رأسمالية القرن الواحد والعشرين، على ضوء أزمة 2008 و أزمة "كوفيد 19"
الطاهر المعز
تعتمد الإمبريالية الأمريكية، وهي لا تزال الإمبريالية الأقوى، في هيمنتها على مجموعة أدوات مثل الدّولار، والهيمنة على عمليات التحويلات المالية الدّولية، وعلى مؤسسات "بريتن وودز"، وخاصّة على القوة العسكرية الأمريكية التي تفوق مجموع قوة الدّول الأخرى، بالإضافة إلى قوة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتمتلك الولايات المتحدة نحو ثمانمائة قاعدة عسكرية، منتشرة في أنحاء العالم...
بدأ انحدار قُوّة الإمبريالية الأمريكية محسوسًا، في بداية القرن الحادي والعشرين، وعزّزته تقارير المؤسسات المالية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، التي تُظْهِرُ بعض مؤشّرات الإنْحِدار، مثل تضييق الفجوة بين حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي ونظيره الصّيني، وَوَرَدَ في تقرير صندوق النقد الدّولي "آفاق الإقتصاد العالمي للعام 2020" ارتفاع حجم اقتصاد الصين (أي الناتج المحلي الإجمالي) إلى 24,2 تريليون دولارا، مقارنة بالإقتصاد الأمريكي الذي يبلغ حجمه 20,8 تريليون دولارا، وما هذا سوى مؤشر من مجموعة مؤشرات لقياس حجم اقتصاد الدّول، بمعيار "تعادل القُوّة الشرائية"، طورته وكالة الإستخبارات الأمريكية (التي تنشر تقويمًا سنويا لاقتصاد دول العالم) وصندوق النقد الدّولي، والذي لا يُراعي فُرُوق مستويات الأسعار بين الدّول، ويُخفض من الحجم الحقيقي لإنتاج الصين، ويعتبر صندوق النقد الدّولي "إن الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة هو الأساس الذي تقوم عليه مكانتها الإقتصادية بين دول العالم"، لكن ما هو سوى مؤشّر من مجموعة مُؤشرات أخرى، لأن ارتفاع حجم الناتج المحلي الإجمالي لا يعني ارتفاع مستوى عيش العاملين والمُنْتِجين، والمواطنين عمومًا، كما أن العديد من الشركات الأجنبية افتتحت مصانع بالصّين، وتُصدّر إنتاجها (أو الجُزْءَ الأكبر منه) إلى الخارج، حيث أصبحت الصين ورشة التصنيع في العالم، ويُسجل هذا الإنتاج في الناتج المحلي الصيني.
تتخوف حكومات الولايات المتحدة من تطور مؤشرات أخرى، مثل ارتفاع الإنفاق الصيني على البحث العلمي والتّطوير، الذي يفوق إنفاق الولايات المتحدة، سنة 2020، وزيادة الإنفاق الصيني على تطوير المُعدّات العسكرية، لكن الإنفاق العسكري الأمريكي يفوق الإنفاق الصيني بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف، كما أن الإقتصاد الصيني سوف يكون الإقتصاد الوحيد، ضمن الدّول الكبرى، الذي يُسجل (سنة 2020) نموًّا إيجابيّا...
من جهة أخرى، يشكو الإقتصاد الصيني من عدة نقاط ضُعف، من بينها اعتماد الصناعات الدّقيقة الصينية على الإنتاج الأمريكي، الذي لا يُسْمَحُ بنقل مختبراته ومكاتب دراساته وكل إنتاج ارتفعت قيمته الزائدة إلى خارج الولايات المتحدة، فيما تصنع الشركات الأمريكية جزءًا هامّا من إنتاجها في الصّين، لكن الولايات المتحدة تتحكم بأهم تقنيات المعالجات الدّقيقة، مثل برامج وأنظمة التّسْيِير، ومكونات أجهزة الإتصالات الحديثة والحواسيب والهواتف المحمولة ومكونات الطّائرات، ومعظم أنظمة التشغيل وقواعد البيانات التي تستخدمها الشركات والمؤسسات العمومية والخاصّة، وتتحكم الولايات المتحدة في خوادم "النّطاق الأعلى" للشبكة الإلكترونية، ما يمكنها من مراقبة الشبكة، وإمكانية تعطيل أو حجب الإتصالات...
