تحدي الجفاف: كيف تواجه الدول تهديدات الشح المائي؟
سهير الشربينيإنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية
5 سبتمبر، 2022
يجابه العالم في الفترة الراهنة الأثر الأبرز الناجم عن ظاهرة تغير المناخ، وهو ارتفاع وتيرة الجفاف وزيادة الشح المائي في العديد من دول العالم؛ إذ لم يعد الجفاف ظاهرة قرينة بالدول الشديدة الحرارة كأفريقيا جنوب الصحراء، بل امتدت آثاره لتشمل الدول الباردة كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي. ووفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة، فإن وتيرة الجفاف ومدته قد ازدادا بمقدار الثلث على مستوى العام منذ عام 2000، ويتعرض أكثر من 2.3 مليار شخص حول العالم لخطر الإجهاد المائي. ويتوقع التقرير أن يؤثر الجفاف بحلول عام 2050 على أكثر من 75% من سكان العالم، حينها سيقطن ما يصل إلى 5.7 مليار شخص في مناطق تعاني من نقص المياه لمدة شهر واحد على الأقل في السنة، ارتفاعاً من 2.7 مليار شخص في الوقت الراهن، كما من المتوقع نزوح أكثر من 215 مليون شخص من منازلهم بسبب الجفاف والعوامل الأخرى المرتبطة بتغير المناخ.
أزمة ممتدة
برزت ظاهرة الشح المائي في عدد كبير من دول العالم، وأسفرت عن خلق العديد من الأزمات في عدد كبير من مختلف دول العالم، نتناول أبرزها فيما يأتي:
1- توغل الجفاف في دول الاتحاد الأوروبي: خلال العام الجاري، شهد عدد كبير من دول الاتحاد الأوروبي حالة من الجفاف؛ فبينما سجلت فرنسا أسوأ موجة جفاف منذ عام 1958، سجلت البرتغال هي الأخرى في شهر يوليو 2022، كما يتعرض 75% من رومانيا للجفاف، ومن المتوقع أن ينخفض من جراء ذلك محصول الحبوب فيها بمقدار 30 مليون طن. ليس ذلك فحسب، فحتى إنجلترا الواقعة في الجزء الشمالي من القارة، قد أعلنت عن تعرض أجزاء منها للجفاف؛ حيث شهدت في شهر يوليو الماضي درجات حرارة مرتفعة كسرت حاجز 40 درجة مئوية، لأول مرة على الإطلاق. وبحسب BBC فإن إنجلترا كانت الأكثر جفافاً في الشهور الستة الأولى من العام الجاري منذ عام 1976. وقد أدى تغير المناخ أيضاً إلى انخفاض منسوب مياه نهر الراين المقارب من ألمانيا، الذي تحتاج إليه كافة السفن المسافرة إلى جنوب غرب ألمانيا المعروف بالصناعة الثقيلة للعبور من خلاله؛ وذلك إلى 0.7 متر فقط، وهو أقل بكثير من 1.2 متر التي تتطلبها معظم السفن النهرية كحد أدنى لها.
2- ندرة المياه في الولايات المتحدة: يواجه الغرب الأمريكي نقصاً في الكهرباء والمياه؛ إذ يتعرض اثنان من أكبر الخزانات في الولايات المتحدة، ويوفران المياه والكهرباء للملايين، لخطر الوصول إلى “حالة البركة الميتة”، بما يعني أن مستوى المياه في السدود بات منخفضاً للغاية، بحيث لم يعد بإمكانه التدفق في اتجاه مجرى النهر وتشغيل محطات الطاقة الكهرومائية نتيجة لأزمة المناخ والاستهلاك المفرط للمياه. ووفقاً لنظام معلومات الجفاف الوطني المتكامل التابع للحكومة الفيدرالية، فإنه بنهاية شهر يوليو الماضي، كان أكثر من 43% من الولايات المتحدة، تعاني من الجفاف، وقد تأثر أكثر من 130 مليون شخص نتيجة لذلك، فضلاً عن تضرر 229 مليون فدان من المحاصيل.
3- القرن الأفريقي الأكثر تضرراً من ندرة المياه: تحذر منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) من تعرض القرن الأفريقي لأسوأ موجة جفاف منذ أكثر من 40 عاماً؛ حيث يواجه أكثر من 18 مليون شخص جوعاً شديداً في إثيوبيا والصومال وأجزاء من كينيا. وتصرح الأمم المتحدة بأن أفريقيا هي القارة الأكثر تضرراً من أي قارة أخرى؛ حيث انخفض معدل هطول الأمطار على مدار أربع سنوات متتالية؛ ما كان له آثاره المدمرة على الزراعة وإنتاج الغذاء.
