تصاعد نشاط تنظيم الدولة: المخاطر وفرص المواجهة
تحلل هذه الورقة طبيعة وحدود الهجمات الأخيرة لتنظيم الدولة على تجمع للمدنيين في بغداد، ومواقع للقوات الامنية في مناطق متفرقة من العراق. أثارت الهجمات مخاوف دولية من عودة التنظيم لنشاطه، بعد أكثر من ثلاث سنوات على إعلان الحكومة العراقية والولايات المتحدة القضاء عليه.
حاتم الفلاحي
10 فبراير 2021
الانفجار كان الأول من نوعه في بغداد منذ عام ونصف وتسبب بسقوط عشرات الضحايا (الأناضول)
عاد تنظيم الدولة إلى واجهة الأحداث الأمنية والسياسية في العراق، بعد الانفجار الانتحاري المزدوج الذي ضرب سوقًا شعبية وسط بغداد في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي (2021)، وأوقع عشرات القتلى والجرحى من المدنيين.
مثَّل انفجار (ساحة الطيران) تطورًا لافتًا في الخط البياني للعمليات التي استأنفها تنظيم الدولة، بعد ثلاث سنوات من الإعلان عن هزيمته وانتهاء سيطرته على مناطق شاسعة في العراق. وفي هذه العمليات، يبدو أن التنظيم يسعى لمرحلة جديدة من حرب الاستنزاف في إطار استراتيجية حرب العصابات، وبهذا تكون رسالة التنظيم قد وصلت بأنه لا يزال يشكِّل تهديدًا أمنيًّا كبيرًا، رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدها.
ترافق استئناف عمليات تنظم الدولة مع تصاعد حدة الخلافات والتجاذبات السياسية، وتردٍّ واسع للوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي، أدى بدوره إلى انطلاق حراك شعبي طالب بتغيير الطبقة السياسية، وخروج النفوذ الإيراني من العراق.
بدا أن التنظيم راهن على الاستفادة من الثغرات الأمنية، وحالة التراخي الناجمة عن تعدد الأجهزة الأمنية والعسكرية، وما يظهر من قلة التنسيق بينها، وهي حالة فاقم منها، تراجع الدور العسكري المسانِد للتحالف الدولي لاسيما القوات الأميركية، بعدما تصاعد التوتر بين واشنطن من جهة، وبين طهران والميليشيات المؤيدة لها في العراق من جهة أخرى.
بعد ساعات من تنفيذه، تبنى تنظيم الدولة الهجوم الانتحاري الدموي في (ساحة الطيران) المزدحمة وسط بغداد، وقالت وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم الدولة على حسابها على "تيليغرام": إن أحد الانتحاريين اتجه نحو مجموعة من الناس وسط الساحة وفجَّر حزامه الناسف. وأضافت أن انتحاريًّا آخر فجَّر نفسه "عندما بدأ الناس في التجمع بعد الانفجار الأول"(1)، وقد أسفر الهجوم عن مقتل (32) عراقيًّا وجرح (110) آخرين، حسب تصريح مصدر بوزارة الصحة العراقية(2)، ويعتبر هذا التفجير هو الأول من نوعه منذ نحو سنة ونصف، بعد أن أصبحت العمليات الانتحارية قليلة ونادرة، وذلك لقلَّة العنصر البشري لدى التنظيم، والخسائر الكبيرة التي أثَّرت بشكل كبير على قدراته القتالية، ولكنه رغم ذلك لا يزال يمتلك أعدادًا بشرية تمكِّنه من تنفيذ عمليات هجومية. وقد وصف أستاذ دراسات الأمن في كلية كينجز كوليدج بلندن، بيتر نويمان، تفجير (ساحة الطيران) بأنه كان "استعراضًا للقوة أمام المؤيدين والخصوم، لإظهار أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال موجودًا وقادرًا على شن هجمات كبيرة"(3).
كان لتفجير ساحة الطيران صدى كبير على المستوى الدولي والإقليمي؛ حيث وصفت بعثة الأمم المتحدة التفجيرين في العراق بـ"العمل المروع"، كما نددت "السفارة الأميركية" و"فرنسا" بالاعتداء من خلال استنكارهما الشديد للهجوم، بينما أدان وزير الخارجية الألماني، "هايكو ماس" (Heiko Maas)بشدة، التفجيرين الانتحاريين وتعهد بتقديم الدعم للعراق فيما أكد عدد من دول المنطقة، ومنها: السعودية، وقطر، والإمارات، وعُمان، على موقفها الثابت من رفض العنف والإرهاب، بينما ذهب المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "سعيد خطيب زادة" إلى قوله: إن "الإرهاب التكفيري استهدف العراق من جديد سعيًا وراء زعزعة أمنه واستقراره وتوفير الذريعة لاستمرار وجود الأجانب"(4).
ويأتي هذا التفجير رغم التحذيرات التي أطلقها العديد من الدول من احتمالية عودة تنظيم الدولة إلى المنطقة، كونه لا يزال يشكِّل خطرًا عالميًّا، خصوصًا بعد أن ازدادت العمليات الهجومية للتنظيم في العراق وسوريا، ولانشغال المجتمع الدولي بمكافحة جائحة "كورونا"؛ حيث يقول الناطق باسم "قوة المهام المشتركة- عملية العزم الصلب" في بغداد: إن "داعش" لم يعد يسيطر على أي أرض حاليًّا، لكن احتمال عودته "احتمال حقيقي جدًّا" إذا تم تخفيف الضغط عليه"(5)، فيما أكدت صحيفة "نيويورك تايمز الأميركية" أن التنظيم يستعيد قوته في العراق وسوريا، وكشفت أيضًا أنه "يعيد تجهيز شبكاته المالية ويجنِّد عناصر جديدة"(6)، وفي هذا الخصوص قالت وزيرة الجيوش الفرنسية "فلورانس بارلي"(Florence Parly): "إن "فرنسا" تعتبر أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال موجودًا"، وأضافت: "يمكن الحديث عن شكل من أشكال عودة ظهور داعش في سوريا والعراق"(7).
