الجريمة بين وهم الحضارة والتشريع الديني
رانيا خالد سعيد
في كل يوم تصدر القوانين والتشريعات الصارمة والجادة التي تبدو للوهلة الأولى أنها الأكثر حِدة من سابقتها، بين أنه ورغم كل ذلك لم يتغير الوضع كثيراً. فالجريمة لم تتوقف بل على العكس تماماً فالذي يحدث فقط هو استمرار خرق القانون واستحداث طُرق تجاوزه. مما لا يدع مجالاُ لتفعيله أو مراعاته، وهنا تقف العدالة مُكبلة الأيدي فضلًا عن أنها معصوبة العينين .والباحث في القانون يعلم جيدًا أن وظيفة القانون بدايةً هي تحقيق الردع العام ولكن وكما ذكرنا سابقاً أن تلك الوظيفة لم تحقق غايتها بعد.
فأين هو الردع العام الذي يرجوه فقهاء القانون والقائمين على تنفيذه؟!
اعتياد الأفراد على التعامل مع القانون ورجاله وانخراطهم في دائرة المسائل القانونية على اختلافها، جعلهم يفقدون رهبة الأحكام القانونية لدرجة أنهم يجيدون البحث بداخل القانون عن ثغرات للمرور منها بأقل الخسائر ويقومون بتطويعها وفق مصالحهم الشخصية، وهنا لابد من الإجابة على هذا السؤال:
ما الذي يدفع أحدهم لاحترام القانون بينما يدفع الآخر لخرقه وتجاوزه؟!
ربما نسي العالم أن واضعي القوانين ومُطبقيه بشر يمكن الاحتيال عليهم وشراء ذممهم وهو ما يبرر الفساد المُتفشي في الهيئات القضائية المُكلفة بترسيخ وتنظيم القوانين والإشراف على تنفيذها وكذلك السلطة التنفيذية المُكلفة بتنفيذ تلك القوانين، فإذا كان الشخص المنوط به تطبيق القانون هو نفسه الذي لا يتهاون أبداً في تجاوزه وخرقه فإنه ليس من المنطقي أن يحترمه العامة!
يجيب علماء الاجتماع عن هذا التساؤل بأن: الضمير هو الذي يدفع الفرد لفعل الصواب واجتناب الخطأ وهو الذي يجعله يطمئن لفعل الأشياء أو ينتابه الشك بشأنها.
هناك 600.000 شخص أمريكي يشتركون في تجارة صور الأطفال الإباحية على الإنترنت وتجار هذا النوع من الصور يجنون من 2- 3 مليار دولار تقريباً في إعدادها وبيعها.
إذا بحثنا عن تعريف الضمير كما يخبر عنه علماء الاجتماع فأننا نجد الآتي "الضمير هو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواب. أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل. وهو الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية. وهنا قد يختلف الأمر نتيجة اختلاف البيئة أو النشأة أو مفهوم الأخلاق لدى كل إنسان."
يأخذنا هذا التعريف بشكل مباشر لنقطة هامة وهي "اختلاف النشأة ومفهوم الأخلاق لدى كل إنسان" وهي ما أختتم بها تعريف علماء الاجتماع والتي تجعلنا نفكر بأن هناك مرجعية للضمير هي المؤثر الأول فيه، بمعنى آخر أن الضمير هو نِتاج مرجعية ومؤثرات معينة يختلف باختلافها.
ماذا لو كانت تلك المرجعية دينية؟ أي أن الضمير الإنساني نشأ مُتأثرًا بتشريعات سماوية؟!
إذًا فنحنُ بصدد الحديث عن الوازع الديني لأن بعض ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺤﺎﻭﻝ ﻣﻨﻊ ﺍﻧﺼﻬﺎﺭ ﺍﻷﺩﻳﺎﻥ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﻭﺗﺤﺎﻭﻝ أيضاً اﺑﻌﺎﺩﻫﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻼﺣﻆ ﺃﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻫﻲ ﺍلأﻛﺜﺮ ﺷﻜﻮى ﻣﻦ ﺍﻻﻧﻔﻼﺕ ﺍﻷﺧﻼﻗﻲ ﻭﻛﺜﺮﺓ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﺃﻥ ﺍﻷﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭﺓ على ﺿﺒﻂ ﺍﻟﺴﻠﻮﻙ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻭﻫﻲ ﺃفضل ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻤُﺘﺒﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻮﺿﻌﻴﺔ.
