ديمقراطية الدماء.. كيف تأسست أميركا على أشلاء السكان الأصليين؟
إسماعيل عرفة
12/5/2018
تتناول وسائل الإعلام القيم الأميركية بكثير من التفاؤل والتمجيد، فتُظهر وسائل الإعلام عادة جاذبية الأمة الأميركية وتبشيرها بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان، ونبذها للعنف والكراهية والتعصب. تتبنى الولايات المتحدة هذه القيم من منطلق تفوقها العالمي، وهو ما تعلق عليه تسيانينا لوماويما، أستاذة التاريخ الأميركي بجامعة أريزونا، أن الولايات المتحدة الأميركية "تؤمن باستثنائيتها، أي بتفوق الأمة الأميركية على أي أمة أخرى، ولكن هذا أمر لا تدعمه الحقائق أو التاريخ"[1]. لكن ماذا لو عدنا بالتاريخ إلى نشأة الولايات المتحدة الأميركية، إلى القرن الخامس عشر الميلادي تحديدا، عندما بدأ الأوروبيون باستكشاف أراضي قارة أميركا الشمالية، لنسأل، ما مدى تطبيق قيم الحرية والعدالة ونبذ العنف على السكان الأصليين للقارة؟ هل التزم الأميركيون فعلا بهذه القيم مع الهنود الحمر أم أنهم خالفوها تماما معهم؟!
الهنود الحمر.. أصل التسمية
جاءت تسمية الهنود الحمر بطريقة عشوائية تماما، ففي عام 1492 خرج كريستوفر كولومبس من إسبانيا متجها إلى الهند في قارة آسيا، لكنه ضل الطريق واستقر مقامه في أميركا الوسطى، هناك قابل كولومبس السكان الأصليين لكنه لم يكن يعرف أنه كان تائها، ومن ثم أطلق عليهم لفظ "الهنود" معتقدا أنه في آسيا وأن هؤلاء هم سكان الهند بالفعل[2].
لم يمضِ وقت طويل حتى أدرك كولومبس أنه ليس في الهند وإنما في أرض "جديدة"، لكن التسمية استمرت كما هي مع إضافة وصف "الحمر" للهنود لميل بشرتهم إلى الحمرة عوضا عن البشرة الداكنة للهند الآسيوية، هذا الإصرار على إعادة تسمية السكان الأصليين وفقا للرؤية أوروبية المركز، وكأن كل ما هو ليس أوروبي فهو آخر تم تعريفه من قِبَل أوروبا سابقا، وهذا يوضح أن الأوروبيين لم يرتكبوا جرائم بحق شعب بأكمله فحسب، بل أعادوا تسميته وتعريفه بالكلية وفقا لرؤية استعمارية بحتة.
كيف نظر الأوروبيون إلى الهنود الحمر؟!
تنوعت رؤية الأوروبيين المحتلين نحو الهنود الحمر، لكنها اتفقت جميعا على تصويرهم وكأنهم كائنات منحطة بالوراثة وأقل منزلة من الإنجليز والإسبان وعموم الأوروبيين، هذه النظرة الدونية يمكن اعتبارها الشرط التمهيدي لتجريد السكان الأصليين للأميركتين من إنسانيتهم وارتكاب المجازر الوحشية ضدهم.
كانت أوصاف الأوروبيين للهنود الحمر تصل إلى درجة أساطير "الزومبي" ومصاصي الدماء، ومثالا لذلك، تخبرنا عالمة الإنسانية مارجريت هدجن أن أول كتاب إنجليزي عن الهنود الحمر نُشر في عام 1511م "وصف الهنود بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها، بل إنهم كانوا يأكلون زوجاتهم وأبناءهم"[3].
وفي السياق نفسه يقول الباحث السوري أحمد دعدوش: "بعد اكتشاف الأوروبيين للقارة الأميركية وبدء حركة الهجرة والاستيطان، اقترنت إبادة الهنود الحمر برؤية توراتية وعلمانية مزدوجة، فسمى المتدينون البيوريتان (إحدى طوائف البروتستانت) أنفسهم عبرانيين، وظنوا أنهم في مهمة مقدسة لتطهير أرض الميعاد من الكنعانيين.. ولم يختلف الأمر كثيرا لدى العلمانيين الذين قدموا لإزاحة "الهمج" عن طريق العقلانية والتنوير"[4].
