صالون نون الأدبي في جلسته .. بين اللجوء والمخيم كانت الحكاية
عند الثالثة من بعد عصر الخميس الخامس عشر من ديسمبر انعقد لواء صالون نون الأدبي لمناقشة كتابيّ الأستاذة فايقة الصوص: حكاية لاجئ وذاكرة مخيم
بدأت الأستاذة فتحية اللقاء مستأذنة الحضور بقراءة الفاتحة عن روح المناضل الكبير سليم الزعنون أبو الأديب رئيس المجلس الوطني السابق، مقدمة العزاء للدكتورة مي وأفراد العائلة جميعا
ثم قالت: أما ونحن في ديسمبر الذي ودعنا به خنساء فلسطين وشاعرتها الأولى فدوى طوقان، لابد أن نرسل لها الدعوات الصادقات بالرحمة والمغفرة
ثم بدأت اللقاء الذي اعتبر فلسطينيا بامتياز قائلة:
إفكا قالوا سيموت الكبار، وسينسى الصغار، ففلسطين الولادة لا تنجب إلا الأوفياء لها، لتاريخها وشعبها وتمسكا بحقها، فلا ماتت ذاكرة الكبار، ولا سينسي في يوم الصغار ذكريات وطنهم
فذاكرة المخيم، وحكاية اللاجئ باقية، ولن يتوقف الكبار عن تلاوتها، ولن يتوقف الصغار عن سماعها وترديدها لأقرانهم، ومن سيأتي بعدهم من أجيال، فكل لاجئ سواء أكان مقيما في المخيم، أم كان خارجه في المدن الفلسطينية، ودول الشتات، يحمل حكايته بين ضلوعه ليرويها، لذا كنت أنا شخصيا مهمومة بتوثيق هذا التاريخ فأوردته في عدة كتب، منها:
* حكايات الأجداد للأحفاد بأجزائه السبعة - * كتاب حياتي
* كتاب الدولة الثامنة اللد - * رحلة داخل الأوطان (أم الريحان جنة الرحمن) تحدثت فيه عن أكبر المحميات الطبيعية في فلسطين
* رحلة غريب عسقلاني بين الغربة والإبداع، تحدثت فيه كثيرا عن عسقلان موقعا وتاريخا -
* ثم كان التوثيق لأمثالنا الشعبية
الحضور الكريم، أبناء الوطن الجميل، أهلا بكم ومرحبا.. سنطوف اليوم بكم بين المدن والقرى الفلسطينية، فمن الدولة الثامنة اللُد مدينتي الأصيلة، إلى بيت طيما واسدود وسمسم، جميعها مدننا وقرانا، وجميعها عزيز على قلوبنا
لكن بداية اسمحوا لي ونحو في ديسمبر الذي ودعنا به شاعرة فلسطين الأولى، خنساء فلسطين فدوى طوقان، أن نرسل لها دعواتنا بالرحمة والمغفر
ثم ندعو بالسلامة والشفاء للأخ الكبير سليم الزعنون أبو الأديب، شافاه الله وعافاه
أما بعد،،،
واستمرارا لهذا النهج الوطني نجتمع اليوم حول كتابين وثقت بهما الكاتبة لقضية اللجوء، وذاكرة المخيم، الكاتبة التي تنتمي لفلسطين الأم، ولبلدتها الأصلية بيت طيما
[rtl]المنشأة فوق رقعة منبسطة من السهل الساحلي الجنوبي بارتفاع 75 مترا عن سطح البحر، وقد بلغت مساحتها 60 دونماً لا يملك اليهود منها شيئاً، وتقع على مسافة 32 كيلو مترا إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، وتبعد كيلومترين إلى الجنوب الغربي من كوكبا، ونحو ثلاثة كيلومترات إلى الشمال الغربي من حليقات، وقرابة أربعة كيلومترات إلى الشرق من الجيّة[/rtl]
[rtl]تقوم بيت طيما فوق بقعة أثرية، وهي تضم رفات مجاهدين استشهدوا في الحروب الصليبية. وتقوم بجوارها خرائب أثرية كخربة بيت سمعان وخربة ساما[/rtl]