لم يعد التنظيم يمتلك مقومات القوة التي تمكِّنه من السيطرة على مدن وأراض جديدة، بسبب الضربات الموجعة التي أدت إلى ضعف قدراته العسكرية والبشرية والمادية، وعدم وجود حاضنة شعبية داعمة له، ولكنه رغم ذلك لا يزال مستمرًّا وناشطًا، واستطاع أن يعيد بناء قدراته وبناه التحتية التي يحتاجها لاستئناف عملياته القتالية. وستتم مناقشة استراتيجيته من خلال العناوين التالية:
مناطق الوجود الجغرافي: أعاد التنظيم انفتاح قواته وبناه التحتية في مناطق اهتمامه الجديدة، والتي تمثلت بالمضافات، ونقاط المراقبة والرصد، ومقرات القيادة الرئيسية والبديلة، ونقاط التمويل اللوجستي (عتاد، سلاح، أرزاق)، وعمل على توظيف الطبيعة الجغرافية وخاصة المناطق الصحراوية والسلاسل الجبلية ذات التضاريس الوعرة، وبعض المناطق الريفية المعزولة التي لا تقع تحت سيطرة الحكومة، والتي بات يستخدمها كقواعد محصنة وأمينة لانطلاق عملياته القتالية، مستفيدًا من الكهوف، والمخابئ، والوديان، والأنفاق، والخنادق، والطيَّات الأرضية التي تساعد على الحركة والاختفاء، والتنقل الآمن نحو الملاذات والمواقع المحصنة.
يوجد تنظيم الدولة حاليًّا في المناطق التالية:
أعداد وهيكلية التنظيم الجديدة في العراق: تسبب مقتل زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي"، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في سوريا، بإلقاء عبء كبير على زعامة التنظيم الجديدة، التي تولت مهمة إحياء وإعادة بناء التنظيم بمرحلة حاسمة وصعبة، وقد تطلَّب ذلك، صياغة هيكلية تنظيمية تنسجم مع تحولاته وتكتيكاته وقدراته القتالية الجديدة بحيث تكون مختصرة ومرنة، تحقق الانكماش وتراعي المتغيرات والمستجدات والتحديات الميدانية.
وأعلن مسؤول مكتب مكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة، فلاديمير فورونكوف (V.Voronkov)"أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من (10) آلاف من مقاتلي تنظيم داعش ما زالوا نشطين في العراق وسوريا"(، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن القوة القتالية للتنظيم تتراوح بين (3500- 4000) مقاتل منتشرين في 11 قاطعًا فيما يُعرف بـ(ولاية العراق)، فضلًا عن وجود نحو ( آلاف مقاتل غير ناشط، يمكن اعتبارهم القوة الاحتياطية المستعدة للقيام بأي نشاط عندما تُستدعى، وهم يمثلون البنية التحتية، والحاضنة الاجتماعية للتنظيم، والتي تعرف إعلاميًّا "بالخلايا النائمة"(9).
وتفيد تقارير استخبارية بأن الانفتاح القتالي لتنظيم الدولة في العراق يتوزع على (11) كتيبة، وكل كتيبة تتألف من (350) مقاتلًا، وتنقسم الكتيبة إلى (6-7) سرايا، في كل سرية (50) مقاتلًا، وكل سرية تنقسم إلى (5) مفارز بمعدل (9-10) مقاتلين، كما تم توزيع بعض السرايا على مراكز المدن العراقية(10).
الاستراتيجية العسكرية لتنظيم الدولة: اعتمد تنظيم الدولة في بناء استراتيجيته العسكرية على خبرة ميدانية تراكمية امتدت لسنوات من العمل القتالي الذي تميز بتنفيذ العمليات التعرضية الخاطفة، ومبدأ الصدمة والترويع، وسرعة الانتشار، خصوصًا بعد أن فشل في الحرب التقليدية ومواجهة الجيوش النظامية بجبهات واسعة.
بات واضحًا أن التنظيم يعود لتعبئة حرب العصابات والقتالات الخاصة، التي تعتمد الاستنزاف والإنهاك الطويل للقوات الحكومية، وتعتمد على تقسيم عناصر وخلايا التنظيم لمجاميع ومفارز صغيرة الحجم، وخفيفة التسليح، كما ركز على بناء خلاياه النائمة لجمع المعلومات والتتبع الاستخباري، ناهيك عن توظيف تقنية الطائرات المسيرة لمهام قتالية وجمع المعلومات، ومراقبة الحملات العسكرية للقوات الحكومية، وأخيرًا تأمين الدعم المالي واللوجستي، ومعسكرات التدريب، والاعتماد على التمويل الذاتي، واستخدام الألواح الشمسية كمصادر للطاقة الكهربائية. كما ركز على تحديد أبرز معالم استراتيجيته بما يلي:
اتبعت القوات الحكومية بعد القضاء على تنظيم الدولة، استراتيجية عسكرية تضمنت العديد من العمليات العسكرية لملاحقة فلول التنظيم وحماية المدن ومنعه من العودة إليها، وقد تم تنفيذ الاستراتيجية الحكومية من خلال ما يلي:
عمليات استباقية: تعتبر العمليات الاستباقية عملًا نوعيًّا وجزءًا من العمل الاستخباري الناجح، كونها تحقق المباغتة، وتمنع الهجمات قبل وقوعها، وتشمل تنفيذ عمليات الاغتيال، وإلقاء القبض، وتدمير مواقع القيادة والسيطرة، ومراكز البحث والتطوير، ومعامل التصنيع العسكري، ومراكز الاتصالات، وقد نفَّذت "قوات التحالف الدولي" بالاشتراك مع "جهاز المخابرات العراقي" و"القوات الحكومية"، أغلب العمليات الاستباقية النوعية الناجحة، والتي كان آخرها تنفيذ عمليتين أسفرتا عن مقتل والي العراق (خليفة البغدادي) المدعو "جبار سلمان صالح العيساوي" الملقَّب "أبو ياسر العيساوي"، نهاية يناير/كانون الثاني الماضي(14)، بضربة يمكن وصفها بأنها أصابت تنظيم الدولة بضرر بالغ، ثم جاءت الضربة التالية في منطقة "أبو غريب" غربي بغداد، وأدت إلى مقتل المشرفين والمخططين على تفجير "ساحة الطيران"، وفي مقدمتهم كل من (جبار علي فياض) المكنَّى "أبو حسن الغريباوي" وهو (أمير قاطع الجنوب)، حسب وصف التنظيم، و"غانم صباح"، المسؤول عن نقل الإنتحاريين(15).