لوحة فنية للفنان البروسي جون جاست رسمها في عام 1872م وسماها بـ "التقدم الأميركي"، حيث الفتاة الأوروبية الشقراء البيضاء وهي تحمل في إحدى يديها كتابا يرمز إلى التقدم العلمي، وتمسك بأسلاك التليجراف باليد الأخرى في إشارة إلى التقدم التقني، وتتوسط رأسها نجمة السلام والتفوق. تتجه الفتاة قادمة من الشرق الأوروبي المستنير كما في يمين اللوحة إلى السكان الأصليين الهمج البدائيين والظلاميين كما في يسار اللوحة، ورسم جاست السكان الأصليين وهم يهربون مستسلمين أمام الحداثة الأوروبية التقدمية. وقد اُستُخدمت هذه الصورة في إطار دعائي أيديولوجي واسع داخل أوروبا وخارجها للترويج للسياسة الأوروبية الاستعمارية.
يقول منير العكش، الأستاذ بجامعة سفولك الأميركية: "تعتبر قصة الإنجليز الذين أسسوا أول مستعمرة فيما صار يُعرف اليوم في الولايات المتحدة بإنجلترا الجديدة، الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأميركي.. وما يزال كل بيت أميركي يحتفل سنويا في عيد الشكر (Thanksgiving) بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و(خروجهم) من أرضه، و(تيههم) في البحر، و(عهدهم) الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوذه، ووصولهم في النهاية إلى (أرض كنعان). كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنجليز في أميركا التي أطلقوا عليها اسم "أرض الميعاد" و"صهيون" و"إسرائيل الله الجديدة" وغير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين.
وقد استمد هؤلاء الإنجليز كل أخلاق إبادة الهنود (وغير الهنود أيضا) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين لأرض كنعان. كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضّلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين، وكانت تلك الإبادة للهنود، وهي الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني، الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وفيتنام"[5].
ذبح الهنود على مدار قرون
حط كريستوفر كولومبس قدميه على أراضي القارة الأميركية عام 1492م، ومنذئذ دارت الحروب بين المحتلين الأوروبيين والسكان الأصليين للبلاد ولم تتوقف عجلة الدماء إلا مع بدايات القرن العشرين، فتراكمت الجثث وجرت أنهار الدم.
بالرغم من أنه لا توجد إحصائية دقيقة حول أعداد السكان الأصليين الذين كانوا موجودين على أراضي أميركا الشمالية لحظة قدوم الأوروبيين، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن أعداد السكان الأصليين للأميركتين كانت تتراوح بين 10 ملايين إلى 100 مليون في عام 1500م، ويرى الكثير من المتخصصين أنها كانت نحو 50 مليونا، منهم نحو 15 مليونا من قبائل وعشائر الهنود الحمر في أميركا الشمالية وحدها[6].
ومنذ لحظة قدوم الأوروبيين، بدأت أعداد الهنود الحمر تتناقص بسرعة خيالية بسبب الحروب والمجازر الجماعية والمجاعات والأوبئة، حتى وصلت إلى أقل من 238,000 هندي أحمر فقط مع انتهاء الحرب الأميركية الهندية في القرن التاسع عشر[7]، مما يعني أن القوات الأوروبية ذبحت نسبة أكثر من 95% من السكان الأصليين على الأقل لما يُعرف بالولايات المتحدة الأميركية اليوم، رغم أن بعض الباحثين يرون أن مجموع أرقام القتلى الحقيقية في الأميركتين قد يصل إلى 300 مليون قتيل[8].
هذه الإبادة الكبرى للهنود الحمر، من 10 ملايين إنسان إلى 200 ألف إنسان، لم تكن عشوائية أو محض مصادفة، وإنما كانت عملية مقصودة خُطّط لها من قِبَل المستعمرين، فكما يرى كلاوس كونور، الأستاذ بجامعة برينستون، فإن الإنجليز "هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للإبادات الجماعية، فهدفهم في العالم الجديد كأستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها"[9].
إزاحة المذابح من الذاكرة الأميركية
عندما يُذكر لفظ "الإبادات الجماعية" في المدارس الأميركية، ينصرف ذهن الأميركيين إلى محرقة الهولوكست، أو إلى مذابح الأرمن، أو السوفيت، أو البوسنة والهرسك، لكن لا يتم التفكير أبدا في المذابح التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية.