مُراجعة سريعة للدول دُعاة الحرية، نجد الولايات المُتحدة الأمريكية في مُقدمة الدول التي تُنادي بحرية الاعتقاد والفكر وأهمية فصل الدين عن الدولة ككل، وحصرهُ في مفاهيم لاهوتيه لا تتم مُمارستها خارج دور العبادة ومن المفارقات أيضاً أنها في مُقدمة مُعدلات الجريمة العالمية فهي الأولى عالمياً في انتشار الجرائم الجنسية فمثلاً وِفق احصائيات قدمتها جامعة العدل الجنائية الأمريكية هناك أكثر من 100.000 حالة اغتصاب تحدث في أمريكا في كل عام وهذه هي النسبة الأكبر في العالم ويقدر المسئولون في الشرطة الأمريكية بأن هناك 600.000 شخص أمريكي يشتركون في تجارة صور الأطفال الإباحية على الإنترنت وتجار هذا النوع من الصور يجنون من 2- 3 مليار دولار تقريباً في إعدادها وبيعها.
من بين كل 4 فتيات أمريكيات هناك فتاة واحدة تم استغلالها جنسياً قبل بلوغ سن الـ 18 فيما تبلغ هذه النسبة بين الذكور فتى واحد من بين كل 6 فتيان. وِفق الإحصائيات التي أجري عام 2006 فإن هناك 42 مليون شخص أمريكي قد تم استغلالهم في مرحلة الطفولة فضلاً عن أن أمريكا هي الأولى عالمياً في معدلات الطلاق والأولى في انتشار الأمراض الجنسية وتعاطي المخدرات وحالات الإجهاض وغيرها الكثير من الجرائم الجنائية والأخلاقية وقد حاول العديد من العلماء أمثال "لمبروزو وفيري وتارد" دراسة تأثير الدين على ظاهرة الجريمة بعدما لاحظوا ذلك في أبحاثهم.
اعلان
اكتشفوا أن قوة القانون وحدها لا تستطيع أن ترى كل جريمة ولا أن تتعقب كل مجرم وسيفلت منها الكثيرين بلا إثبات أو عقاب وأن الوازع الديني هو المُحرك النفسي الذي يدفع الإنسان إلى ترجمة الأحكام الدينية إلى سلوكيات ملموسة، لأنه يكفل للحكم الشرعي أو النص القانوني مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته بل يُحدث في النفس رهبة من الجريمة أقوى من رهبة الدولة أو القانون الذي يجعل الإنسان يغفل عن رقابة السماء ويركن إلى رقابة القانون وثغراته فضلاً عن رجاله الذين باتوا أول من يطأ القانون بقدميه لأنهُ يربط الثواب والعقاب بالآخرة حيث صورتها الأبدية في الأذهان.
هَنا يذكرني الحديث بقول الشاعر محمد إقبال:
إذَا الإيمانُ ضاعَ فلاَ أمانُ، ولاَ دُنياَ لِمنْ لمْ يُحيِّ دينَا..
ومَنْ رَضيَ الحياةَ بغيرِ دينٍ، فقدْ جعلَ الفناءَ لها قَرينَا..
فإلى متى سيظل العالم يُراوغ إحساسه بالفشل بعد كُلِ مُحاولاته التنصل من الدين؟!