عمومًا، لا تزال الولايات المتحدة قوة صناعية وعلمية وتكنولوجية كُبْرى، تتحكم بقطاع المعلومات، وبأهم القطاعات الإستراتيجية الأخرى، ضمن التقسيم العالمي للعمل، ورغم نقل (أو ترحيل) العديد من الصناعات إلى مناطق أخرى، من أجل خفض تكاليف الإنتاج، ظّلّت الولايات المتحدة ثالث أكبر منتج عالمي للسّلع والخدمات، بعد الصين والاتحاد الأوروبي ، ولا تزال الولايات المتحدة تسيطر على صناعات الفضاء والطيران، والأجهزة الكهربائية، والمعدات الطبية والإتصالات، وتستخدم الشركات الأمريكية العدد الهائل من المساجين (تمتلك أمريكا الرقم القياسي العالمي، مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان) لتصنيع العديد من التجهيزات، وتُخصّص الشركات الأمريكية والدولة الإتحادية حوالي 11% من عائداتها للإنفاق على البحث والتطوير، لتبقى أمريكا رائدة في مجال التكنولوجيا العالية، أو الدّقيقة، بينما تتخصّص دول أخرى بالبحث والتطوير في قطاعات "التكنولوجيا المتوسطة"، والتعاقد من الباطن مع الشركات الأمريكية، ضمن التقسيم الدولي للعمل...
الدّيْن الأمريكي:
يشكل ارتفاع قيمة الدُّيُون أحد نقاط ضُعْف الإقتصاد الأمريكي، ففي حزيران/يونيو 2020، بلغ الدّين العام للولايات المتحدة 26,5 تريليون دولارا، ويقدّر عجز الميزانية الأمريكية لسنة 2020، بنحو 3,3 تريليونات دولارا، أو ما نسبته 16% من الناتج المحلي الإجمالي، وقدّرت وزارة الخزانة الأمريكية قيمة الدّيْن العام الأمريكي بنحو 98% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020، وبنحو 104% سنة 2021 ونحو 110% سنة 2030، لكن وضع الهيمنة الذي تتمتع به الإمبريالية الأمريكية يتيح لها تمويل هذا العجز الضّخم دون صعوبة، عبر خفض قيمة الدّولار، مقابل اليورو الأوروبي، واليوان الصيني، وغيرها من العملات، بنسبة 9% بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2020، ويتوقع أن تنخفض قيمة الدّولار بنسبة 35% سنة 2021، مع محاولة إغراء المُستثمرين والمُضاربين الآسيويين والأوروبيين واجتذابهم لإيداع أموالهم بالمصارف أو السندات وأوراق الخزينة الأمريكية، بدل الهجرة إلى أوروبا أو إلى اقتصادات الدول الموصوفة بالنّاشئة، وذلك عبر رفع أسعار الفائدة طويلة الأجل...
من جهة أخرى يستحوذ الاحتياطي الإتحادي (المصرف المركزي الأمريكي) على نحو 2,3 تريليون دولار من أذون الخزانة الأمريكية ويمكنه تعويض هجرة المُستثمرين الأجانب، في حال نزوحهم عن الولايات المتحدة، وذلك بفضل الإيرادات الشهرية للإحتياطي الإتحادي، والتي تُقدّر بنحو خمسمائة مليار دولارا شهريا، يمكن ضخّها لتمويل عجز الميزانية الأمريكية...