يمكن أن يحدث الخرق الأمني في جميع دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة التي تمتلك أجهزة أمن متطورة وفعالة. وفي العراق تكررت الخروقات الأمنية لعدد لا يُحصى من المرات، وكلَّفت البلاد خسائر هائلة بشريًّا وماديًّا، وكان احتلال تنظيم الدولة مدينة الموصل، من أخطر هذه الاختراقات الأمنية وأكثرها إيلامًا. لكن في حالة العراق، لم تحصل هذه الاختراقات الأمنية لأسباب تتعلق بفشل المنظومة الأمنية والعسكرية حصرًا، بل كانت هناك مجموعة من الأسباب الأساسية التي جعلت المؤسسات الأمنية العراقية غير قادرة على أداء مهامها بشكل كفؤ.
إن من أهم متطلبات النجاح إطلاق استراتيجية شاملة تتضمن استمرار الدعم الجوي، وتنسيق الجهد الاستخباري، وتبادل المعلومات بين القوات الحكومية والتحالف الدولي، لتنفيذ العمليات الاستباقية لملاحقة التنظيم، ويتزامن مع ذلك إعادة إعمار المناطق المدمرة، وعودة النازحين، وتعويض المتضررين، وحصر السلاح بيد الدولة، وخروج الميليشيات من المناطق السُّنِّية، وإغلاق مكاتبها الاقتصادية والسياسية، واستبدال قوات من الجيش الحكومي بها.
غير أن تحقيق مثل هذه الأهداف يصطدم مع الواقع الصعب في العراق، فالبلاد تشهد خلافات سياسية وطائفية، وغيابًا للقرار السياسي والأمني المركزي، وفشلًا استخباريًّا، إلى جانب عدم الدقة في تحليل المعلومات وغياب العمليات الاستباقية، وافتقار القوات الحكومية إلى منظومة الرصد والمراقبة الإلكترونية، والتقنيات الحديثة، وأجهزة الاستطلاع، والطائرات المسيَّرة، وضعف القدرات العسكرية اللازمة لمراقبة الأجواء، وضبط الحدود، وعدم القدرة على مراقبة وملاحقة التنظيم في المناطق الصحراوية والسلاسل الجبلية الوعرة. وقد أثبت نجاح التنظيم في الهجمات الأخيرة، عدم جاهزية القوات الحكومية، وحاجة العراق للدعم الجوي، والجهد الاستخباري "لقوات التحالف الدولي"، وترجح كفة الداعين لبقاء القوات الأميركية في العراق.
إن العبث بالقرار الأمني من قبل الميليشيات، وتصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران، أديا إلى انسحاب جزئي للقوات الأميركية من بعض المواقع والقواعد العسكرية، وتعليق العمليات الهجومية ضد التنظيم، الذي ازدادت وتنامت بالمقابل عملياته الهجومية بشكل كبير، بعد أن توقفت الملاحقة الميدانية لعناصره، خصوصًا بعد أن أعلنت بعض الدول في التحالف الدولي انسحاب قواتها من العراق، بسبب جائحة "كورونا" مما مهد الطريق لعودة التنظيم ليصبح أشد خطورة.
لقد حسم تصاعد الخط البياني لعمليات التنظيم الهجومية، الجدل الدائر بالساحة السياسية والأمنية العراقية حول مصير ومستقبل التنظيم، وتراجع نفوذه العسكري في العراق، كما أن تفجير (ساحة الطيران) يعتبر نقلة نوعية في تكتيكات حرب الاستنزاف ليثبت من جديد قدرته على أن يعيد إنتاج نفسه من جديد بزعامته وهيكليته الجديدة التي طورها حسب قدراته العسكرية لمواجهة التحديات وتحمل الخسائر، وأنه لم يُهزم نهائيًّا، وأن خسارة معركة لا تعني خسارته لقوته؛ مما يجعل عمليات احتوائه أصعب بكثير مما يتوقعه صنَّاع القرار والدوائر الاستخبارية.
وحقيقة الأمر أن عودة التنظيم للمشهد العراقي لم تكن مفاجئة لأن الأسباب والظروف المحلية التي أدت لظهوره لا تزال قائمة وملائمة لعودته من جديد بل إنها ازدادت بسبب استمرار الفشل السياسي وعدم جاهزية القوات الحكومية والسياق الإقليمي المعقد، الذي يؤثر على العراق بشكل مباشر، والذي طالما استفاد منه تنظيم الدولة.
تحلل هذه الورقة طبيعة وحدود الهجمات الأخيرة لتنظيم الدولة على تجمع للمدنيين في بغداد، ومواقع للقوات الامنية في مناطق متفرقة من العراق. أثارت الهجمات مخاوف دولية من عودة التنظيم لنشاطه، بعد أكثر من ثلاث سنوات على إعلان الحكومة العراقية والولايات المتحدة القضاء عليه.
حاتم الفلاحي
10 فبراير 2021
الانفجار كان الأول من نوعه في بغداد منذ عام ونصف وتسبب بسقوط عشرات الضحايا (الأناضول)
عاد تنظيم الدولة إلى واجهة الأحداث الأمنية والسياسية في العراق، بعد الانفجار الانتحاري المزدوج الذي ضرب سوقًا شعبية وسط بغداد في الحادي والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي (2021)، وأوقع عشرات القتلى والجرحى من المدنيين.