[rtl]كاتبتنا ابنة بيت طيما هي الأستاذة فايقة محمود إبراهيم الصوص (أم أيمن)[/rtl]
حصلت على الثانوية العامة في العام 1974م، وتخرجت من معهد معلمات رام الله في العام 1977م، ثم تزوجت وسافرت مع زوجها في ذات العام إلى الجزائر الشقيقة، وعملت هناك أستاذة للغة العربية قرابة العشرين عاما لتعود - كالكثيرين من أبناء شعبنا - إلى أرض الوطن مع السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1995م
عملت معلمة لأكثر من عشرين عاما أخرى في مدرسة البريج الابتدائية المشتركة أ للاجئين، تقاعدت عن التدريس في العام 2018م
لها مساهمات في الكثير من الأنشطة النقابية والمجتمعية والتربوية والرياضية والكشفية، فهي عضو في العديد من النقابات والمؤسسات الوطنية، وشاركت في العديد من الدورات
بعد تقاعدها من التعليم في العام 2018م اتخذت من قلمها وسيلة جديدة للنضال، حيث تفرغت لتوثيق الذاكرة الشفهية للاجئين الفلسطينيين، فأرخت حياة اللاجئ الفلسطيني في عشرات القصص والحكايات، وقد صورت فيها مختلف جوانب حياة اللاجئ: الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنضالية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تلك الحقبة المنسية من أذهان الجيل الحالي، جيل الأبناء والأحفاد
إصداراتها: أصدرت الكاتبة فايقة الصوص كتابين هما: (حكاية لاجئ) و(ذاكرة مخيم) وقد أثرت فيهما المكتبة العربية الفلسطينية. ويعتبر هذين الكتابين مراجع أرشيفية للأجيال، دونت فيهما ما حفظته في ذاكرتها من حياة اللجوء التي عاشتها في المخيم، فأخرجتها للأجيال بشكل أدبي ممتع
ولها مخطوطة شعر، قصائده وطنية، ستتم طباعتها في ديوان قريبا بإذن الله
هنا كانت الكلمة للأستاذة فائقة تحدثت بها عن أجواء كتابتها والهدف السامي من هذا التوثيق لحال اللاجئ الفلسطيني
**
وقالت الأستاذة فتحية الآن نتجه لقارئة كتاب حكاية لاجئ الناقدة المتميزة الأستاذة شهيناز أبو شبيكة، ابنة اسدود
على تل رملي يشرف على مساحات واسعة إلى الشرق والشمال والجنوب وفي مواجهة تلا مرتفعا إلى الغرب تنتصب قرية اسدود التي على الطريق الساحلي العام، تبعد عن شاطئ البحر بنحو خمسة كليو مترات، وعن الشمال الشرقي لمدينة غزة بنحو35 كيلو مترا، وترتفع 42 مترا عن سطح البحر، ويحيط بها أراضي قرى عرب سكرير، والبطاني، وبيت دراس، وحمامة، وبشيت
[rtl]من الأصل الكنعاني "اشدود" بمعنى الحصن أو القوة والجبروت، جاء اسم أسدود، وكانت إحدى الخمس مدن الفلسطينية الكبرى[/rtl]
[rtl]وقد دلت الحفريات الأثرية على أن بلدة أسدود كانت على جانب كبير من الحضارة والازدهار والغنى المادي، وهذا ما جعلها في القرن السادس قبل الميلاد عاصمة الفلسطينيين.[/rtl]
[rtl]أسهمت أسدود بدور بارز في الحركة الوطنية، إذ تأسس فيها أول نقابة للعمال باسم (جمعية العمال العربية) التابعة لمؤتمر العمال العرب الذي أسسته عصبة التحرر، كما نشط فيها عدد من رفاق عصبة التحرر الوطني[/rtl]