رانيا خالد سعيد
في كل يوم تصدر القوانين والتشريعات الصارمة والجادة التي تبدو للوهلة الأولى أنها الأكثر حِدة من سابقتها، بين أنه ورغم كل ذلك لم يتغير الوضع كثيراً. فالجريمة لم تتوقف بل على العكس تماماً فالذي يحدث فقط هو استمرار خرق القانون واستحداث طُرق تجاوزه. مما لا يدع مجالاُ لتفعيله أو مراعاته، وهنا تقف العدالة مُكبلة الأيدي فضلًا عن أنها معصوبة العينين .والباحث في القانون يعلم جيدًا أن وظيفة القانون بدايةً هي تحقيق الردع العام ولكن وكما ذكرنا سابقاً أن تلك الوظيفة لم تحقق غايتها بعد.
فأين هو الردع العام الذي يرجوه فقهاء القانون والقائمين على تنفيذه؟!
اعتياد الأفراد على التعامل مع القانون ورجاله وانخراطهم في دائرة المسائل القانونية على اختلافها، جعلهم يفقدون رهبة الأحكام القانونية لدرجة أنهم يجيدون البحث بداخل القانون عن ثغرات للمرور منها بأقل الخسائر ويقومون بتطويعها وفق مصالحهم الشخصية، وهنا لابد من الإجابة على هذا السؤال:
ما الذي يدفع أحدهم لاحترام القانون بينما يدفع الآخر لخرقه وتجاوزه؟!
ربما نسي العالم أن واضعي القوانين ومُطبقيه بشر يمكن الاحتيال عليهم وشراء ذممهم وهو ما يبرر الفساد المُتفشي في الهيئات القضائية المُكلفة بترسيخ وتنظيم القوانين والإشراف على تنفيذها وكذلك السلطة التنفيذية المُكلفة بتنفيذ تلك القوانين، فإذا كان الشخص المنوط به تطبيق القانون هو نفسه الذي لا يتهاون أبداً في تجاوزه وخرقه فإنه ليس من المنطقي أن يحترمه العامة!
يجيب علماء الاجتماع عن هذا التساؤل بأن: الضمير هو الذي يدفع الفرد لفعل الصواب واجتناب الخطأ وهو الذي يجعله يطمئن لفعل الأشياء أو ينتابه الشك بشأنها.
هناك 600.000 شخص أمريكي يشتركون في تجارة صور الأطفال الإباحية على الإنترنت وتجار هذا النوع من الصور يجنون من 2- 3 مليار دولار تقريباً في إعدادها وبيعها.
إذا بحثنا عن تعريف الضمير كما يخبر عنه علماء الاجتماع فأننا نجد الآتي "الضمير هو قدرة الإنسان على التمييز فيما إذا كان عمل ما خطأ أم صواب. أو التمييز بين ما هو حق وما هو باطل. وهو الشعور بالندم عندما تتعارض الأشياء التي يفعلها الفرد مع قيمه الأخلاقية، وإلى الشعور بالاستقامة عندما تتفق الأفعال مع القيم الأخلاقية. وهنا قد يختلف الأمر نتيجة اختلاف البيئة أو النشأة أو مفهوم الأخلاق لدى كل إنسان."
يأخذنا هذا التعريف بشكل مباشر لنقطة هامة وهي "اختلاف النشأة ومفهوم الأخلاق لدى كل إنسان" وهي ما أختتم بها تعريف علماء الاجتماع والتي تجعلنا نفكر بأن هناك مرجعية للضمير هي المؤثر الأول فيه، بمعنى آخر أن الضمير هو نِتاج مرجعية ومؤثرات معينة يختلف باختلافها.
ماذا لو كانت تلك المرجعية دينية؟ أي أن الضمير الإنساني نشأ مُتأثرًا بتشريعات سماوية؟!