مثَّل انفجار (ساحة الطيران) تطورًا لافتًا في الخط البياني للعمليات التي استأنفها تنظيم الدولة، بعد ثلاث سنوات من الإعلان عن هزيمته وانتهاء سيطرته على مناطق شاسعة في العراق. وفي هذه العمليات، يبدو أن التنظيم يسعى لمرحلة جديدة من حرب الاستنزاف في إطار استراتيجية حرب العصابات، وبهذا تكون رسالة التنظيم قد وصلت بأنه لا يزال يشكِّل تهديدًا أمنيًّا كبيرًا، رغم الخسائر الكبيرة التي تكبدها.
ترافق استئناف عمليات تنظم الدولة مع تصاعد حدة الخلافات والتجاذبات السياسية، وتردٍّ واسع للوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي، أدى بدوره إلى انطلاق حراك شعبي طالب بتغيير الطبقة السياسية، وخروج النفوذ الإيراني من العراق.
بدا أن التنظيم راهن على الاستفادة من الثغرات الأمنية، وحالة التراخي الناجمة عن تعدد الأجهزة الأمنية والعسكرية، وما يظهر من قلة التنسيق بينها، وهي حالة فاقم منها، تراجع الدور العسكري المسانِد للتحالف الدولي لاسيما القوات الأميركية، بعدما تصاعد التوتر بين واشنطن من جهة، وبين طهران والميليشيات المؤيدة لها في العراق من جهة أخرى.
تنظيم الدولة يتبنى تفجير ساحة الطيران
بعد ساعات من تنفيذه، تبنى تنظيم الدولة الهجوم الانتحاري الدموي في (ساحة الطيران) المزدحمة وسط بغداد، وقالت وكالة "أعماق" التابعة لتنظيم الدولة على حسابها على "تيليغرام": إن أحد الانتحاريين اتجه نحو مجموعة من الناس وسط الساحة وفجَّر حزامه الناسف. وأضافت أن انتحاريًّا آخر فجَّر نفسه "عندما بدأ الناس في التجمع بعد الانفجار الأول"(1)، وقد أسفر الهجوم عن مقتل (32) عراقيًّا وجرح (110) آخرين، حسب تصريح مصدر بوزارة الصحة العراقية(2)، ويعتبر هذا التفجير هو الأول من نوعه منذ نحو سنة ونصف، بعد أن أصبحت العمليات الانتحارية قليلة ونادرة، وذلك لقلَّة العنصر البشري لدى التنظيم، والخسائر الكبيرة التي أثَّرت بشكل كبير على قدراته القتالية، ولكنه رغم ذلك لا يزال يمتلك أعدادًا بشرية تمكِّنه من تنفيذ عمليات هجومية. وقد وصف أستاذ دراسات الأمن في كلية كينجز كوليدج بلندن، بيتر نويمان، تفجير (ساحة الطيران) بأنه كان "استعراضًا للقوة أمام المؤيدين والخصوم، لإظهار أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال موجودًا وقادرًا على شن هجمات كبيرة"(3).
مخاوف المجتمع الدولي من عودة التنظيم في العراق
كان لتفجير ساحة الطيران صدى كبير على المستوى الدولي والإقليمي؛ حيث وصفت بعثة الأمم المتحدة التفجيرين في العراق بـ"العمل المروع"، كما نددت "السفارة الأميركية" و"فرنسا" بالاعتداء من خلال استنكارهما الشديد للهجوم، بينما أدان وزير الخارجية الألماني، "هايكو ماس" (Heiko Maas)بشدة، التفجيرين الانتحاريين وتعهد بتقديم الدعم للعراق فيما أكد عدد من دول المنطقة، ومنها: السعودية، وقطر، والإمارات، وعُمان، على موقفها الثابت من رفض العنف والإرهاب، بينما ذهب المتحدث باسم الخارجية الإيرانية "سعيد خطيب زادة" إلى قوله: إن "الإرهاب التكفيري استهدف العراق من جديد سعيًا وراء زعزعة أمنه واستقراره وتوفير الذريعة لاستمرار وجود الأجانب"(4).
ويأتي هذا التفجير رغم التحذيرات التي أطلقها العديد من الدول من احتمالية عودة تنظيم الدولة إلى المنطقة، كونه لا يزال يشكِّل خطرًا عالميًّا، خصوصًا بعد أن ازدادت العمليات الهجومية للتنظيم في العراق وسوريا، ولانشغال المجتمع الدولي بمكافحة جائحة "كورونا"؛ حيث يقول الناطق باسم "قوة المهام المشتركة- عملية العزم الصلب" في بغداد: إن "داعش" لم يعد يسيطر على أي أرض حاليًّا، لكن احتمال عودته "احتمال حقيقي جدًّا" إذا تم تخفيف الضغط عليه"(5)، فيما أكدت صحيفة "نيويورك تايمز الأميركية" أن التنظيم يستعيد قوته في العراق وسوريا، وكشفت أيضًا أنه "يعيد تجهيز شبكاته المالية ويجنِّد عناصر جديدة"(6)، وفي هذا الخصوص قالت وزيرة الجيوش الفرنسية "فلورانس بارلي"(Florence Parly): "إن "فرنسا" تعتبر أن تنظيم الدولة الإسلامية لا يزال موجودًا"، وأضافت: "يمكن الحديث عن شكل من أشكال عودة ظهور داعش في سوريا والعراق"(7).
