد لله الذى وفق رسول رسول الله لما يرضى رسول الله ».[37]
وروي عن عمر بن الخطابt أنه كتب إلى شريح: “إذا أتاك أمر؛ فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله؛ فاقض بما سن فيه رسول الله, صلى الله عليه وسلم…..”[38]. في رواية أخرى أنه قال له: “انظر ما تبين لك في كتاب الله؛ فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب الله؛ فاتبع فيه سنة رسول الله, صلى الله عليه وسلم”[39].
كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم فإن لم يجد في الكتاب نظر هل كانت من النبي صلى الله عليه و سلم فيه سنة فإن علمها قضى بها وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال أتاني كذا وكذا فنظرت في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم فلم أجد في ذلك شيئا فهل تعلمون أن نبي الله صلى الله عليه و سلم قضى في ذلك بقضاء فربما قام إليه الرهط فقالوا نعم قضى فيه بكذا وكذا فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه و سلم قال جعفر وحدثني غير ميمون أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه وسلم وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به قال جعفر وحدثني ميمون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم فاستشارهم فإذا اجتمعوا على الأمر قضى بينهم”[40].
المبحث الثاني: حجية السنة النبوية بين ميداني العقيدة والشريعة:
قبل بيان حجية السنة النبوية بين ميداني العقيدة والشريعة يجب أن نبين أقسام السنة من حيث وصولها إلينا إجمالا، ثم نبين مجال كل قسم في الحجية:
أقسام السنة من حيث وصولها إلينا:
تنقسم السنة النبوية من حيث وصولها إلينا عند الجمهور إلى قسمين:
أحاديث متواترة: والحديث المتواتر هو: ما رواه جمع غفير عن مثله إلى منتهاه، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب”.
والتواتر قسمان:
-تواتر لفظي: وهو ما اتفق الرواة على لفظه، ومثاله قول النبيe فيما رواه البخاري ومسلم: “من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار” حيث قال ابن الصلاح عنه: “رواه اثنان وستون من الصحابة” وقال غيره: “رواه أكثر من مائة نفس”[41].
2- التواتر المعنوي: وهو ما اختلفت روايته في اللفظ من جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب مع وجود معنى كلي متفق عليه في روايته، ومثاله: رفع اليدين في الدعاء[42].
أحاديث خبر آحاد: وهو ما لم يبلغ درجة التواتر، وأمثلته كثيرة منها قول النبي e فيما رواه البخاري: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى”[43].
هذا ولقد زاد الحنفية قسما ثالثا وهو الأحاديث المشهورة والحديث المشهور عندهم هو ما كان خبر آحاد في عصر الصحابة ثم تواتر في عصر التابعين… وهو عندهم كالمتواتر في القوة بحيث يجوز أن ينسخ القرآن ويقيد مطلقه ويخصص عمومه(إذا اقترن بالآية).
ومن أمثلة الحديث المشهور عندهم: قول النبيe، فيما رواه أبو داود وغيره ” لا وصية لوارث”[44] وقوله فيما رواه مسلم « خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم ».[45]
مجال كل من السنة المتواترة والآحادية في الحجية:
لما كانت السنة النبوية مختلفة في درجة ثبوتها عن النبيe وكانت ميادين الاحتجاج بها مختلفة الأهمية والخطورة.. فقد اختلف المقبول منها للاحتجاج به بين ميدان العقيدة وميدان الشريعة:
فالسنة المتواترة حجة في دين الله سواء في ميدان العقيدة أو الشريعة، وذلك نظرا للقطع بثبوتها عن رسول الله e.
أما خبر الآحاد من السنة النبوية فإنه لا يصلح أن يكون حجة على عقيدة يكفر جاحدها.. وذلك لأن العقيدة هي ما يطلب الإيمان به إيمانا لا يرقى إليه شك ولا تؤثر فيه شبهة… وهو لا يكون كذلك إلا إذا كان مبنيا على دليل قطعي الورود قطعي الدلالة.. وقطعية الورود لا تتوفر أساسا إلا فيما تواتر من الأخبار دون أخبار الآحاد حيث لا تفيد هذه الأخيرة أساسا إلا الظن بثبوتها، والظن لا تثبت به عقيدة ضرورة لعدم انبناء اليقين على الظن بداهة.