أفاق الإقتصاد العالمي:
ينشر صندوق النقد الدّولي تقريرَيْن سنويَّيْن عن "آفاق الإقتصاد العالمي"، ونُشرَ الأول بنهاية شهر آذار/مارس 2020، بالإضافة إلى تقرير تكميلي، نُشر في حزيران/يونيو 2020، ونُشرَ التقرير الثاني يوم 13 تشرين الأول/اكتوبر 2020، وتوقّعَ مُعِدُّو التقرير "انتعاشًا اقتصاديًّا عالميًّا طويلاً وعسيرًا، وغير منتظم، وغير مُؤكّد"، ما يعني أن "خُبراء" صندوق النقد الدّولي غير قادرين على بناء توقعات جِدّيّة، رغم الحجم الهائل من البيانات التي تمتلكها الصندوق، وهي بيانات شاملة عن اقتصاد كافة بلدان العالم، لكنهم يُؤكّدون أن جُذور هذا الإنتعاش "غير المُؤَكّد" تكمن في الحجم الهائل من المال العام الذي ضخّته حكومات الدّول الغنية (الرأسمالية المتطورة) للحفاظ على مستوى السُّيُولة لدى الشركات الكبرى، بشكل مماثل تقريبًا لما فعلته هذه الحكومات خلال أزمة 2008/2009، لكن الدول الفقيرة، والمُثْقَلَة بالدّيون لا تستطيع اتخاذ مثل هذا القرار وتنفيذه، لأنها لا تمتلك القدر الكافي من السيولة، بل إن ميزانية العديد من الدّول الإفريقية تُدَارُ من قِبل المصرف المركزي الفرنسي (دول الفرنك الإفريقي أو إيكو )، ثم إن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي يشترطان على الدّول المُستدينة إلغاء دعم الإقتصاد والسّلع والخدمات، وظهرت النتائج السلبية لتطبيق مثل هذه الشروط منذ النصف الثاني لعقد سبعينيات القرن العشرين، من خلال احتجاجات المواطنين في تونس ومصر والمغرب والأردن، وفي العديد من بلدان العالم، وظهرت الآثار السلبية المُدَمِّرَة لخصخصة قطاع الصّحة العمومية، سواء في الإقتصادات الرأسمالية المتقدمة (أمريكا الشمالية وأوروبا) أو في بلدان "الجنوب"، أثناء انتشار وباء الفيروس التاجي "كوفيد 19"، إذ عجز قطاع الصحة على مجابهة انتشار الوباء، الذي استغلّته الحكومات لاتخاذ مزيد من القرارات الفَوقِيّة، وإجراءات القمع، وإقرار حالة الطوارئ والحبس المنزلي، دون توفير أسباب الوقاية ودون توفير الضروريات اليومية للمواطنين، وللفُقراء منهم بشكل خاص، أي أن الرأسمالية لا تعني الديمقراطية، بل أنتجت في الماضي الفاشية والنّازية، ونَوّهَ صندوق النّقد الدّولي ب"الإدارة الحكيمة والنّاجعة" لاقتصاد "تشيلي" في ظل الدّكتاتورية العسكرية، كما أصدر الصندوق تقارير تُشيد باقتصاد المغرب وتونس والأردن وغيرها من الإقتصادات التابعة والمُنهارة، بفعل تطبيق شُرُوط الصّندوق، وبفعل اعتماد هذه البلدان الإقتراض من الخارج، وعلى قطاعات واهية مثل تصدير المواد الخام والإنتاج الزراعي الخام، وقطاعات هَشّة ومُهينَة لكرامة المواطنين، مثل السياحة، وتظاهر المواطنون وانتفضوا ضد هذه الإجراءات التي أَضرّت بهم وبمستقبل أبنائهم وأحفادهم...
قَدّرَ صندوق النقد الدّولي الخسارة التراكمية للناتج المحلي الإجمالي العالمي للفترة 2020-2025 بنحو 28 تريليون دولارا، منها 11 تريليون دولارا للفترة 2020 – 2021، واعتبر ذلك "نكسة خطيرة لتحسين مستوى المعيشة" في جميع البلدان، لكن سوف تتحمل بلدان وشعوب "الجنوب" القسط الأكبر من هذه "النّكسة" (بتعبير خبراء الصندوق)، وسوف تعَمِّقُ أزمة الفيروس التّاجي (كوفيد 19) الفجوة بين الطّبقات، وبين البلدان، وترفع مستوى عدم المساواة ومستوى الفقر، بسبب التخريب الذي تعرض له قطاع الصحة العمومية، ويرتفع كذلك مستوى نهب الشركات الإحتكارية والدول الرأسمالية المتقدّمة، لثروات ولجُهْد العاملين والمواطنين بالدّول الفقيرة، لتتمكّن الدّول الرأسمالية المتطورة من تحقيق فائض يمكنها من تجاوز الأزمة، ومن ضخ مزيد من السيولة لدعْم شركاتها...