4- انكشاف الأزمة البيئية في الصين: خلال العقود الأربعة الماضية من النمو الاقتصادي السريع، اختارت بكين اعتماد سياسات الأمن الغذائي التي تهدف إلى الاكتفاء الذاتي الوطني، في إطار محاولة السلطات الصينية إخفاء أي معالم للمشاكل البيئية في الصين، تجنباً لردود الأفعال المحتملة التي قد تعرض الحزب الشيوعي الصيني للمساءلة حول مدى كفاءة إدارة الحزب للأزمة. ولعل الضخ الجائر للمياه الجوفية تحت سهل شمال الصين هو المحرك الأساسي لأزمة المياه التي تلوح في الأفق في الصين؛ إذ تسبب ذلك في تناقص احتياطات المياه الجوفية في السهل، كما تعرض الجزء الأكثر اكتظاظًا بالسكان في الصين شمال نهر اليانجتسي لانخفاض ثابت في كمية المياه في البحيرات والأنهار وخزانات المياه الجوفية بالمنطقة، حتى باتت الصين تستهلك حالياً عشرة مليارات برميل من المياه يومياً؛ أي نحو 700 ضعف استهلاكها اليومي من النفط.
5- تزايد الأزمة المائية في منطقة الشرق الأوسط: تواجه منطقة الشرق الأوسط تحديات مائية متزايدة، لا سيما أن بعض دول المنطقة تعد من الدول الأكثر عرضة للآثار الناجمة.عن تغير المناخ على مستوى العالم، وما يصاحب ذلك من ارتفاع أكبر في درجات الحرارة، وندرة سقوط الأمطار ومن ثم انتشار الجفاف، وهي عواقب قد يكون لها تبعاتها الوخيمة على البنية التحتية وحياة سكنها، والإضرار بقطاعات التنمية والتأثير على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والصحية والبيئية. وبحسب تقرير لليونيسف، صدر في أغسطس 2021، يعيش “نحو 9 من كل 10 أطفال في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مناطق تعاني من إجهاد مائي مرتفع أو مرتفع للغاية مع عواقب وخيمة على صحتهم وتغذيتهم وتطورهم المعرفي وسبل عيشهم في المستقبل”. كما أن المنطقة هي المنطقة الأكثر شحاً في المياه عالمياً. ومن أصل 17 دولة تعاني من الإجهاد المائي في العالم، تقع 11 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
تداعيات كارثية
لتغير المناخ وندرة المياه، تداعياتهما الاقتصادية والسياسية الخطيرة، التي من الممكن استعراض أبرزها كالآتي:
1- إعاقة النمو الاقتصادي العالمي: إن عدداً كبيراً من دول العالم معرضة لخسائر ضخمة من جراء الجفاف وانخفاض احتياطاتها من المياه؛ حيث من المتوقع أن تتسبب حالات الجفاف والعواصف والأمطار الغزيرة في بعض اقتصادات العالم، في خسائر بقيمة 5.6 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050. فبينما من المتوقع أن تشهد منطقة الساحل الأفريقي انخفاضاً في معدلات نمو بلدانها، ليصل إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050، نتيجة للتأثيرات السلبية المرتبطة بنقص المياه على الزراعة والصحة والدخل؛ فإن الولايات المتحدة من المرجح أن يبلغ إجمالي الخسائر بها نحو 3.7 تريليون دولار بحلول عام 2050، مع تقلص الناتج المحلي الإجمالي في الدولة بنحو 0.5% كل عام حتى ذلك الحين.
كما تواجه الصين هي الأخرى ثاني أكبر اقتصاد في العالم، خسائر تراكمية تبلغ نحو 1.1 مليار دولار بحلول منتصف القرن الحالي. علاوة على ذلك، من المتوقع أن تشهد أستراليا والفلبين أكبر متوسط انخفاض اقتصادي، ليتراوح بين 0.5% و0.7% في الناتج المحلي الإجمالي السنوي قبل حلول عام 2050.
2- تضرر قطاعات التصنيع عالمياً: يمثل قطاع التصنيع واحدًا من أهم القطاعات الخمسة الحاسمة في الاقتصاد العالمي الذي من المتوقع أن يتضرر بشدة من جراء ظاهرة الشح المائي المتفاقمة في مناطق عديدة من العالم؛ حيث سيتكلف ذلك القطاع من جراء ندرة المياه نحو 4.2 تريليون دولار؛ وذلك نتيجة لدور الشح المائي في تعطيل الإنتاج وعمليات التصنيع، إضافة إلى تدمير العواصف والفيضانات البنية التحتية والمخزونات.