نعم عن خبر الآحاد من السنة النبوية صالح للاحتجاج به في ميدان الشريعة – عبادات ومعاملات ومكارم أخلاق…، وإن لم يفد إلا الظن في ثبوته عن النبيe، وذلك للأسباب التالية:
أن الرسول e بعث إلى الناس كافة، وليس من الممكن أن يشافه كل فرد من الأمة بما أوحي إليه به كلا على حدى، كما أنه ليس من الممكن أن يبلغ الأحكام إلى جميع الأقطار وإلى كل فرد على وجه التواتر.. وإنما الممكن هو بعث أفراد من الصحابة –دون التواتر- إلى مختلف الأصقاع للتبليغ… وهذا ما فعله عليه الصلاة والسلام:
فمن المتواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبعث أمراءه وقضاته ورسله وسعاته.. إلى الأطراف لقبض الصدقات، وتقرير العهود أو حلها، وتبليغ أحكام الشرع، وكانوا أفرادا وآحادا..
ومن ذلك تأميره أبا بكر الصديق على موسم الحج سنة تسع من الهجرة، وتوليته على الزكوات والجبايات قيس بن عاصم وعمرو ابن العاص وعبد الرحمن بن عوف وأبا عبيدة بن الجراح وغيرهم، وقد ثبت أنه كان يلزم أهل النواحي قبول قول رسله وسعاته وحكامه وكان المبعوث إليهم يتلقون ما يبعث إليهم من أوامر بالقبول والتنفيذ.. فكان الاكتفاء بخبر الآحاد في التبليغ ضروريا.
لقد جرى عمل الصحابة رضي الله عنهم على قبول خبر الآحاد في وقائع متعددة لا حصر لها، تتواتر جميعها على معنى عملهم بخبر الواحد في كل ما يتعلق بالشريعة ومن ذلك:
أن عمر بن الخطاب كان لا يرى توريث الزوجة في دية زوجها، فلما أخبره الضحاك أن رسول اللهe كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي في ديته رجع إلى ذلك.
رجوع عمر وعثمان وجماهير الصحابة رضي الله عنهم عن سقوط فرض الغسل من التقاء الختانين بخبر عائشة رضي الله عنها حيث قالت: فعلت ذلك أنا ورسول الله فاغتسلنا…[46]
قضاء عثمان لمن توفي عنها زوجها بالسكنى مدة العدة في بيت زوجها استنادا إلى ما أخبرت به فريعة بنت مالك في أنها جاءت إلى النبيe بعد وفاة زوجها تستأذنه في موضع العدة فقال لها الرسولe: امكثي حتى تنقضي عدتك”[47].
ما روي عن أنس قال: “كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا من فضيح ثمر، إذ أتانا آت فقال: إن الخمر قد حرمت – فقال أبو طلحة: يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفلها حتى تكسرت”[48].
ما اشتهر عن أهل قباء من التحول إلى القبلة بخبر الواحد، فإنهم أتاهم آت فأخبرهم بنسخ القبلة، فانحرفوا إلى الكعبة بخبره…[49]
وعلى هذه السنة من قبول خبر الواحد والاحتجاج به جرت سنة التابعين بعدهم، قال الإمام الشافعي: “… وجدنا علي بن الحسن رضي الله عنه يعول على خبر الآحاد، وهكذا كان سعيد بن المسيب يقول: أخبرني أبو سعيد الخدري عن رسول الله e، ويقول حدثني أبو هريرة… وكان عروة بن الزبير يقول: حدثتني عائشة رضي الله عنها أن رسول اللهe قضى أن الخراج بالضمان، ويعترض بذلك على قضية عمر بن عبد العزيز، فينقض عمر قضاءه لأجل ذلك: وعلى ذلك جرى فقهاء الشام والبصرة والكوفة… ولم ينكر ذلك عليهم أحد، إذ لو وقع نكير لنقل ولا اشتهر لتوفر الدواعي على نقله كما توفرت الدواعي على العمل… فثبت بهذا أنه مجمع عليه من السلف، وإنما حدث الخلاف بعدهم…”[50].
3- قوله تعالى (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )[51] والطائفة تصدق على نفر يسير كالثلاثة وهم دون عدد التواتر اتفاقا فلا يحصل العلم بقولهم، ومع ذلك قال: (لينذروا قومهم) فدل على أن إنذارهم يعمل به، وإن كان خبر آحاد لا يفيد إلا الظن.
المبحث الثالث: ما يحتج به من السنة في ميدان الشريعة:
ولما كانت أخبار الآحاد تختلف قوة وضعفا في ظنية ثبوتها…فقد اتفق العلماء على أن ما يقبل من السنة الآحادية للاحتجاج به في ميدان الشريعة هو ما ترجح ثبوت صدوره عن النبيe، وهو الصحيح والحسن ما لم يخالفا القياس أو ينسهما راويهما أو يعمل بخلافهما أو تعم البلوى بهما أو يخالفا إجماع أهل المدينة، وإلا ففي الاحتجاج بهما إذاك خلاف وتفصيل…
-----
تكملة الموضوع في جزء ثاني اسفل هذا الموضوع
عدل سابقا من قبل نبيل القدس ابو اسماعيل في 2020-05-14, 9:27 pm عدل 1 مرات