كُتب عن بلدة أسدود العديد من الكتابات منها:
* كتب زميلنا الدكتور عبد الله عبد الجليل المناعمة كتاب أسدود التاريخ والذاكرة
* كما وثق الأستاذ أحمد حسن جودة، لبلدته في كتاب اسدود قلعة الجنوب
[rtl]* وللمرحوم المناضل عبد الفتاح حميد (أبو علاء)، كتاب "من أعلام قرية أسدود" يتحدث فيه عن (78) علما من أعلام أسدود، ممن ساهموا في رفع المشاعل وحملوها علما وأدبا وفكرا ونضالا، وهدف الكتاب إلى إبراز مساهمات هؤلاء الأعلام في مجمل الشؤون الحضارية في قرية أسدود وأهلها".[/rtl]
إنها شهيناز غازي ابو شبيكة ناقدة وباحثة فلسطينية أسدودية الأصل حاصلة على بكالوريوس أساليب تدريس اللغة العربية من جامعة القدس المفتوحة، وماجستير لغة عربية في الأدب والنقد من جامعة القدس المفتوحة فرع غزة، ودبلوم في الدراسات الفلسطينية من أكاديمية اللاجئين الفلسطينيين في لندن، وعضو في العديد من المراكز الثقافية
بعد هذه التقدمة بدأت الأستاذة شهيناز بعرض قراءتها والتي جاء بها:
دراسة موضوعية لحكاية مخيم للكاتبة فائقة الصوص
نحن أمام كتاب جمع بين دفتيه القليل من الويلات والمآسي التي عاشها اللاجئ الفلسطيني، فقد عادت الكاتبة بذاكرتها البعيدة لتجسد المعاناة اليومية للاجئ المنكوب، فنسجت بقلمها الخجول الماضي القاسي، ورسمت معالم مخيم اللجوء رامزةً لحق العودة، وخزنت في ذاكرة الأجيال الحاضرة كل ما واجهه جيل النكبة والنكسة معاَ، فبدأت من أصل الحكاية بتآمر البريطانيون واليهود لإخلاء الأرض ووعد المجحف، فكانت البداية بليلة سوداء حالكة، ومجازر تفوق حد الوصف، أشلاء متناثرة، أطفال مقتولين، شلال الدم الجاري، مشاهد مروعة، عمت أخبار المجازر أنحاء الوطن، دب الرعب في القلوب، بات الكل يترقب، خرج الجميع ناجين بأنفسهم وأطفالهم، وأوراق ملكياتهم، ومفاتيح بيوتهم على أمل العودة الذي طالت، أقيمت المخيمات وبدأت الأونروا بمهامها.
وقد أصرت الكاتبة على حق العودة فجسدته على طول كتابها، فقالت في البداية:" جميع اللاجئين ينتظرون يوماً موعوداً يتحقق فيه حلمهم بالعودة إلى ديارهم، وانتقلت إلى قصة فدائية من بيت طيما قائلة:" كما يحتفظ كل فلسطيني بأوراق ملكيته لأرضه ويخبئها في قلبه وعيونه لتظل ميراثاً للأجيال، إنه الحق الذي لا يسقط بالتقادم وما ضاع حق وراءه مطالب"، وتقول على لسان أبو محمد اللاجئ: وهو ذاهب لاستقبال الجيوش العربية قبل معرفتهم بالخذلان والخدعة: "يا إم محمد إزا شفتيني اتأخرت الحئيني ع اللد". أما حلمها فجسدته بإنهاء الأطفال لعبتهم بانتصار العرب على اليهود، تعبيراً عن إيمانهم بفكرة المقاومة والانتصار، وتقول مؤكدة اصرارها:" كانت لنا بيارات وهجرنا منها وكنا أسياداً فيها ولا زلنا محتفظين بأوراق ملكيتها مؤمنين بالعودة إليها ذات يوم"، ورغم بدئها بنصوص التهجير والقتل إلا أنها أنهت كتابها بالعودة إلى بيت طيما، فتقول:" لا تزال قلوبنا معلقة بها نحلم بعودتنا عسى أن تكون قريبة".