3- تهديدات مضاعفة للقطاع الزراعي: يمثل الجفاف واحداً من أهم العوامل المؤثرة على الإنتاجية الزراعية، وبالفعل هناك 20% إلى 40% من أراضي العام، مصنفة على أنها متدهورة، وهو الأمر الذي يؤثر بدوره على نصف سكان العالم. في ذلك السياق، فإنه من المتوقع أن يشهد القطاع الزراعي المعرض لمخاطر الجفاف والأمطار الغزيرة، خسائر مالية تقدر بقيمة 332 مليار دولار بحلول عام 2050.
4- تفاقم معضلة الاستقرار الداخلي في الدول: لا يمكن إغفال أن تزايد التحدي المائي عالمياً سيكون له إنعكاسات سلبية على الاستقرار السياسي الداخلي في العديد من الدول، لا سيما أن العجز المائي يؤدي إلى إشكاليات مجتمعية واقتصادية مختلفة قد يكون أبرزها أنه يعرقل الكثير من الأنشطة الاقتصادية ناهيك عن إحداثه بعض التغييرات في حركة الأفراد داخل الدولة، وهي الإشكاليات التي تعمق أزمة الاستقرار الداخلي؛ لأنه يعزز الانتقادات الداخلية للسلطة ويزيد معدلات الاستياء الشعبي، وهو أمر قابل للحدوث في دول كبيرة مثل الصين؛ إذ تشير تقارير إلى أن الصين تسعى إلى إخفاء الأبعاد الكاملة لمشكلاتها البيئية لتجنب تصاعد الاستياء الشعبي والتشكيك في قدرات الحزب الشيوعي الحاكم.
وقد تؤدي السياسات الخاطئة من قبل بعض الحكومات في التعامل مع معضلة الشح المائي إلى تعاظم الفجوة بين الأفراد والحكومات، ولعل النموذج الأبرز على ذلك الولايات المتحدة؛ حيث اتخذت الحكومة الفيدرالية في الفترة الأخيرة، سياسة مثيرة للجدل بإغلاق إمدادات المياه من نهر كلاماث على حدود كاليفورنيا – أوريجون، بغية حماية الأنواع المحلية من الأسماك من الانقراض وحماية حقوق القبائل الأمريكية الأصلية. وهي سياسة أثارت ضجراً كبيراً عند الفلاحين، ومثلت عبئاً مالياً ضخماً عليهم، نظراً إلى كون 85% من الأراضي الزراعية بما يقرب من 210 آلاف فدان في تلك المنطقة، بحاجة إلى مياه نهر كلاماث للري؛ ما دفع المزارعين إلى التهديد بإعادة فتح إمدادات المياه بالقوة إذا فشلت الحكومة الفيدرالية في توفير حل مرضٍ.
5- احتمالية تزايد الصراعات بين الدول: ربما تدفع التحديات المائية الراهنة نحو تصاعد حدة الصراعات بين الدول للسيطرة على مصادر المياه، وهي المصادر التي لم تعد قاصرة على المصادر التقليدية مثل الأنهار، ولكنها قد تشمل أيضاً مصادر غير تقليدية، وخصوصاً مع التطور الحادث في تقنيات الاستفادة من المياه الجوفية التي قد تقع بعضها في مناطق حدودية، علاوة على مساعي بعض الدول للاستفادة من التقنيات الحديثة في عمليات الاستمطار وهو ما قد ينتج أنماطاً من “حروب السحب” بين الدول.
طرق متفاوتة
في خضم أزمة الشح المائي، تحاول العديد من الدول التعاطي معها، في محاولة لإيجاد حلول يستهدف من خلالها تقليل التداعيات الاقتصادية للظاهرة، نتناول بعضاً منها فيما يأتي:
1- تكثيف استخدام المياه المعاد تدويرها في دول الاتحاد الأوروبي: دفعت ندرة المياه في دول الاتحاد الأوروبي، السلطات الأوروبية إلى تقنين استخدام المياه للمواطنين في 125 بلدية، ووقف استخدام المياه للري. وعلى رأسها فرنسا التي فرضت قيوداً على المياه في معظم أنحاء الدولة. وفي مارس من العام الجاري، سعت الحكومة الفرنسية إلى استخدام المياه المعاد تدويرها في مكافحة الحرائق، كما عملت على زيادة إمدادات المياه الجوفية المتدنية بالفعل على مستوى الاتحاد الأوروبي، وهو ما وافقت الدول الأعضاء في الاتحاد عليه من حيث المبدأ، كما وافقت على تكثيف استخدام المياه المعاد تدويرها.
