صلاة الجماعة من شعائر الإسلام التوقيفية،
ولا يجوز أداؤها إلا على الوجه الذي جاء به الوحي
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،
قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾إن الحق سبحانه أمرنا بإقامة الصلاة، وأدخل صيغة الأمر على الفعل قام ولم يدخلها على الصلاة مباشرة أي لم يقل "صلوا" بل جاء الأمر بالصلاة بصيغة تضم الصلاة وما لا تتم الصلاة إلا به، ومعنى أقام الشيء: أدامه على أكمل هيئة بشكل ثابت لا يتغير، ففعل الأمر "أقيموا" فيه معنى زائد عن صلوا، والمعنى المقصود وهو دوام أداء الصلاة وفق أسبابها مستكملة أركانها وشروطها وفق ما أداها النبي صلى الله عليه وسلم.
والصلاة عبادة توقيفية ولها كيفية منقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً والإحداث فيها بدعة، وقد بيَّن لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هيئتها للمقيم والمسافر، والمعافى والسقيم، وبيَّن أحكام صلاة الجماعة وكيفية أدائها، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه فقال: «... وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي،...» رواه البخاري.
أيها المسلمون:
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَتُنْتَقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتُقِضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، فَأَوَّلُهُنَّ نَقْضاً: الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ»، رواه أحمد والحاكم وابن حبان بإسناد صحيح.
لقد أغلق حكام الطاغوت المساجد ومنعوا إقامة صلوات الجماعة وصلاة الجمعة بحجة منع انتشار وباء كورونا، واتخذوا من بعض الفتاوى غطاء لهم في جريمتهم، والمؤلم أيضاً أننا سمعنا عن دعوات لإقامة صلاة الجماعة على هيئة تخالف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وللأسف شاهدنا لهذا أمثلة في بعض البلاد الإسلامية، فرأيناهم متباعدين مخلين بالصفوف، وهذا مخالف للهيئة التوقيفية لصلاة الجماعة، ونقض لعروة الصلاة، ولبيان هذا نورد الأدلة التالية:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ، مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» رواه مسلم، وفي رواية البخاري «سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ».
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ، ثُمَّ خَرَجَ يَوْماً فَقَامَ، حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ فَرَأَى رَجُلاً بَادِياً صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِّ، فَقَالَ: «عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» رواه مسلم.
وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: «أَقِيمُوا صُفُوفَكُمْ، وَتَرَاصُّوا، فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» رواه البخاري.
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْمُقَدَّمَ، فَإِنْ كَانَ نُقْصَانٌ فليكن في المؤخرة» رواه ابن حبان بسند صحيح.
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟» فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: «يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ» رواه مسلم.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: «مَنْ وَصَلَ صَفّاً وَصَلَهُ اللَّهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفّاً قَطَعَهُ اللَّهُ» رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط مسلم.
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفّاً وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفّاً قَطَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح.
هذه الأدلة تبين الكيفية التي تكون عليها الصفوف في صلاة الجماعة، وهي أدلة تفيد وجوب استقامة الصف وتراصّه، والأدلة السابقة تضمنت قرائن تفيد الوجوب، فاستواء الصفوف «مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاَةِ» في رواية البخاري، و«مِنْ تَمَامِ الصَّلَاةِ» في رواية مسلم، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الصفوف والمحاذاة بين المناكب وهذا يفيد استقامة الصفوف، ثم أمر بسد الخلل ووصف الخلل بفرجات الشيطان، ثم أكد على وجوب وصل الصف وعدم التباعد بقوله «وَمَنْ وَصَلَ صَفّاً وَصَلَهُ اللهُ» ثم قال «وَمَنْ قَطَعَ صَفّاً قَطَعَهُ اللَّهُ» وهذا زجر شديد عن قطع الصفوف، فهذه قرينة جازمة، وقوله صلى الله عليه وسلم «عِبَادَ اللهِ لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ، أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ» تضمّن قسماً وتوكيداً، وهذا من أقوى صيغ التوكيد وهذه قرينة أخرى تفيد وجوب تسوية الصفوف، فدخول لام القسم على الفعل المضارع مع نون التوكيد المشددة تفيد التأكيد، ثم جاء جواب القسم مؤكداً العقوبة على مخالفة ما جاء في القسم؛ وبناء على هذه الأدلة والقرائن التي تضمنتها لا تجوز إقامة صلاة الجماعة والصفوف مخلخلة، روى مالك في الموطأ والبيهقي في السنن الكبرى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ "يَأْمُرُ بِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ، فَإِذَا جَاءُوهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنْ قَدِ اسْتَوَتْ، كَبَّرَ"، ولم نقف على دليل واحد يجيز إقامة صلاة الجماعة والصفوف مخلخلة أو غير متراصة.