وقدمت الكاتبة مشاهد لمعاناة اللاجئ اليومية بكل تفاصيلها حتى أشعرتنا وكأننا نعيش في ذاك الزمن، فبدأت بالحنفية العمومية، والمشقة التي عاشتها المرآة الفلسطينية في الحصول على الماء، والمرحاض العمومي ذو الباب المتهالك، والمعاناة الجماعية في الانتظار ساعات الصباح، والحمام العمومي الذي كان مسموح به مرة واحدة في الأسبوع، والمؤن وذل اللاجئ الفلسطيني في الحصول على قوة يومه بعدما كان هو صاحب الأرض وسيدها، ومشقة العربنجي في توصيل حمله مقابل قروش زهيدة، أما الحالة الصحية وقتها، فكانت عيادة المخيم أو (الصحية)- كما ذكرت الكاتبة-، فغرفها ضيقة وأثاثها عبارة عن طاولة وكرسي قديم، وطبيب لا حاجة له بسماع شكوى المريض، فالعلاج واحد لجميع أنواع المرض، وهو السائل الأحمر المر، يوضع في زجاجة فارغة أحضرها المريض معه من بيته، أو حقنة مكررة الاستخدام، أما علاج الأسنان فكان الخلع فلا حشوات ولا علاج، فاختصروا مشقتهم وأصبحوا يعالجون أنفسهم بأنفسهم، وجسدت معاناة الأطفال وتذمرهم من تناول الحليب المالح وزيت السمك، وتعرضهم للرش بالمبيدات الحشرية لمنع انتشار الحشرات في الجسد والشعر بسبب قلة النظافة والاستحمام، أما معاناة تلاميذ المدارس في الوصول لمدارسهم عبر الشوارع الموحلة بالطين فكانت قمة التعاسة، فأحذيتهم عبارة عن زنوبات وأحذية من قماش لا تقاوم الأوحال، فتغوص أقدامهم في الطين، وتتلطخ ملابسهم وحقائبهم القماش بالوحل، وذكرت عمال الحصمة الكادحين المعرضين للموت بأي لحظة مقابل القليل من المال.
ونلحظ أن الكاتبة قد ذكرت بعض الأسماء لشخصيات المخيم، فأول شخصية هي جدتها مريم الطيماوية العنيدة التي أصرت على العودة إلى بيتها ليلاً لتأتي بأوراق الطابو، وحليمة صاحبة الضحكة الرنانة، وكريمة التي تخيط الصوف، وأم محمد وأم العبد المتعاركتان على تعبئة الماء، وأم عطية المثقلة بحملها، وصبحية موظفة الحمام، وكاتب الطعمة حسين الهندي باكستاني الأصل، وأبو حسن البواب، وأبو علي عامل الطورية الكادح، وبعدها انتقلت إلى شخصيات المقاومة الحقيقية في مخيم البريج، فنجد محمد الشريف أول شهيد في الانتفاضة، ومحمود عليان، وعبدالله حسين، وعبد المجيد السعيدني، وأحمد عبد الهادي، أما الفدائي فكان أحمد عمران حاكم مخيم النصيرات، والمقاتل الشرس، والأسير المتمرد، والشهيد البطل، وحسن العامودي فهو الفدائي والمقام والأسير المحرر.
اللغة: استخدمت الكاتبة لغةً بسيطةً سهلةً بعيدة عن التعقيد والخيال، حيث استخدمت الحوار بشكل قليل جداً بين الشخصيات، ونذكر منها:" يلا يما تعال اجري طير ع الدار خش في الوكر"، "تخافوش تخافوش اليهود دخلوا المخيم"، "أم محمد: هلحين دوري أنا، ردت أم العبد: أنا صافة ع الدور من الصبح ولا يمكن أخليكِ تملي جرتك قبلي"، وحديث موظفة الحمام التي تقول:" يلا يابنات خلصن بسرعة النسوان بستنن برة وأنت يا أم فايق قلتلك معك نص ساعة صارلك ساعة ليش طولتي".