2- طرح خطط إغاثة طارئة لدعم الدول الأفريقية: أطلقت منظمة الفاو خطة الإغاثة الطارئة لدعم دول أفريقيا جنوب الصحراء الذين يواجهون العطش والجفاف والجوع، بغرض التخفيف من آثارها، كما ناشدت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الحصول على 42.6 مليون دولار لتقديم المساعدة لإنقاذ حياة المتضررين من الجفاف في المنطقة.
3- إطلاق الصين مشروعاً طموحاً للطاقة الكهرومائية: بحسب نائب وزير الموارد المائية “وي شانزونج”، في أبريل 2022، فإن الاستثمار السنوي في المشاريع المتعلقة بالمياه يمكن أن يصل إلى 100 مليار دولار سنوياً. في إطار ذلك، كانت قد أطلقت الصين مشروعاً طموحاً جديداً في عام 2021، لبناء أقوى محطة للطاقة الكهرومائية في العالم على امتداد منبع نهر براهمابوترا، الذي يتدفق من التبت إلى الهند.
وفي حالة نجاحه، يمكن أن يولد السد نحو 60 جيجاوات من الكهرباء، ليصبح أكبر محطة للطاقة الكهرومائية حالياً، وهو ما سيكون له عواقب وخيمة على الهند التي تمتلك 4% فقط من المياه العذبة في العالم؛ إذ إنه وفقًا لمعهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي، يأتي ما يقرب من 30% من مياه الهند من نهر براهمابوترا، ومن الممكن أن يقلل المشروع من إمدادات مياه النهر بنسبة تصل إلى 60%؛ لذا تشعر الهند بالقلق من تحويل الصين المياه إلى سلاح سياسي من أجل التأثير على القرارات السياسية للدول المجاورة من خلال التعامل مع إمدادات المياه كورقة مساومة؛ إذ يكاد يكون من المستحيل أن تتخلى الصين عن خطتها لصالح الهند، بالنظر إلى التوسع الصيني في مناطق النفوذ الهندية ونزاع الحدود الصينية الهندية.
4- توسع الدول في برامج الاستمطار: يحتمل أن تدفع موجات الجفاف الراهنة والشح المائي الدول إلى التوسع في برامج الاستمطار، وهي برامج بدأت بعض الدول تهتم بها بصورة ملحوظة، فعلى سبيل المثال، تبذل دولة الإمارات جهوداً كبيرة من أجل زيادة معدل الأمطار، عبر تبني برنامج طموح لاستمطار السحب؛ حيث تحقن الدولة مواد كيميائية في السحب في محاولة لتحفيز هطول الأمطار. كما بدأت الصين بعض الخطوات في هذه البرامج خلال السنوات الماضية. وتشير بعض التقارير إلى أن بعض الدول في الشرق الأوسط قد تبدأ في توفير المزيد من المخصصات المالية لبرامج الاستمطار، وخاصة مع حالة الجفاف التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
5- الاهتمام باستراتيجيات إدارة الموارد المائية: لقد نبهت موجة الجفاف الراهنة الدول إلى ضرورة تبني استراتيجيات فعالة لإدارة الموارد المائية التي تتسم بالندرة؛ وذلك على النحو الذي يحول دون المزيد من الهدر لهذه الموارد. وتتضمن هذه الاستراتيجيات بعض الآليات مثل التوسع في الزراعة الذكية، وتشجيع تقنيات توفير المياه كالري بالرش والتنقيط لزيادة كفاءة الإنتاج الزراعي وتجنب هدر المياه، التي تتعرض لخسائر أعلى بكثير مع طرق الري التقليدية. وفي ذلك السياق، فإنه خلال السنوات الأخيرة، تم منح المزارعين حوافز ووسائل مختلفة لاعتماد تقنيات الري الموفرة للمياه، وهي خطوة رئيسية في وقف هدر المياه، غير أن التنفيذ الفعال لمثل هذه التقنيات يتطلب أيضاً المراقبة والتقييم.
إجمالاً، يقف العالم اليوم بصدد معضلة ندرة المياه، وتحاول دول العالم التفكير في حلول أكثر ديمومة من أجل الحفاظ على أمنها المائي؛ إذ من الممكن تحييد الآثار السلبية لتغير المناخ على المياه من خلال اتخاذ قرارات سياسية أكثر فاعلية، وحسن إدارة الموارد المائية. إضافة إلى حتمية بحث دول العالم أجمع عن مصادر بديلة للمياه، تقيها شر التغيرات المناخية الآخذة في الصعود، من أجل حماية أمنها القومي وحياة مواطنيها ومستوى نموها الاقتصادي.