استراتيجية وهيكلية تنظيم الدولة في العراق
لم يعد التنظيم يمتلك مقومات القوة التي تمكِّنه من السيطرة على مدن وأراض جديدة، بسبب الضربات الموجعة التي أدت إلى ضعف قدراته العسكرية والبشرية والمادية، وعدم وجود حاضنة شعبية داعمة له، ولكنه رغم ذلك لا يزال مستمرًّا وناشطًا، واستطاع أن يعيد بناء قدراته وبناه التحتية التي يحتاجها لاستئناف عملياته القتالية. وستتم مناقشة استراتيجيته من خلال العناوين التالية:
مناطق الوجود الجغرافي: أعاد التنظيم انفتاح قواته وبناه التحتية في مناطق اهتمامه الجديدة، والتي تمثلت بالمضافات، ونقاط المراقبة والرصد، ومقرات القيادة الرئيسية والبديلة، ونقاط التمويل اللوجستي (عتاد، سلاح، أرزاق)، وعمل على توظيف الطبيعة الجغرافية وخاصة المناطق الصحراوية والسلاسل الجبلية ذات التضاريس الوعرة، وبعض المناطق الريفية المعزولة التي لا تقع تحت سيطرة الحكومة، والتي بات يستخدمها كقواعد محصنة وأمينة لانطلاق عملياته القتالية، مستفيدًا من الكهوف، والمخابئ، والوديان، والأنفاق، والخنادق، والطيَّات الأرضية التي تساعد على الحركة والاختفاء، والتنقل الآمن نحو الملاذات والمواقع المحصنة.
يوجد تنظيم الدولة حاليًّا في المناطق التالية:
- المثلث الجغرافي الذي يشمل محافظة الأنبار، ونينوى، وصلاح الدين، وهو يضم مناطق واسعة يتخللها الكثير من الوديان، مثل: وادي حوران والقذف والأبيض، كما تشمل جزيرة البعاج، والحضر، وسلسلة جبال عطشانة، ومرتفعات بادوش، يضاف إليها بحيرة ووادي الثرثار وصولًا إلى راوه غربًا وتلول البعاج شمالًا، وهذا المثلث امتداد للبادية السورية، ويوجد بهذا القاطع ما يقارب (800) مقاتل.
- المثلث الجغرافي الذي يشمل شرق محافظة صلاح الدين، وشمال شرق ديالى، وجنوب كركوك، ويشمل سلسلة جبال مكحول، وحمرين، والغرة، ويتخلله الكثير من الوديان مثل الكرحه، والشاي، وزغيتون وهما يلتقيان بوادي أبو خناجر، ويشمل هذا المثلث قاطع الكاطون في ديالى، ويمتد في الشمال الشرقي نحو مناطق المقدادية، وقره تبة، وجلولاء، وأم الحنطة، وقرية الإصلاح، وهي منطقة بساتين وغابات كثيفة تصلح لعمل الكمائن ويصعب على القوات الأمنية اقتحامها، بالإضافة إلى بحيرة ديالى. يعتبر التنظيم هذه المناطق أرض (التمكين والانطلاق)، وله فيها نحو 400 عنصر، يوصفون بالشراسة والتنظيم.
- المثلث الجغرافي الذي يشمل جنوب شرق محافظة نينوى، وشمال صلاح الدين، وجنوب غرب كركوك، ويشمل المنطقة المحصورة بين مخمور، والشرقاط، ويوجد بهذا القاطع ما يقارب (350) مقاتلًا.
- قاطع شمال وجنوب غرب بغداد ويشمل الطارمية، وأبو غريب، (حزام بغداد) ويوجد بهذا القاطع ما يقارب (350) مقاتلًا.
أعداد وهيكلية التنظيم الجديدة في العراق: تسبب مقتل زعيم التنظيم "أبو بكر البغدادي"، في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2019، في سوريا، بإلقاء عبء كبير على زعامة التنظيم الجديدة، التي تولت مهمة إحياء وإعادة بناء التنظيم بمرحلة حاسمة وصعبة، وقد تطلَّب ذلك، صياغة هيكلية تنظيمية تنسجم مع تحولاته وتكتيكاته وقدراته القتالية الجديدة بحيث تكون مختصرة ومرنة، تحقق الانكماش وتراعي المتغيرات والمستجدات والتحديات الميدانية.
وأعلن مسؤول مكتب مكافحة الإرهاب التابع للأمم المتحدة، فلاديمير فورونكوف (V.Voronkov)"أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من (10) آلاف من مقاتلي تنظيم داعش ما زالوا نشطين في العراق وسوريا"(، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أن القوة القتالية للتنظيم تتراوح بين (3500- 4000) مقاتل منتشرين في 11 قاطعًا فيما يُعرف بـ(ولاية العراق)، فضلًا عن وجود نحو ( آلاف مقاتل غير ناشط، يمكن اعتبارهم القوة الاحتياطية المستعدة للقيام بأي نشاط عندما تُستدعى، وهم يمثلون البنية التحتية، والحاضنة الاجتماعية للتنظيم، والتي تعرف إعلاميًّا "بالخلايا النائمة"(9).
وتفيد تقارير استخبارية بأن الانفتاح القتالي لتنظيم الدولة في العراق يتوزع على (11) كتيبة، وكل كتيبة تتألف من (350) مقاتلًا، وتنقسم الكتيبة إلى (6-7) سرايا، في كل سرية (50) مقاتلًا، وكل سرية تنقسم إلى (5) مفارز بمعدل (9-10) مقاتلين، كما تم توزيع بعض السرايا على مراكز المدن العراقية(10).
الاستراتيجية العسكرية لتنظيم الدولة: اعتمد تنظيم الدولة في بناء استراتيجيته العسكرية على خبرة ميدانية تراكمية امتدت لسنوات من العمل القتالي الذي تميز بتنفيذ العمليات التعرضية الخاطفة، ومبدأ الصدمة والترويع، وسرعة الانتشار، خصوصًا بعد أن فشل في الحرب التقليدية ومواجهة الجيوش النظامية بجبهات واسعة.