وعندما قرر مجلس الجامعة الأميركي في عام 2012م أن يضيف موضوع مذابح الأميركيين بحق الهنود الحمر في مادة التاريخ الأميركي لطلاب الثانوي، قوبل ذلك باعتراض واسع في جميع أنحاء الدولة، حتى أصدرت اللجنة الوطنية الجمهورية بيانا تطالب فيه الكونغرس بالتحقيق في "المنهج الجديد القائم على رؤية خاطئة وغير دقيقة لأحداث كبيرة في التاريخ الأميركي، بما في ذلك دوافع وأفعال المحتلين بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر"[10].
أما رجال الكونغرس فقد انضموا إلى الجهات الرافضة للمنهج الجديد، وأصدروا إدانة لعدم تناول المنهج لمبررات الحرب، والاستثنائية الأميركية، ومصير أميركا الإلهي في التوسع.[10]
فلم يتوقف الاحتلال عند احتلال التاريخ فقط، بل طال احتلال الثقافة أيضا، فحتى هذه اللحظة يصور الغرب الهنود الحمر في مختلف وسائل الإعلام في صورة ساذجة لا تختلف عن صورتهم التي رسمها الأوروبيون لهم منذ خمسة قرون مضت، ليتم التغاضي عن مذابح الهنود في المناهج والإعلام الأميركي، في مقابل استمرار نزع إنسانية الهنود الحمر عند الجماهير الغربية.
وفي هذا السياق يرى أحمد دعدوش أن المهاجرين الأوروبيين "رغم أنهم أبادوا عشرات الملايين من السكان الأصليين، فقد استمرت سياسة تنميطهم في الإعلام الأميركي حتى التسعينيات من القرن العشرين، بل حملت عشرات الأفلام الكرتونية الموجهة إلى الأطفال رسائل الإساءة والتنميط التي يبدو فيها السكان الأصليون على هيئتهم البدائية نفسها التي كانوا عليها قبل أربعة قرون"[11].
لذا يقول المخرج ستيفان فيراكا: "هؤلاء الهنود الذين خلقتهم سينما هوليوود وألبستهم ريش الطيور لا يتم اعتبارهم بشرا. ولم يكن الهدف من تصويرهم على هذه الشاكلة أن يكونوا بشرا، لأن معظم الأميركيين لا ينظرون إليهم كبشر. وعلينا هنا أيضا أن نتذكر أن كثيرا من الأطفال الأميركيين يعتقدون اليوم أن الريش ينبت في رؤوس الهنود الحمر"[12].
هكذا تتبيّن أكذوبة بناء الولايات المتحدة الأميركية على قيم الحرية والعدالة والمساواة، فالحقيقة أن الدولة الأميركية بدأت أولى خطواتها بأقسى أنواع الإرهاب وأبادت الملايين من السكان الأصليين للبلاد وارتكبت بحقهم أبشع المجازر وأذاقتهم صنوف التعذيب والمعاناة، ثم بعد ذلك كله كتموا المذابح وأخفوا الحقيقة التاريخية عن الجماهير، لتبقى صورة الهنود الحمر هي ذاك الرجل البدائي الذي لا يفقه شيئا من الحياة، ليستمر الإجرام الأميركي بحق هؤلاء الناس حتى اليوم.
لذلك فليس من المستغرب تماما أن تقوم حكومة الولايات المتحدة الأميركية بدعم إسرائيل التي ترتكب المذابح في حق الشعب الفلسطيني وتسرق أرضه، فالمبررات التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني هي المبررات نفسها التي استخدمها المهاجرون الإنجليز من قبل في سرقة أرض السكان الأصليين لأميركا واستباحتهم وإبادتهم، ولربما لو فهمنا قصة السكان الأصليين لأميركا وكيف تعاملوا مع الاحتلال الإنجليزي نستطيع أن نتعلم منها طرقا فعالة للتعامل مع الصهاينة.
إسماعيل عرفة
12/5/2018
"تاريخنا مكتوب بالحبر الأبيض. إن أول ما يفعله المنتصر هو محو تاريخ المهزومين. ويا الله، ما أغزر دموعهم فوق دماء ضحاياهم، وما أسهل أن يسرقوا وجودهم من ضمير الأرض! هذه واحدة من الإبادات الكثيرة التي واجهناها وسيواجهها الفلسطينيون كذلك.. إن جلّادنا المقدّس واحد".