وقد استخدمت بعض المصطلحات والكلمات الفلسطينية لتكون بمثابة توثيق على مدار الزمن، نذكر منها: العلية، بيت الطينة، البيكة، بايكة البقر، ليستها، الزقاق، القنو، ابرة البابور، كيس الخيش، الحوايا، كلاكيل، حنفية، الكاوشوك، الكيلة، اللجن، المؤن، قفة، خريطة، القاووش، سراج الكاز، الهباب، بنطلون الكاكي، حقيبة الشرايط، كربالة، الوكر، وغيرها من المصطلحات الشعبية الفلسطينية.
واتجهت فائقة لباب الفكاهة في سردها لبعض المواقف، فنذكر منها طوشة الحنفية التي نشبت بين أم محمد وأم العبد، فتقول:" تجاهلت أم محمد دور أم العبد وقدمت فوهة جرتها لتملأها، استفزت أم العبد وأزاحت الجرة بعنف لتضع قيزانها الحديدي مكانها، فانكسرت الجرة، ويحها ثكلتها أمها بدأت المعركة ارتفع الصراخ وعلت الأصوات بالشتائم وانتهت بالاشتباك بالأيدي وشد الشعر، المعركة الآن حامية الوطيس أمام الحنفية" (حكاية لاجئ: 30). وتقول أيضاً برغم رعبها وخوفها عندما اختبأت مع عائلتها في الوكر- وهو حفرة بطول مترين وعمق أقل من متر، سقفه من الزينجو الصدئ، مرتكزاً على أخشاب غليظة يعلوها تراب الحفرة، فتقول:" هرعت مع أمي وإخوتي إلى الوكر دخلت بعدنا خالتي وقد شل الرعب حركتها، وعلقت من فرط سُمنتها بالباب للحظات، فانقطع الهواء عن الوكر، وضاقت أنفاسي فشعرت أن الأكسجين قد نفد من الكون، وما أن دخلت حتى عدت إليَّ الحياة" (حكاية لاجئ، 115).
أما حالات الخوف والرعب التي أحاطت باللاجئ الفلسطيني على مدار الساعة، فقد جسدته في نص بطولة وانتقام، فبدأت من حيث نادى المنادي بمنع التجول وخروج الرجال إلى المدارس، بعدما نُفِذت عملية بطولية ضد كمين نصبته قوات الاحتلال الصهيونية للفدائيين في مخيم البريج، فقاموا بتفتيش البيوت، وحفر أرضها، وترويع أطفالها ونساءها باحثين عن الفدائيين، مسلطين أسلحتهم اتجاههم وكأنهم رهائن، أما عن الرجال فاستمر جلوسهم أكثر من سبع ساعات على الأرض دون حراك، فتململوا، وإذا بجندي حاقد صوب بندقيته اتجاههم فانطلقت منها ثلاث رصاصات أصابت أربعة من رجال المخيم، ومن بينهم جدي والد أمي (محمد محمود الشريف) أبو رمضان، والذي استشهد على إثرها بعد يومين فكان أول شهيد في الانتفاضة، وشُيع بجنازة شعبية حاشدة تاركاً خلفه ستة أبناء وزوجة حامل في شهرها الأول.