بات واضحًا أن التنظيم يعود لتعبئة حرب العصابات والقتالات الخاصة، التي تعتمد الاستنزاف والإنهاك الطويل للقوات الحكومية، وتعتمد على تقسيم عناصر وخلايا التنظيم لمجاميع ومفارز صغيرة الحجم، وخفيفة التسليح، كما ركز على بناء خلاياه النائمة لجمع المعلومات والتتبع الاستخباري، ناهيك عن توظيف تقنية الطائرات المسيرة لمهام قتالية وجمع المعلومات، ومراقبة الحملات العسكرية للقوات الحكومية، وأخيرًا تأمين الدعم المالي واللوجستي، ومعسكرات التدريب، والاعتماد على التمويل الذاتي، واستخدام الألواح الشمسية كمصادر للطاقة الكهربائية. كما ركز على تحديد أبرز معالم استراتيجيته بما يلي:
- اعتماد "اللامركزية" في القيادة، لتنفيذ عملياته وخططه التعرضية حسب المعطيات الميدانية؛ مما يجعله أكثر مرونة وخطورةً بتنفيذها.
- تركيز الهجمات على القوات الحكومية وميليشيات الحشد الشعبي باعتماد أساليب قتالية، وتكتيكات هجومية، تشمل الكرَّ والتحرُّف، والاغتيالات، والخطف، ونصب الكمائن، والغارات، والقنص، وزرع العبوات الناسفة، ونصب السيطرات الوهمية، والهجمات الليلية، وتدمير نقاط المراقبة والحراسة، وحرق المحاصيل الزراعية، وتدمير محطات الكهرباء، وإسقاط أبراج الضغط العالي للطاقة الكهربائية.
- التركيز على العمل الأمني واغتيال الشخصيات المهمة والمتعاونة مع القوات الأمنية، وتفجير منازلهم، وخاصة المخاتير، والمنتمين للأجهزة الأمنية، والذين تربطهم علاقات جيدة مع قادة الميليشيات.
- تجنب المواجهة المباشرة مع القوات الحكومية، وحسب الباحث في المركز الدولي لدراسة التطرف في لندن، "تشارلي وينتر" (Charlie Winter)، فإن "الإرهابيين استعاضوا عن سياسة المواجهة المباشرة، والسيطرة على الأراضي، بقيام عدد كبير من المقاتلين بمهاجمة أعداد كبيرة من الجنود باستخدام أسلحة من عيار مماثل أو أكبر"(11).
- استخدام استراتيجية إرهاب المدن: يبدو أن التنظيم قد عاد واستأنف عمليات التفخيخ والتفجيرات بكافة أنواعها: العمليات الانتحارية البشرية، والسيارات المفخخة، والعمليات الانغماسية، والذئاب المنفردة، وقد تبنى التفجير المزدوج الذي ضرب العاصمة، بغداد، ويفسر أستاذ دراسات الأمن في كلية كينجز كوليدج بلندن، بيتر نويمان (Peter Neumann) هذا السلوك بقوله: "لطالما كانت التفجيرات الانتحارية في المدن الكبرى جزءًا رئيسيًّا من استراتيجية تنظيم الدولة الإسلامية، لخلق التوتر الطائفي، وإثارة الأعمال الانتقامية بحق السكان السنَّة"(12). وتعمل استراتيجية (إرهاب المدن)، على خلط الأوراق، والعزف على وتر الطائفية، لإثارة الميليشيات ضد الحواضن السُّنِّية، كما حصل بعد هجوم منطقة "العيث" بمحافظة "صلاح الدين"؛ حيث شنَّ "جهاز أمن الحشد" حملة اعتقالات واسعة طالت الكثير من الأبرياء دون أوامر قضائية؛ مما جعل هذه المناطق بين مطرقة التنظيم وسندان الميليشيات.
استراتيجية القوات الحكومية في مواجهة تنظيم الدولة
اتبعت القوات الحكومية بعد القضاء على تنظيم الدولة، استراتيجية عسكرية تضمنت العديد من العمليات العسكرية لملاحقة فلول التنظيم وحماية المدن ومنعه من العودة إليها، وقد تم تنفيذ الاستراتيجية الحكومية من خلال ما يلي:
- العمل الاستخباري: اعتمدت أجهزة الاستخبارات الحكومية على جمع المعلومات من المصادر، والسكان المحليين، ووسائل الإعلام، والعملاء والجواسيس، والاعتقالات العشوائية، ومنظومة المراقبة الإلكترونية لقوات التحالف الدولي. ومع هذا لم يكن العمل الاستخباري بالأجهزة الحكومية بمستوى التحديات، كونها تفتقر إلى منظومة مراقبة شاملة لرصد تحركات التنظيم، بما فيها المراقبة الجوية، والأرضية، والإلكترونية، وكان ذلك من بين أسباب محدودية النجاح في عمليات ملاحقة التنظيم والحد من عملياته الهجومية.
- العمليات العسكرية: شنَّت القوات الحكومية العشرات من العمليات العسكرية بعد إعلان النصر على التنظيم عام 2017، مثل عملية "أبطال العراق"، و"إرادة النصر"، وأخيرًا عمليتي "الثأر للشهداء"، و"أسود الجزيرة"(13)، وجميع هذه العمليات شُنَّت بآلة عسكرية ضخمة أفقدتها أهم مبادئ الحرب، وهو مبدأ "المباغتة"، علمًا بأن أغلبها أتى كردَّة فعل على عمل هجومي شنَّه التنظيم، أو لإبعاده عن المدن، وقد شملت هذه العمليات محافظات الأنبار، وصلاح الدين، وديالى، وكركوك، ونينوى، وقد نجحت في إبعاد التنظيم عن المدن قبل تفجير "ساحة الطيران"، ولكنها فشلت في القضاء عليه.