(مايكل هولي إيجل، من نشطاء الهنود الحمر)
تتناول وسائل الإعلام القيم الأميركية بكثير من التفاؤل والتمجيد، فتُظهر وسائل الإعلام عادة جاذبية الأمة الأميركية وتبشيرها بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان، ونبذها للعنف والكراهية والتعصب. تتبنى الولايات المتحدة هذه القيم من منطلق تفوقها العالمي، وهو ما تعلق عليه تسيانينا لوماويما، أستاذة التاريخ الأميركي بجامعة أريزونا، أن الولايات المتحدة الأميركية "تؤمن باستثنائيتها، أي بتفوق الأمة الأميركية على أي أمة أخرى، ولكن هذا أمر لا تدعمه الحقائق أو التاريخ"[1]. لكن ماذا لو عدنا بالتاريخ إلى نشأة الولايات المتحدة الأميركية، إلى القرن الخامس عشر الميلادي تحديدا، عندما بدأ الأوروبيون باستكشاف أراضي قارة أميركا الشمالية، لنسأل، ما مدى تطبيق قيم الحرية والعدالة ونبذ العنف على السكان الأصليين للقارة؟ هل التزم الأميركيون فعلا بهذه القيم مع الهنود الحمر أم أنهم خالفوها تماما معهم؟!
الهنود الحمر.. أصل التسمية
جاءت تسمية الهنود الحمر بطريقة عشوائية تماما، ففي عام 1492 خرج كريستوفر كولومبس من إسبانيا متجها إلى الهند في قارة آسيا، لكنه ضل الطريق واستقر مقامه في أميركا الوسطى، هناك قابل كولومبس السكان الأصليين لكنه لم يكن يعرف أنه كان تائها، ومن ثم أطلق عليهم لفظ "الهنود" معتقدا أنه في آسيا وأن هؤلاء هم سكان الهند بالفعل[2].
لم يمضِ وقت طويل حتى أدرك كولومبس أنه ليس في الهند وإنما في أرض "جديدة"، لكن التسمية استمرت كما هي مع إضافة وصف "الحمر" للهنود لميل بشرتهم إلى الحمرة عوضا عن البشرة الداكنة للهند الآسيوية، هذا الإصرار على إعادة تسمية السكان الأصليين وفقا للرؤية أوروبية المركز، وكأن كل ما هو ليس أوروبي فهو آخر تم تعريفه من قِبَل أوروبا سابقا، وهذا يوضح أن الأوروبيين لم يرتكبوا جرائم بحق شعب بأكمله فحسب، بل أعادوا تسميته وتعريفه بالكلية وفقا لرؤية استعمارية بحتة.
كيف نظر الأوروبيون إلى الهنود الحمر؟!
تنوعت رؤية الأوروبيين المحتلين نحو الهنود الحمر، لكنها اتفقت جميعا على تصويرهم وكأنهم كائنات منحطة بالوراثة وأقل منزلة من الإنجليز والإسبان وعموم الأوروبيين، هذه النظرة الدونية يمكن اعتبارها الشرط التمهيدي لتجريد السكان الأصليين للأميركتين من إنسانيتهم وارتكاب المجازر الوحشية ضدهم.
كانت أوصاف الأوروبيين للهنود الحمر تصل إلى درجة أساطير "الزومبي" ومصاصي الدماء، ومثالا لذلك، تخبرنا عالمة الإنسانية مارجريت هدجن أن أول كتاب إنجليزي عن الهنود الحمر نُشر في عام 1511م "وصف الهنود بالوحوش التي لا تعقل ولا تفكر وتأكل بعضها، بل إنهم كانوا يأكلون زوجاتهم وأبناءهم"[3].
وفي السياق نفسه يقول الباحث السوري أحمد دعدوش: "بعد اكتشاف الأوروبيين للقارة الأميركية وبدء حركة الهجرة والاستيطان، اقترنت إبادة الهنود الحمر برؤية توراتية وعلمانية مزدوجة، فسمى المتدينون البيوريتان (إحدى طوائف البروتستانت) أنفسهم عبرانيين، وظنوا أنهم في مهمة مقدسة لتطهير أرض الميعاد من الكنعانيين.. ولم يختلف الأمر كثيرا لدى العلمانيين الذين قدموا لإزاحة "الهمج" عن طريق العقلانية والتنوير"[4].