أما بخصوص الإقتصاد الصيني فإن تطور الرأسمالية اعتمد - في بعض جوانبه – أشكالاً مُغايرة للتطور الرأسمالي في أوروبا والولايات المتحدة واليابان، وبقيت الدّولة، وحزبها الذي حافظ على وصف نفسه ب "الشيوعي"، تُدير وتُشرف على تصميم وإعداد المخططات الإقتصادية وعلى تنفيذها، وهو أمر لا يناقض التطور الرأسمالي للإقتصاد، ولا يعني أن الإقتصاد "اشتراكي"، فقد تكثّف الإستغلال الطبقي للعاملين، سواء من قبل الشركات المحلية، أو الأجنبية، رغم ارتفاع الأجور خلال العقد الأخير، لأن النظام الصيني استخلص الدّروس من أزمة 2008/2009، فرَفَع الرواتب، بهدف تنمية الإقتصاد عبر تحفيز الإستهلاك الدّاخلي، بدَلَ الإعتماد الكبير على التّصدير (الذي تباطأ بفعل الأزمة)، وتوسّعت الفوارق الطبقية داخل الصّين، منذ ثلاثة عقود، لكن الهُوّة لم تبلغ ما وصلته الولايات المتحدة وأوروبا، كما أن الشركات الصينية تستغل ثروات البلدان الفقيرة، مقابل الإستثمار في البنية التحتية، لكنها تُغرق الأسواق المحلية بالمنتجات الصينية الرخيصة والرّديئة، التي قضَت على العديد من الحرف والمهن التقليدية في إفريقيا، وعلى الإنتاج المحلي للمنسوجات والملابس القُطْنِيّة، على سبيل المثال، ولهذه الأسباب، ورغم خصوصية تطوره، يعْسُر وَصْف الإقتصاد الصيني بأنه ليس رأسماليا...
خاتمة:
دعت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي (كريستالينا جورجيفا ) إلى "تمكين جميع البلدان من الإستفادة من جميع الابتكارات والاختبارات والعلاجات واللقاحات، وتحديد أسعار معقولة، وحثّت الحكومات على مساعدة الفئات الأكثر ضعفاً، وعلى زيادة الإستثمار العام من خلال والتركيز على المشاريع الخضراء، وخلق فُرص العمل..."
تُناقض هذه التصريحات قواعد عمل صندوق النقد الدّولي الذي تهدف شروطه القاسية، عند الموافقة على القُروض، خفض الإنفاق الحكومي، وخصخصة القطاع العام، وإلغاء أي دعم للسلع والخدمات، وخفض عدد الموظفين، وغير ذلك من الشروط التي تُناقض تمامًا هذه "الدّعوة الظّرْفِيّة"، التي أُعِدّت لهذه المناسبة فقط، ليقع الحث على تنفيذ نقيضها في الواقع، ورفض الصندوق إلغاء ديون البلدان الأكثر فقرًا، والتي سدّدت أضعاف المبالغ التي اقترضتها...
إن الأزمات تُضعف الرأسمالية، لكنها لا تقتلها، ولا زالت حكومات دول "المركز" (التي تمثل الفئات البرجوازية الأكثر قُوّة ) تحل الأزمات بالمزيد من استغلال الطبقات الكادحة، ومن نهب ثروات بلدان "الأطراف" (أو "المُحيط")، ولذلك لن تسقط الرأسمالية من تلقاء نفسها أو بفعل الأزمات الدورية أو الأزمة الهيكلية، لذلك لا خلاص للكادحين وللشعوب المُضْطَهَدَة دون نضال مستمر جماعي ومنظم، بهدف إرساء نظام نقيض للرأسمالية، ليحل مبدأ التوزيع العادل للثروات بديلا عن احتكارها، ومبدأ الإنتاج من أجل تلبية حاجة المواطنين بديلا عن الإنتاج من أجل الإحتكار، أو التصدير...
إن هدف الثوريين ليس إصلاح الرأسمالية أو "دَمَقْرَطَتِها"، أو تقويم ما يعتبره البعض "تجاوزات"، فالرأسمالية قائمة على استغلال قُوّة العمل (في الدّاخل والخارج)، بل الهدف هو القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي، وعلى أُسُسِه المبنية على استغلال الطبقات الكادحة، وعلى اضطهاد الشعوب ونهب ثرواتها، واستبداله بنظام يمكّن المنتجين من التّحكّم في عملية الإنتاج ومن توزيع الإنتاج بعدالة على المواطنين، مع الإستعداد للدّفاع عن مكتسبات الكادحين والمجتمع، سواء كان العدو داخليا أو خارجيا، وهما يتعاونان معًا، في العادة، أما بديل الكادحين فهو الإتحاد مع نُظرائهم في جميع أنحاء العالم...