ولم يفُت الكاتبة ذكر بعض المواقف الجميلة رغم المأساة التي يعيشها لاجئ أصر على الحياة، فجسدت فرحة الأطفال في الطُعمة التي كانت تقدمها وكالة الغوث، فمنهم من يأكل وجبته ومنهم من يخبئها ويبيعها مقابل أقراص الجبجب الشهية، ووصفت تجمع العائلة حول الكانون وانتظار الأولاد لإبريق الشاي والبطاطا المشوية وبذور البطيخ المحمصة، ولم تنسَ فائقة حفل عيد الجلاء الوطني، فقد شاركت به وكانت من زهرات فلسطين، فكان الاحتفال بأجواءٍ ثورية وفرحة الانتصار، وانتقلت إلى سينما المخيم والتي كانت تقيمها وكالة الغوث مرة كل عام، تعرض فيه فلماً للترفيه عن اللاجئين لمدة ساعتين، ثم يعود كلاً منهم إلى معاناتهم اليومية بلا كهرباء فعم الظلام وانصرفوا إلى بيوتهم.
**
يُتبع بالجزء الثاني
عند الثالثة من بعد عصر الخميس الخامس عشر من ديسمبر انعقد لواء صالون نون الأدبي لمناقشة كتابيّ الأستاذة فايقة الصوص: حكاية لاجئ وذاكرة مخيم
بدأت الأستاذة فتحية اللقاء مستأذنة الحضور بقراءة الفاتحة عن روح المناضل الكبير سليم الزعنون أبو الأديب رئيس المجلس الوطني السابق، مقدمة العزاء للدكتورة مي وأفراد العائلة جميعا
ثم قالت: أما ونحن في ديسمبر الذي ودعنا به خنساء فلسطين وشاعرتها الأولى فدوى طوقان، لابد أن نرسل لها الدعوات الصادقات بالرحمة والمغفرة
ثم بدأت اللقاء الذي اعتبر فلسطينيا بامتياز قائلة:
إفكا قالوا سيموت الكبار، وسينسى الصغار، ففلسطين الولادة لا تنجب إلا الأوفياء لها، لتاريخها وشعبها وتمسكا بحقها، فلا ماتت ذاكرة الكبار، ولا سينسي في يوم الصغار ذكريات وطنهم
فذاكرة المخيم، وحكاية اللاجئ باقية، ولن يتوقف الكبار عن تلاوتها، ولن يتوقف الصغار عن سماعها وترديدها لأقرانهم، ومن سيأتي بعدهم من أجيال، فكل لاجئ سواء أكان مقيما في المخيم، أم كان خارجه في المدن الفلسطينية، ودول الشتات، يحمل حكايته بين ضلوعه ليرويها، لذا كنت أنا شخصيا مهمومة بتوثيق هذا التاريخ فأوردته في عدة كتب، منها:
* حكايات الأجداد للأحفاد بأجزائه السبعة - * كتاب حياتي
* كتاب الدولة الثامنة اللد - * رحلة داخل الأوطان (أم الريحان جنة الرحمن) تحدثت فيه عن أكبر المحميات الطبيعية في فلسطين
* رحلة غريب عسقلاني بين الغربة والإبداع، تحدثت فيه كثيرا عن عسقلان موقعا وتاريخا -
* ثم كان التوثيق لأمثالنا الشعبية
الحضور الكريم، أبناء الوطن الجميل، أهلا بكم ومرحبا.. سنطوف اليوم بكم بين المدن والقرى الفلسطينية، فمن الدولة الثامنة اللُد مدينتي الأصيلة، إلى بيت طيما واسدود وسمسم، جميعها مدننا وقرانا، وجميعها عزيز على قلوبنا
لكن بداية اسمحوا لي ونحو في ديسمبر الذي ودعنا به شاعرة فلسطين الأولى، خنساء فلسطين فدوى طوقان، أن نرسل لها دعواتنا بالرحمة والمغفر
ثم ندعو بالسلامة والشفاء للأخ الكبير سليم الزعنون أبو الأديب، شافاه الله وعافاه
أما بعد،،،
واستمرارا لهذا النهج الوطني نجتمع اليوم حول كتابين وثقت بهما الكاتبة لقضية اللجوء، وذاكرة المخيم، الكاتبة التي تنتمي لفلسطين الأم، ولبلدتها الأصلية بيت طيما