لوحة فنية للفنان البروسي جون جاست رسمها في عام 1872م وسماها بـ "التقدم الأميركي"، حيث الفتاة الأوروبية الشقراء البيضاء وهي تحمل في إحدى يديها كتابا يرمز إلى التقدم العلمي، وتمسك بأسلاك التليجراف باليد الأخرى في إشارة إلى التقدم التقني، وتتوسط رأسها نجمة السلام والتفوق. تتجه الفتاة قادمة من الشرق الأوروبي المستنير كما في يمين اللوحة إلى السكان الأصليين الهمج البدائيين والظلاميين كما في يسار اللوحة، ورسم جاست السكان الأصليين وهم يهربون مستسلمين أمام الحداثة الأوروبية التقدمية. وقد اُستُخدمت هذه الصورة في إطار دعائي أيديولوجي واسع داخل أوروبا وخارجها للترويج للسياسة الأوروبية الاستعمارية.
يقول منير العكش، الأستاذ بجامعة سفولك الأميركية: "تعتبر قصة الإنجليز الذين أسسوا أول مستعمرة فيما صار يُعرف اليوم في الولايات المتحدة بإنجلترا الجديدة، الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأميركي.. وما يزال كل بيت أميركي يحتفل سنويا في عيد الشكر (Thanksgiving) بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و(خروجهم) من أرضه، و(تيههم) في البحر، و(عهدهم) الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوذه، ووصولهم في النهاية إلى (أرض كنعان). كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنجليز في أميركا التي أطلقوا عليها اسم "أرض الميعاد" و"صهيون" و"إسرائيل الله الجديدة" وغير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين.
وقد استمد هؤلاء الإنجليز كل أخلاق إبادة الهنود (وغير الهنود أيضا) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين لأرض كنعان. كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضّلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين، وكانت تلك الإبادة للهنود، وهي الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني، الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وفيتنام"[5].
ذبح الهنود على مدار قرون
حط كريستوفر كولومبس قدميه على أراضي القارة الأميركية عام 1492م، ومنذئذ دارت الحروب بين المحتلين الأوروبيين والسكان الأصليين للبلاد ولم تتوقف عجلة الدماء إلا مع بدايات القرن العشرين، فتراكمت الجثث وجرت أنهار الدم.
بالرغم من أنه لا توجد إحصائية دقيقة حول أعداد السكان الأصليين الذين كانوا موجودين على أراضي أميركا الشمالية لحظة قدوم الأوروبيين، فإن بعض الدراسات تشير إلى أن أعداد السكان الأصليين للأميركتين كانت تتراوح بين 10 ملايين إلى 100 مليون في عام 1500م، ويرى الكثير من المتخصصين أنها كانت نحو 50 مليونا، منهم نحو 15 مليونا من قبائل وعشائر الهنود الحمر في أميركا الشمالية وحدها[6].
ومنذ لحظة قدوم الأوروبيين، بدأت أعداد الهنود الحمر تتناقص بسرعة خيالية بسبب الحروب والمجازر الجماعية والمجاعات والأوبئة، حتى وصلت إلى أقل من 238,000 هندي أحمر فقط مع انتهاء الحرب الأميركية الهندية في القرن التاسع عشر[7]، مما يعني أن القوات الأوروبية ذبحت نسبة أكثر من 95% من السكان الأصليين على الأقل لما يُعرف بالولايات المتحدة الأميركية اليوم، رغم أن بعض الباحثين يرون أن مجموع أرقام القتلى الحقيقية في الأميركتين قد يصل إلى 300 مليون قتيل[8].
هذه الإبادة الكبرى للهنود الحمر، من 10 ملايين إنسان إلى 200 ألف إنسان، لم تكن عشوائية أو محض مصادفة، وإنما كانت عملية مقصودة خُطّط لها من قِبَل المستعمرين، فكما يرى كلاوس كونور، الأستاذ بجامعة برينستون، فإن الإنجليز "هم أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسة للإبادات الجماعية، فهدفهم في العالم الجديد كأستراليا ونيوزيلاندا وكثير من المناطق التي يجتاحونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملّكها ووضع اليد على ثرواتها"[9].