الطاهر المعز
تعتمد الإمبريالية الأمريكية، وهي لا تزال الإمبريالية الأقوى، في هيمنتها على مجموعة أدوات مثل الدّولار، والهيمنة على عمليات التحويلات المالية الدّولية، وعلى مؤسسات "بريتن وودز"، وخاصّة على القوة العسكرية الأمريكية التي تفوق مجموع قوة الدّول الأخرى، بالإضافة إلى قوة حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وتمتلك الولايات المتحدة نحو ثمانمائة قاعدة عسكرية، منتشرة في أنحاء العالم...
بدأ انحدار قُوّة الإمبريالية الأمريكية محسوسًا، في بداية القرن الحادي والعشرين، وعزّزته تقارير المؤسسات المالية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، مثل البنك العالمي وصندوق النقد الدّولي، التي تُظْهِرُ بعض مؤشّرات الإنْحِدار، مثل تضييق الفجوة بين حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي ونظيره الصّيني، وَوَرَدَ في تقرير صندوق النقد الدّولي "آفاق الإقتصاد العالمي للعام 2020" ارتفاع حجم اقتصاد الصين (أي الناتج المحلي الإجمالي) إلى 24,2 تريليون دولارا، مقارنة بالإقتصاد الأمريكي الذي يبلغ حجمه 20,8 تريليون دولارا، وما هذا سوى مؤشر من مجموعة مؤشرات لقياس حجم اقتصاد الدّول، بمعيار "تعادل القُوّة الشرائية"، طورته وكالة الإستخبارات الأمريكية (التي تنشر تقويمًا سنويا لاقتصاد دول العالم) وصندوق النقد الدّولي، والذي لا يُراعي فُرُوق مستويات الأسعار بين الدّول، ويُخفض من الحجم الحقيقي لإنتاج الصين، ويعتبر صندوق النقد الدّولي "إن الناتج المحلي الإجمالي لأي دولة هو الأساس الذي تقوم عليه مكانتها الإقتصادية بين دول العالم"، لكن ما هو سوى مؤشّر من مجموعة مُؤشرات أخرى، لأن ارتفاع حجم الناتج المحلي الإجمالي لا يعني ارتفاع مستوى عيش العاملين والمُنْتِجين، والمواطنين عمومًا، كما أن العديد من الشركات الأجنبية افتتحت مصانع بالصّين، وتُصدّر إنتاجها (أو الجُزْءَ الأكبر منه) إلى الخارج، حيث أصبحت الصين ورشة التصنيع في العالم، ويُسجل هذا الإنتاج في الناتج المحلي الصيني.
تتخوف حكومات الولايات المتحدة من تطور مؤشرات أخرى، مثل ارتفاع الإنفاق الصيني على البحث العلمي والتّطوير، الذي يفوق إنفاق الولايات المتحدة، سنة 2020، وزيادة الإنفاق الصيني على تطوير المُعدّات العسكرية، لكن الإنفاق العسكري الأمريكي يفوق الإنفاق الصيني بما لا يقل عن ثلاثة أضعاف، كما أن الإقتصاد الصيني سوف يكون الإقتصاد الوحيد، ضمن الدّول الكبرى، الذي يُسجل (سنة 2020) نموًّا إيجابيّا...
من جهة أخرى، يشكو الإقتصاد الصيني من عدة نقاط ضُعف، من بينها اعتماد الصناعات الدّقيقة الصينية على الإنتاج الأمريكي، الذي لا يُسْمَحُ بنقل مختبراته ومكاتب دراساته وكل إنتاج ارتفعت قيمته الزائدة إلى خارج الولايات المتحدة، فيما تصنع الشركات الأمريكية جزءًا هامّا من إنتاجها في الصّين، لكن الولايات المتحدة تتحكم بأهم تقنيات المعالجات الدّقيقة، مثل برامج وأنظمة التّسْيِير، ومكونات أجهزة الإتصالات الحديثة والحواسيب والهواتف المحمولة ومكونات الطّائرات، ومعظم أنظمة التشغيل وقواعد البيانات التي تستخدمها الشركات والمؤسسات العمومية والخاصّة، وتتحكم الولايات المتحدة في خوادم "النّطاق الأعلى" للشبكة الإلكترونية، ما يمكنها من مراقبة الشبكة، وإمكانية تعطيل أو حجب الإتصالات...