عمليات استباقية: تعتبر العمليات الاستباقية عملًا نوعيًّا وجزءًا من العمل الاستخباري الناجح، كونها تحقق المباغتة، وتمنع الهجمات قبل وقوعها، وتشمل تنفيذ عمليات الاغتيال، وإلقاء القبض، وتدمير مواقع القيادة والسيطرة، ومراكز البحث والتطوير، ومعامل التصنيع العسكري، ومراكز الاتصالات، وقد نفَّذت "قوات التحالف الدولي" بالاشتراك مع "جهاز المخابرات العراقي" و"القوات الحكومية"، أغلب العمليات الاستباقية النوعية الناجحة، والتي كان آخرها تنفيذ عمليتين أسفرتا عن مقتل والي العراق (خليفة البغدادي) المدعو "جبار سلمان صالح العيساوي" الملقَّب "أبو ياسر العيساوي"، نهاية يناير/كانون الثاني الماضي(14)، بضربة يمكن وصفها بأنها أصابت تنظيم الدولة بضرر بالغ، ثم جاءت الضربة التالية في منطقة "أبو غريب" غربي بغداد، وأدت إلى مقتل المشرفين والمخططين على تفجير "ساحة الطيران"، وفي مقدمتهم كل من (جبار علي فياض) المكنَّى "أبو حسن الغريباوي" وهو (أمير قاطع الجنوب)، حسب وصف التنظيم، و"غانم صباح"، المسؤول عن نقل الإنتحاريين(15).
أسباب الخرق الأمني
يمكن أن يحدث الخرق الأمني في جميع دول العالم، بما فيها الدول المتقدمة التي تمتلك أجهزة أمن متطورة وفعالة. وفي العراق تكررت الخروقات الأمنية لعدد لا يُحصى من المرات، وكلَّفت البلاد خسائر هائلة بشريًّا وماديًّا، وكان احتلال تنظيم الدولة مدينة الموصل، من أخطر هذه الاختراقات الأمنية وأكثرها إيلامًا. لكن في حالة العراق، لم تحصل هذه الاختراقات الأمنية لأسباب تتعلق بفشل المنظومة الأمنية والعسكرية حصرًا، بل كانت هناك مجموعة من الأسباب الأساسية التي جعلت المؤسسات الأمنية العراقية غير قادرة على أداء مهامها بشكل كفؤ.
أسباب سياسية
- أفقدت الخلافات السياسية والاستقطابات الطائفية صانع القرار القدرة على اتخاذ القرار المناسب، بسبب تباين الرؤى بين مراكز القوى، وتبعية القرار وارتباطاته الخارجية، كما حصل في الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة مما دفع الميليشيات المسلحة التابعة لإيران للتصعيد، وتهديد رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، بشكل سافر، معتمدةً على سياسة فرض الإرادات بالقوة؛ مما أدى إلى تصادمها مع الرؤية العامة لسياسة الدولة، وهو ما انعكس على تدهور الوضع الأمني، وأداء الأجهزة الأمنية والعسكرية، التي حمَّلت الفشل السياسي للطبقة الحاكمة.
- ضعف الثقة بين الأجهزة الأمنية والسكان المحليين أفقدها الحصول على الكثير من المعلومات المهمة، التي تساعد في ترصين الجبهة الداخلية وسدِّ الثغرات الأمنية، ناهيك عن تأثر مؤسسات الدولة بالولاءات الحزبية والطائفية، وامتداداتها الإقليمية التي أفقدتها دورها الوظيفي، حتى إن حدأحد النواب دعا إلى عدم منح الأحزاب مراكز أمنية حساسة، ووقف سيطرتها على مفاصل مهمة في وزارتي "الداخلية والدفاع"(16).
- التوظيف السياسي لعمليات تنظيم الدولة، في محاولة للحصول على مكاسب ضد الخصوم، سواء كان ذلك في إطار محلي عراقي، أو في سياق إقليمي، ويمكن مراجعة مسلسل إلقاء التهم بعد تفجير (ساحة الطيران) للاستدلال على حجم محاولات الاستثمار السياسي للعمليات الإرهابية، فقد سارعت (الميليشيات الولائية) لاتهام السعودية، ونشرت مزاعم حول الهوية السعودية للانتحاريين، قبل أن يعلن التنظيم عن هويتهما. وبالتزامن، نشرت نفس الجهات من خلال أدواتها الإلكترونية مزاعم عن أن الانتحارييْن من مدينة الموصل، وهو ما ثبت كذبه أيضًا. كان من الواضح محاولة تصعيد الاستقطاب الطائفي وهو نفس الهدف الذي يسعى له تنظيم الدولة.
أسباب أمنية
- غياب المركزية في القرار الأمني والعسكري، لوجود حالة من التنازع بين المؤسسات الحكومية الأمنية، نظرًا لوجود الكثير من الهياكل الأمنية التي تعمل خارج سيطرة الدولة، متمثلةً بميليشيات "الحشد الشعبي الولائية"، وخاصة مجاميع "صواريخ الكاتيوشا" التي ترفض الميليشيات المساس بها.
- ضعف التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات الاستخبارية بين الاجهزة الأمنية العاملة على الساحة العراقية لأسباب مختلفة من بينها غلبة الانتماءات والاستقطابات الطائفية والحزبية داخل هذه الأجهزة، واستمرار المشكلات السياسية والمالية التي تؤثر على التنسيق الأمني بين الحكومة المركزية في بغداد، وبين حكومة إقليم كردستان؛ مما خلق فرصة لتنظيم الدولة لينشط ويستقر في المناطق المتنازع عليها؛ حيث يُغَضُّ النظر عنه عندما يسعون لممارسة الضغوط على السكان المحليين، أو على الحكومة المركزية، لذا فهو يُوظَّف كورقة سياسية للضغط، من قبل هذا الطرف أو ذاك.
- افتقار الأجهزة الأمنية إلى المهنية والحرفية في التعامل مع الأحداث، وغياب التحقيقات المهنية الموثوقة والعادلة، وقد تجسد ذلك في تعامل الأجهزة الأمنية مع مسرح عملية التفجير في "ساحة الطيران"، فقد كان يتوجب أن يخضع مكان الانفجار لمعاينة خبراء المتفجرات لمعرفة تفاصيل مادة التفجير، وكذلك الأمن الجنائي لرفع البصمات ومطابقتها. لكن فضلًا عن ذلك، فقد سارع المسؤولون الأمنيون والسياسيون إلى توجيه الاتهامات فورًا وتشتيت انتباه الرأي العام وكذلك السلطات الأمنية ذاتها. لقد تسببت مثل هذه الممارسات بشكل متكرر بضياع الحقيقة، وخلط الأوراق، واختلاط العمليات الإرهابية بالعمليات التي تحمل طابعًا سياسيًّا.