إزاحة المذابح من الذاكرة الأميركية
"إن تاريخ المنتصر وحش لا يقوى إلا بلحم الفرائس الآدمية"
(منير العكش)
عندما يُذكر لفظ "الإبادات الجماعية" في المدارس الأميركية، ينصرف ذهن الأميركيين إلى محرقة الهولوكست، أو إلى مذابح الأرمن، أو السوفيت، أو البوسنة والهرسك، لكن لا يتم التفكير أبدا في المذابح التي ارتكبتها الولايات المتحدة الأميركية.
وعندما قرر مجلس الجامعة الأميركي في عام 2012م أن يضيف موضوع مذابح الأميركيين بحق الهنود الحمر في مادة التاريخ الأميركي لطلاب الثانوي، قوبل ذلك باعتراض واسع في جميع أنحاء الدولة، حتى أصدرت اللجنة الوطنية الجمهورية بيانا تطالب فيه الكونغرس بالتحقيق في "المنهج الجديد القائم على رؤية خاطئة وغير دقيقة لأحداث كبيرة في التاريخ الأميركي، بما في ذلك دوافع وأفعال المحتلين بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر"[10].
أما رجال الكونغرس فقد انضموا إلى الجهات الرافضة للمنهج الجديد، وأصدروا إدانة لعدم تناول المنهج لمبررات الحرب، والاستثنائية الأميركية، ومصير أميركا الإلهي في التوسع.[10]
فلم يتوقف الاحتلال عند احتلال التاريخ فقط، بل طال احتلال الثقافة أيضا، فحتى هذه اللحظة يصور الغرب الهنود الحمر في مختلف وسائل الإعلام في صورة ساذجة لا تختلف عن صورتهم التي رسمها الأوروبيون لهم منذ خمسة قرون مضت، ليتم التغاضي عن مذابح الهنود في المناهج والإعلام الأميركي، في مقابل استمرار نزع إنسانية الهنود الحمر عند الجماهير الغربية.
وفي هذا السياق يرى أحمد دعدوش أن المهاجرين الأوروبيين "رغم أنهم أبادوا عشرات الملايين من السكان الأصليين، فقد استمرت سياسة تنميطهم في الإعلام الأميركي حتى التسعينيات من القرن العشرين، بل حملت عشرات الأفلام الكرتونية الموجهة إلى الأطفال رسائل الإساءة والتنميط التي يبدو فيها السكان الأصليون على هيئتهم البدائية نفسها التي كانوا عليها قبل أربعة قرون"[11].
لذا يقول المخرج ستيفان فيراكا: "هؤلاء الهنود الذين خلقتهم سينما هوليوود وألبستهم ريش الطيور لا يتم اعتبارهم بشرا. ولم يكن الهدف من تصويرهم على هذه الشاكلة أن يكونوا بشرا، لأن معظم الأميركيين لا ينظرون إليهم كبشر. وعلينا هنا أيضا أن نتذكر أن كثيرا من الأطفال الأميركيين يعتقدون اليوم أن الريش ينبت في رؤوس الهنود الحمر"[12].
هكذا تتبيّن أكذوبة بناء الولايات المتحدة الأميركية على قيم الحرية والعدالة والمساواة، فالحقيقة أن الدولة الأميركية بدأت أولى خطواتها بأقسى أنواع الإرهاب وأبادت الملايين من السكان الأصليين للبلاد وارتكبت بحقهم أبشع المجازر وأذاقتهم صنوف التعذيب والمعاناة، ثم بعد ذلك كله كتموا المذابح وأخفوا الحقيقة التاريخية عن الجماهير، لتبقى صورة الهنود الحمر هي ذاك الرجل البدائي الذي لا يفقه شيئا من الحياة، ليستمر الإجرام الأميركي بحق هؤلاء الناس حتى اليوم.
لذلك فليس من المستغرب تماما أن تقوم حكومة الولايات المتحدة الأميركية بدعم إسرائيل التي ترتكب المذابح في حق الشعب الفلسطيني وتسرق أرضه، فالمبررات التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني هي المبررات نفسها التي استخدمها المهاجرون الإنجليز من قبل في سرقة أرض السكان الأصليين لأميركا واستباحتهم وإبادتهم، ولربما لو فهمنا قصة السكان الأصليين لأميركا وكيف تعاملوا مع الاحتلال الإنجليزي نستطيع أن نتعلم منها طرقا فعالة للتعامل مع الصهاينة.