عمومًا، لا تزال الولايات المتحدة قوة صناعية وعلمية وتكنولوجية كُبْرى، تتحكم بقطاع المعلومات، وبأهم القطاعات الإستراتيجية الأخرى، ضمن التقسيم العالمي للعمل، ورغم نقل (أو ترحيل) العديد من الصناعات إلى مناطق أخرى، من أجل خفض تكاليف الإنتاج، ظّلّت الولايات المتحدة ثالث أكبر منتج عالمي للسّلع والخدمات، بعد الصين والاتحاد الأوروبي ، ولا تزال الولايات المتحدة تسيطر على صناعات الفضاء والطيران، والأجهزة الكهربائية، والمعدات الطبية والإتصالات، وتستخدم الشركات الأمريكية العدد الهائل من المساجين (تمتلك أمريكا الرقم القياسي العالمي، مقارنة بالعدد الإجمالي للسكان) لتصنيع العديد من التجهيزات، وتُخصّص الشركات الأمريكية والدولة الإتحادية حوالي 11% من عائداتها للإنفاق على البحث والتطوير، لتبقى أمريكا رائدة في مجال التكنولوجيا العالية، أو الدّقيقة، بينما تتخصّص دول أخرى بالبحث والتطوير في قطاعات "التكنولوجيا المتوسطة"، والتعاقد من الباطن مع الشركات الأمريكية، ضمن التقسيم الدولي للعمل...
الدّيْن الأمريكي:
يشكل ارتفاع قيمة الدُّيُون أحد نقاط ضُعْف الإقتصاد الأمريكي، ففي حزيران/يونيو 2020، بلغ الدّين العام للولايات المتحدة 26,5 تريليون دولارا، ويقدّر عجز الميزانية الأمريكية لسنة 2020، بنحو 3,3 تريليونات دولارا، أو ما نسبته 16% من الناتج المحلي الإجمالي، وقدّرت وزارة الخزانة الأمريكية قيمة الدّيْن العام الأمريكي بنحو 98% من الناتج المحلي الإجمالي سنة 2020، وبنحو 104% سنة 2021 ونحو 110% سنة 2030، لكن وضع الهيمنة الذي تتمتع به الإمبريالية الأمريكية يتيح لها تمويل هذا العجز الضّخم دون صعوبة، عبر خفض قيمة الدّولار، مقابل اليورو الأوروبي، واليوان الصيني، وغيرها من العملات، بنسبة 9% بين أيار/مايو وأيلول/سبتمبر 2020، ويتوقع أن تنخفض قيمة الدّولار بنسبة 35% سنة 2021، مع محاولة إغراء المُستثمرين والمُضاربين الآسيويين والأوروبيين واجتذابهم لإيداع أموالهم بالمصارف أو السندات وأوراق الخزينة الأمريكية، بدل الهجرة إلى أوروبا أو إلى اقتصادات الدول الموصوفة بالنّاشئة، وذلك عبر رفع أسعار الفائدة طويلة الأجل...
من جهة أخرى يستحوذ الاحتياطي الإتحادي (المصرف المركزي الأمريكي) على نحو 2,3 تريليون دولار من أذون الخزانة الأمريكية ويمكنه تعويض هجرة المُستثمرين الأجانب، في حال نزوحهم عن الولايات المتحدة، وذلك بفضل الإيرادات الشهرية للإحتياطي الإتحادي، والتي تُقدّر بنحو خمسمائة مليار دولارا شهريا، يمكن ضخّها لتمويل عجز الميزانية الأمريكية...