وفي علم الأصول لا يجوز ترك الواجب إلا لوجود رخصة أو مانع دل الدليل الشرعي عليه سواء أكان مانع طلب وأداء أو مانع طلب فقط، ولم نقف على رخصة شرعية تجيز إقامة صلاة الجماعة بصفوف غير مستوية أو مخلخلة، أما قياس صلاة الجماعة على صلاة المريض، أي اعتبار الوباء رخصة في التباعد مثل المرض الذي هو رخصة في الصلاة جالساً، فهذا القياس عقلي وليس شرعياً وهو قياس من غير علة شرعية، لأن شرط القياس وجود علة تجمع بين الحكم الذي جاء به الدليل والفعل الذي يُراد قياسه عليه، فالمريض يصلي جالساً لسبب وليس لعلة والسبب هو المرض وهذا رخصة، ولا بد من التفريق بين أسباب الرخص القاصرة وعلل الأحكام المتعدية... وقد فرق علماء الأصول بين السبب القاصر والسبب غير القاصر الذي يصلح أن يكون علة، أي فرقوا بين السبب والعلة، فقصر الصلاة رخصة وسببها السفر، فالسفر سبب وليس علة ولذلك لا يقاس عليه، والصلاة جالساً رخصة وسببها المرض، والمرض سبب وليس علة فلا يقاس عليه، هذا أولاً، أما ثانيا: فهو أن القياس يكون بإلحاق فرع بأصل لاشتراكهما في نفس العلة أي اشتراكهما في الحكم والموضوع، ومثاله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ» رواه البخاري، فالقاضي الغضبان والقاضي المضطرب لمصيبة ألمّت به، لا يجوز لهما القضاء لاشتراكهما في وجه التعليل وهو عدم استقرار العقل والذهن، فالموضوع هو القضاء، والحكم هو حرمة القضاء، والعلة الغضب أو شرود الذهن، فعلة الغضب وشرود الذهن موضوعها القضاء، والحكم يدور معها لأنها الباعث عليه، وهذا لا ينطبق مثلاً على من باع أو اشترى وهو غضبان، لأن العلة جاءت في القضاء وليس البيع، فالموضوعان منفصلان، وكذلك صلاة الجماعة وصلاة المريض فهما موضوعان منفصلان، فصلاة الجماعة مسألة ولها حكم خاص بها، وصلاة المريض مسألة أخرى ولها حكم خاص بها ولا يقع بينهما القياس، ويضاف إلى ما سبق أن أسباب الأحكام أو عللها يجب أن يدل عليها الدليل الشرعي، فكل سبب يجب أن يكون عليه دليل، وكل علة كذلك.
الخلاصة: صلاة الجماعة لها صفة مخصوصة لا تجوز مخالفتها وهي واضحة في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الْخَلَلَ، وَلِينُوا بِأَيْدِي إِخْوَانِكُمْ، وَلَا تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، وَمَنْ وَصَلَ صَفّاً وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفّاً قَطَعَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ» رواه أحمد والبيهقي بسند صحيح.
فإقامة صلاة الجماعة على غير هدي النبوة هو نقض لعروة الصلاة، أما موضوع الوباء ومنع تفشيه فيكون عبر وسائل وأساليب بعيدة عن الإحداث في دين الله ما ليس منه، وإن صدقت العزائم فيمكن القيام بما يلزم وإقامة شعائر الله على الوجه الذي شرعه الحق سبحانه وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الختام: إن أحكام الله لا تؤخذ بالأهواء والظنون والشكوك، بل تؤخذ من أدلتها المعتبرة شرعاً مع بذل الوسع في فهمها وفق دلالات اللغة وقواعد الاستدلال الصحيحة، وتحصيل الترجيح وغلبة الظن يكون وفق القرائن وقواعد الترجيح الصحيحة، والأحكام الشرعية لا تؤخذ من المنافقين أو علماء السلاطين، أو المفتونين من الأئمة الذين يتابعون الظالمين، وإنما تؤخذ من العلماء الربانيين والأتقياء المخلصين الذين يقولون الحق ولا يخشون في الله لومة لائم.
وبفضل الله ورحمته كان الوباء على المسلمين قليل الحدة والانتشار، وهذا يوجب شكر الله تعالى على نعمته وفضله ورحمته، ومن شكره القيام بأمره سبحانه وفق ما أمر من غير تحريف أو تبديل، والتقرب إليه بما يرضيه.
فمعظم البلاد في فلسطين لم ينتشر فيها الوباء وهناك مناطق لم تسجل فيها إصابة واحدة، وهذا يوجب إقامة الصلاة على وجهها ووفق ما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما البلدات التي ظهر فيها بعض الإصابات، فهذه يحجر فيها على المصابين وعلى المخالطين لهم الذين هم مظنة العدوى، وتقام الصلوات بالصحاح أو غير المصابين، وهذا هو هدي النبوة الذي جاءت به الأدلة الشرعية... فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لَا عَدْوَى...»، أخرجه البخاري، هناك من يفسره بنفي العدوى... ولكن الأرجح أنه خبر في معنى الطلب أي أن الحرف "لا" للنهي وليس للنفي، وهذا يوجب على المريض بمرض معد أن يحجر نفسه حتى لا ينقل العدوى إلى غيره، وفي هذا المعنى جاء حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «لاَ تُورِدُوا المُمْرِضَ عَلَى المُصِحِّ» أخرجه البخاري.
ومع رفع الإجراءات وفتح المرافق ومنها أماكن اللهو والمتنزهات ما بقي لأحد عذر، ولكن وزير الأوقاف ومن تابعه من المفتونين الذين لا يقيمون وزناً لشعائر الله وحدود الله دعوا إلى هذه البدعة ويريدون حمل الناس عليها، وسبحان الله ترى الناس يجتمعون ويتزاحمون في الأسواق وغيرها، وعند إقامة الصلاة يدعونهم إلى التباعد مخالفين هدي النبوة!
وخاتمة الختام: نوصيكم بتقوى الله العظيم وتحري الحق والصدق مع الله تعالى، ومذكرين بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» رواه مسلم، ونسأل الله تعالى أن يشرح صدور المسلمين لهذا الخير فينقلبوا به من خير إلى خير، وأن يعيننا على إقامة دينه ويعزنا بخلافة راشدة على منهاج النبوة تقيم الدين على خير ما يحب الله ويرضى، وتحمله رسالة خير ورحمة وهدى للناس أجمعين.
8 شوال 1441هـ حزب التحرير
الموافق 30/5/2020م الأرض المباركة فلسطين