إذًا فنحنُ بصدد الحديث عن الوازع الديني لأن بعض ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﺗﺤﺎﻭﻝ ﻣﻨﻊ ﺍﻧﺼﻬﺎﺭ ﺍﻷﺩﻳﺎﻥ ﻓﻲ ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﻭﺗﺤﺎﻭﻝ أيضاً اﺑﻌﺎﺩﻫﺎ ﻋﻦ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻌﺎﻣﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺪﻭﻟﺔ ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻼﺣﻆ ﺃﻥ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻫﻲ ﺍلأﻛﺜﺮ ﺷﻜﻮى ﻣﻦ ﺍﻻﻧﻔﻼﺕ ﺍﻷﺧﻼﻗﻲ ﻭﻛﺜﺮﺓ ﺍﻟﺠﺮﺍﺋﻢ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﺃﻥ ﺍﻷﺩﻳﺎﻥ ﺍﻟﺴﻤﺎﻭﻳﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﺍﻟﻘﺎﺩﺭﺓ على ﺿﺒﻂ ﺍﻟﺴﻠﻮﻙ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎﺕ ﻭﻫﻲ ﺃفضل ﻣﻦ ﺍﻟﻨﻈﺎﻡ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﺍﻟﻤُﺘﺒﻊ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﻮﺍﻧﻴﻦ ﺍﻟﻮﺿﻌﻴﺔ.
مُراجعة سريعة للدول دُعاة الحرية، نجد الولايات المُتحدة الأمريكية في مُقدمة الدول التي تُنادي بحرية الاعتقاد والفكر وأهمية فصل الدين عن الدولة ككل، وحصرهُ في مفاهيم لاهوتيه لا تتم مُمارستها خارج دور العبادة ومن المفارقات أيضاً أنها في مُقدمة مُعدلات الجريمة العالمية فهي الأولى عالمياً في انتشار الجرائم الجنسية فمثلاً وِفق احصائيات قدمتها جامعة العدل الجنائية الأمريكية هناك أكثر من 100.000 حالة اغتصاب تحدث في أمريكا في كل عام وهذه هي النسبة الأكبر في العالم ويقدر المسئولون في الشرطة الأمريكية بأن هناك 600.000 شخص أمريكي يشتركون في تجارة صور الأطفال الإباحية على الإنترنت وتجار هذا النوع من الصور يجنون من 2- 3 مليار دولار تقريباً في إعدادها وبيعها.
من بين كل 4 فتيات أمريكيات هناك فتاة واحدة تم استغلالها جنسياً قبل بلوغ سن الـ 18 فيما تبلغ هذه النسبة بين الذكور فتى واحد من بين كل 6 فتيان. وِفق الإحصائيات التي أجري عام 2006 فإن هناك 42 مليون شخص أمريكي قد تم استغلالهم في مرحلة الطفولة فضلاً عن أن أمريكا هي الأولى عالمياً في معدلات الطلاق والأولى في انتشار الأمراض الجنسية وتعاطي المخدرات وحالات الإجهاض وغيرها الكثير من الجرائم الجنائية والأخلاقية وقد حاول العديد من العلماء أمثال "لمبروزو وفيري وتارد" دراسة تأثير الدين على ظاهرة الجريمة بعدما لاحظوا ذلك في أبحاثهم.
اعلان
اكتشفوا أن قوة القانون وحدها لا تستطيع أن ترى كل جريمة ولا أن تتعقب كل مجرم وسيفلت منها الكثيرين بلا إثبات أو عقاب وأن الوازع الديني هو المُحرك النفسي الذي يدفع الإنسان إلى ترجمة الأحكام الدينية إلى سلوكيات ملموسة، لأنه يكفل للحكم الشرعي أو النص القانوني مهابته في النفوس ويمنع انتهاك حرماته بل يُحدث في النفس رهبة من الجريمة أقوى من رهبة الدولة أو القانون الذي يجعل الإنسان يغفل عن رقابة السماء ويركن إلى رقابة القانون وثغراته فضلاً عن رجاله الذين باتوا أول من يطأ القانون بقدميه لأنهُ يربط الثواب والعقاب بالآخرة حيث صورتها الأبدية في الأذهان.
هَنا يذكرني الحديث بقول الشاعر محمد إقبال:
إذَا الإيمانُ ضاعَ فلاَ أمانُ، ولاَ دُنياَ لِمنْ لمْ يُحيِّ دينَا..
ومَنْ رَضيَ الحياةَ بغيرِ دينٍ، فقدْ جعلَ الفناءَ لها قَرينَا..
فإلى متى سيظل العالم يُراوغ إحساسه بالفشل بعد كُلِ مُحاولاته التنصل من الدين؟!