أفاق الإقتصاد العالمي:
ينشر صندوق النقد الدّولي تقريرَيْن سنويَّيْن عن "آفاق الإقتصاد العالمي"، ونُشرَ الأول بنهاية شهر آذار/مارس 2020، بالإضافة إلى تقرير تكميلي، نُشر في حزيران/يونيو 2020، ونُشرَ التقرير الثاني يوم 13 تشرين الأول/اكتوبر 2020، وتوقّعَ مُعِدُّو التقرير "انتعاشًا اقتصاديًّا عالميًّا طويلاً وعسيرًا، وغير منتظم، وغير مُؤكّد"، ما يعني أن "خُبراء" صندوق النقد الدّولي غير قادرين على بناء توقعات جِدّيّة، رغم الحجم الهائل من البيانات التي تمتلكها الصندوق، وهي بيانات شاملة عن اقتصاد كافة بلدان العالم، لكنهم يُؤكّدون أن جُذور هذا الإنتعاش "غير المُؤَكّد" تكمن في الحجم الهائل من المال العام الذي ضخّته حكومات الدّول الغنية (الرأسمالية المتطورة) للحفاظ على مستوى السُّيُولة لدى الشركات الكبرى، بشكل مماثل تقريبًا لما فعلته هذه الحكومات خلال أزمة 2008/2009، لكن الدول الفقيرة، والمُثْقَلَة بالدّيون لا تستطيع اتخاذ مثل هذا القرار وتنفيذه، لأنها لا تمتلك القدر الكافي من السيولة، بل إن ميزانية العديد من الدّول الإفريقية تُدَارُ من قِبل المصرف المركزي الفرنسي (دول الفرنك الإفريقي أو إيكو )، ثم إن صندوق النقد الدولي والبنك العالمي يشترطان على الدّول المُستدينة إلغاء دعم الإقتصاد والسّلع والخدمات، وظهرت النتائج السلبية لتطبيق مثل هذه الشروط منذ النصف الثاني لعقد سبعينيات القرن العشرين، من خلال احتجاجات المواطنين في تونس ومصر والمغرب والأردن، وفي العديد من بلدان العالم، وظهرت الآثار السلبية المُدَمِّرَة لخصخصة قطاع الصّحة العمومية، سواء في الإقتصادات الرأسمالية المتقدمة (أمريكا الشمالية وأوروبا) أو في بلدان "الجنوب"، أثناء انتشار وباء الفيروس التاجي "كوفيد 19"، إذ عجز قطاع الصحة على مجابهة انتشار الوباء، الذي استغلّته الحكومات لاتخاذ مزيد من القرارات الفَوقِيّة، وإجراءات القمع، وإقرار حالة الطوارئ والحبس المنزلي، دون توفير أسباب الوقاية ودون توفير الضروريات اليومية للمواطنين، وللفُقراء منهم بشكل خاص، أي أن الرأسمالية لا تعني الديمقراطية، بل أنتجت في الماضي الفاشية والنّازية، ونَوّهَ صندوق النّقد الدّولي ب"الإدارة الحكيمة والنّاجعة" لاقتصاد "تشيلي" في ظل الدّكتاتورية العسكرية، كما أصدر الصندوق تقارير تُشيد باقتصاد المغرب وتونس والأردن وغيرها من الإقتصادات التابعة والمُنهارة، بفعل تطبيق شُرُوط الصّندوق، وبفعل اعتماد هذه البلدان الإقتراض من الخارج، وعلى قطاعات واهية مثل تصدير المواد الخام والإنتاج الزراعي الخام، وقطاعات هَشّة ومُهينَة لكرامة المواطنين، مثل السياحة، وتظاهر المواطنون وانتفضوا ضد هذه الإجراءات التي أَضرّت بهم وبمستقبل أبنائهم وأحفادهم...
قَدّرَ صندوق النقد الدّولي الخسارة التراكمية للناتج المحلي الإجمالي العالمي للفترة 2020-2025 بنحو 28 تريليون دولارا، منها 11 تريليون دولارا للفترة 2020 – 2021، واعتبر ذلك "نكسة خطيرة لتحسين مستوى المعيشة" في جميع البلدان، لكن سوف تتحمل بلدان وشعوب "الجنوب" القسط الأكبر من هذه "النّكسة" (بتعبير خبراء الصندوق)، وسوف تعَمِّقُ أزمة الفيروس التّاجي (كوفيد 19) الفجوة بين الطّبقات، وبين البلدان، وترفع مستوى عدم المساواة ومستوى الفقر، بسبب التخريب الذي تعرض له قطاع الصحة العمومية، ويرتفع كذلك مستوى نهب الشركات الإحتكارية والدول الرأسمالية المتقدّمة، لثروات ولجُهْد العاملين والمواطنين بالدّول الفقيرة، لتتمكّن الدّول الرأسمالية المتطورة من تحقيق فائض يمكنها من تجاوز الأزمة، ومن ضخ مزيد من السيولة لدعْم شركاتها...