- توقف العمليات الاستباقية لملاحقة قادة التنظيم، وتراخي الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تفتقر في غالبها إلى التدريب، وقلة الخبرة القتالية، والعقيدة الواضحة، وخاصة القوات غير النظامية (الميليشيات)، وقد تبدَّى مثل الخلل بشكل أكثر وضوحًا بعد مغادرة مدربي وخبراء التحالف العراق بسبب انتشار فيروس كورونا؛ وقد خلَّف ذلك فراغًا ملموسًا"، حسب الباحث في المعهد الملكي لخدمات الأمن والدفاع في لندن، جاك واتلينغ (Jack Watling) (17).
- قلَّة المعلومات الاستخبارية، وخاصة عن الطبيعة الجغرافية للأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، بما فيها التقييمات والقراءات الخاطئة للأجهزة الأمنية حول تنامي قوة وقدرة التنظيم، وعملياته المستقبلية؛ حيث يقول الباحث: "وقد تراجعت القدرة على الاكتشاف المبكر لنوايا التنظيم بعدما فقدت قوات الأمن العراقية جزءًا كبيرًا من الدعم الذي كان يقدمه التحالف في مجال المراقبة، كنوع من نظام إنذار مبكر لكشف هجمات تنظيم الدولة قبل وقوعها"(18).
- إن تفشي "فيروس كورونا" وتصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران أدَّيا إلى تعليق بعثة التدريب "لقوات التحالف الدولي" و"حلف الناتو" العمليات العسكرية لمدة شهرين، وتحول القوات الأميركية إلى حالة الدفاع، مما تسبب بتعطيل مشاركة المعلومات الاستخباراتية، وإيقاف التخطيط والدعم الجوي لملاحقة التنظيم، وبتاريخ 29 مارس/آذار عام 2020، أعلنت كل من أستراليا وإسبانيا وفرنسا والمملكة المتحدة ونيوزيلندا والبرتغال وهولندا، سحب جميع مدربيها بسبب جائحة "كورونا"؛ مما أثَّر على أداء القوات الحكومية.
إن من أهم متطلبات النجاح إطلاق استراتيجية شاملة تتضمن استمرار الدعم الجوي، وتنسيق الجهد الاستخباري، وتبادل المعلومات بين القوات الحكومية والتحالف الدولي، لتنفيذ العمليات الاستباقية لملاحقة التنظيم، ويتزامن مع ذلك إعادة إعمار المناطق المدمرة، وعودة النازحين، وتعويض المتضررين، وحصر السلاح بيد الدولة، وخروج الميليشيات من المناطق السُّنِّية، وإغلاق مكاتبها الاقتصادية والسياسية، واستبدال قوات من الجيش الحكومي بها.
غير أن تحقيق مثل هذه الأهداف يصطدم مع الواقع الصعب في العراق، فالبلاد تشهد خلافات سياسية وطائفية، وغيابًا للقرار السياسي والأمني المركزي، وفشلًا استخباريًّا، إلى جانب عدم الدقة في تحليل المعلومات وغياب العمليات الاستباقية، وافتقار القوات الحكومية إلى منظومة الرصد والمراقبة الإلكترونية، والتقنيات الحديثة، وأجهزة الاستطلاع، والطائرات المسيَّرة، وضعف القدرات العسكرية اللازمة لمراقبة الأجواء، وضبط الحدود، وعدم القدرة على مراقبة وملاحقة التنظيم في المناطق الصحراوية والسلاسل الجبلية الوعرة. وقد أثبت نجاح التنظيم في الهجمات الأخيرة، عدم جاهزية القوات الحكومية، وحاجة العراق للدعم الجوي، والجهد الاستخباري "لقوات التحالف الدولي"، وترجح كفة الداعين لبقاء القوات الأميركية في العراق.
إن العبث بالقرار الأمني من قبل الميليشيات، وتصاعد حدة التوتر بين واشنطن وطهران، أديا إلى انسحاب جزئي للقوات الأميركية من بعض المواقع والقواعد العسكرية، وتعليق العمليات الهجومية ضد التنظيم، الذي ازدادت وتنامت بالمقابل عملياته الهجومية بشكل كبير، بعد أن توقفت الملاحقة الميدانية لعناصره، خصوصًا بعد أن أعلنت بعض الدول في التحالف الدولي انسحاب قواتها من العراق، بسبب جائحة "كورونا" مما مهد الطريق لعودة التنظيم ليصبح أشد خطورة.
لقد حسم تصاعد الخط البياني لعمليات التنظيم الهجومية، الجدل الدائر بالساحة السياسية والأمنية العراقية حول مصير ومستقبل التنظيم، وتراجع نفوذه العسكري في العراق، كما أن تفجير (ساحة الطيران) يعتبر نقلة نوعية في تكتيكات حرب الاستنزاف ليثبت من جديد قدرته على أن يعيد إنتاج نفسه من جديد بزعامته وهيكليته الجديدة التي طورها حسب قدراته العسكرية لمواجهة التحديات وتحمل الخسائر، وأنه لم يُهزم نهائيًّا، وأن خسارة معركة لا تعني خسارته لقوته؛ مما يجعل عمليات احتوائه أصعب بكثير مما يتوقعه صنَّاع القرار والدوائر الاستخبارية.
وحقيقة الأمر أن عودة التنظيم للمشهد العراقي لم تكن مفاجئة لأن الأسباب والظروف المحلية التي أدت لظهوره لا تزال قائمة وملائمة لعودته من جديد بل إنها ازدادت بسبب استمرار الفشل السياسي وعدم جاهزية القوات الحكومية والسياق الإقليمي المعقد، الذي يؤثر على العراق بشكل مباشر، والذي طالما استفاد منه تنظيم الدولة.