أما بخصوص الإقتصاد الصيني فإن تطور الرأسمالية اعتمد - في بعض جوانبه – أشكالاً مُغايرة للتطور الرأسمالي في أوروبا والولايات المتحدة واليابان، وبقيت الدّولة، وحزبها الذي حافظ على وصف نفسه ب "الشيوعي"، تُدير وتُشرف على تصميم وإعداد المخططات الإقتصادية وعلى تنفيذها، وهو أمر لا يناقض التطور الرأسمالي للإقتصاد، ولا يعني أن الإقتصاد "اشتراكي"، فقد تكثّف الإستغلال الطبقي للعاملين، سواء من قبل الشركات المحلية، أو الأجنبية، رغم ارتفاع الأجور خلال العقد الأخير، لأن النظام الصيني استخلص الدّروس من أزمة 2008/2009، فرَفَع الرواتب، بهدف تنمية الإقتصاد عبر تحفيز الإستهلاك الدّاخلي، بدَلَ الإعتماد الكبير على التّصدير (الذي تباطأ بفعل الأزمة)، وتوسّعت الفوارق الطبقية داخل الصّين، منذ ثلاثة عقود، لكن الهُوّة لم تبلغ ما وصلته الولايات المتحدة وأوروبا، كما أن الشركات الصينية تستغل ثروات البلدان الفقيرة، مقابل الإستثمار في البنية التحتية، لكنها تُغرق الأسواق المحلية بالمنتجات الصينية الرخيصة والرّديئة، التي قضَت على العديد من الحرف والمهن التقليدية في إفريقيا، وعلى الإنتاج المحلي للمنسوجات والملابس القُطْنِيّة، على سبيل المثال، ولهذه الأسباب، ورغم خصوصية تطوره، يعْسُر وَصْف الإقتصاد الصيني بأنه ليس رأسماليا...
خاتمة:
دعت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي (كريستالينا جورجيفا ) إلى "تمكين جميع البلدان من الإستفادة من جميع الابتكارات والاختبارات والعلاجات واللقاحات، وتحديد أسعار معقولة، وحثّت الحكومات على مساعدة الفئات الأكثر ضعفاً، وعلى زيادة الإستثمار العام من خلال والتركيز على المشاريع الخضراء، وخلق فُرص العمل..."
تُناقض هذه التصريحات قواعد عمل صندوق النقد الدّولي الذي تهدف شروطه القاسية، عند الموافقة على القُروض، خفض الإنفاق الحكومي، وخصخصة القطاع العام، وإلغاء أي دعم للسلع والخدمات، وخفض عدد الموظفين، وغير ذلك من الشروط التي تُناقض تمامًا هذه "الدّعوة الظّرْفِيّة"، التي أُعِدّت لهذه المناسبة فقط، ليقع الحث على تنفيذ نقيضها في الواقع، ورفض الصندوق إلغاء ديون البلدان الأكثر فقرًا، والتي سدّدت أضعاف المبالغ التي اقترضتها...
إن الأزمات تُضعف الرأسمالية، لكنها لا تقتلها، ولا زالت حكومات دول "المركز" (التي تمثل الفئات البرجوازية الأكثر قُوّة ) تحل الأزمات بالمزيد من استغلال الطبقات الكادحة، ومن نهب ثروات بلدان "الأطراف" (أو "المُحيط")، ولذلك لن تسقط الرأسمالية من تلقاء نفسها أو بفعل الأزمات الدورية أو الأزمة الهيكلية، لذلك لا خلاص للكادحين وللشعوب المُضْطَهَدَة دون نضال مستمر جماعي ومنظم، بهدف إرساء نظام نقيض للرأسمالية، ليحل مبدأ التوزيع العادل للثروات بديلا عن احتكارها، ومبدأ الإنتاج من أجل تلبية حاجة المواطنين بديلا عن الإنتاج من أجل الإحتكار، أو التصدير...
إن هدف الثوريين ليس إصلاح الرأسمالية أو "دَمَقْرَطَتِها"، أو تقويم ما يعتبره البعض "تجاوزات"، فالرأسمالية قائمة على استغلال قُوّة العمل (في الدّاخل والخارج)، بل الهدف هو القضاء على نمط الإنتاج الرأسمالي، وعلى أُسُسِه المبنية على استغلال الطبقات الكادحة، وعلى اضطهاد الشعوب ونهب ثرواتها، واستبداله بنظام يمكّن المنتجين من التّحكّم في عملية الإنتاج ومن توزيع الإنتاج بعدالة على المواطنين، مع الإستعداد للدّفاع عن مكتسبات الكادحين والمجتمع، سواء كان العدو داخليا أو خارجيا، وهما يتعاونان معًا، في العادة، أما بديل الكادحين فهو الإتحاد مع نُظرائهم في جميع أنحاء العالم...