[rtl]المنشأة فوق رقعة منبسطة من السهل الساحلي الجنوبي بارتفاع 75 مترا عن سطح البحر، وقد بلغت مساحتها 60 دونماً لا يملك اليهود منها شيئاً، وتقع على مسافة 32 كيلو مترا إلى الشمال الشرقي من مدينة غزة، وتبعد كيلومترين إلى الجنوب الغربي من كوكبا، ونحو ثلاثة كيلومترات إلى الشمال الغربي من حليقات، وقرابة أربعة كيلومترات إلى الشرق من الجيّة[/rtl]
[rtl]تقوم بيت طيما فوق بقعة أثرية، وهي تضم رفات مجاهدين استشهدوا في الحروب الصليبية. وتقوم بجوارها خرائب أثرية كخربة بيت سمعان وخربة ساما[/rtl]
[rtl]كاتبتنا ابنة بيت طيما هي الأستاذة فايقة محمود إبراهيم الصوص (أم أيمن)[/rtl]
حصلت على الثانوية العامة في العام 1974م، وتخرجت من معهد معلمات رام الله في العام 1977م، ثم تزوجت وسافرت مع زوجها في ذات العام إلى الجزائر الشقيقة، وعملت هناك أستاذة للغة العربية قرابة العشرين عاما لتعود - كالكثيرين من أبناء شعبنا - إلى أرض الوطن مع السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1995م
عملت معلمة لأكثر من عشرين عاما أخرى في مدرسة البريج الابتدائية المشتركة أ للاجئين، تقاعدت عن التدريس في العام 2018م
لها مساهمات في الكثير من الأنشطة النقابية والمجتمعية والتربوية والرياضية والكشفية، فهي عضو في العديد من النقابات والمؤسسات الوطنية، وشاركت في العديد من الدورات
بعد تقاعدها من التعليم في العام 2018م اتخذت من قلمها وسيلة جديدة للنضال، حيث تفرغت لتوثيق الذاكرة الشفهية للاجئين الفلسطينيين، فأرخت حياة اللاجئ الفلسطيني في عشرات القصص والحكايات، وقد صورت فيها مختلف جوانب حياة اللاجئ: الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والنضالية في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تلك الحقبة المنسية من أذهان الجيل الحالي، جيل الأبناء والأحفاد
إصداراتها: أصدرت الكاتبة فايقة الصوص كتابين هما: (حكاية لاجئ) و(ذاكرة مخيم) وقد أثرت فيهما المكتبة العربية الفلسطينية. ويعتبر هذين الكتابين مراجع أرشيفية للأجيال، دونت فيهما ما حفظته في ذاكرتها من حياة اللجوء التي عاشتها في المخيم، فأخرجتها للأجيال بشكل أدبي ممتع
ولها مخطوطة شعر، قصائده وطنية، ستتم طباعتها في ديوان قريبا بإذن الله
هنا كانت الكلمة للأستاذة فائقة تحدثت بها عن أجواء كتابتها والهدف السامي من هذا التوثيق لحال اللاجئ الفلسطيني
**
وقالت الأستاذة فتحية الآن نتجه لقارئة كتاب حكاية لاجئ الناقدة المتميزة الأستاذة شهيناز أبو شبيكة، ابنة اسدود
على تل رملي يشرف على مساحات واسعة إلى الشرق والشمال والجنوب وفي مواجهة تلا مرتفعا إلى الغرب تنتصب قرية اسدود التي على الطريق الساحلي العام، تبعد عن شاطئ البحر بنحو خمسة كليو مترات، وعن الشمال الشرقي لمدينة غزة بنحو35 كيلو مترا، وترتفع 42 مترا عن سطح البحر، ويحيط بها أراضي قرى عرب سكرير، والبطاني، وبيت دراس، وحمامة، وبشيت
[rtl]من الأصل الكنعاني "اشدود" بمعنى الحصن أو القوة والجبروت، جاء اسم أسدود، وكانت إحدى الخمس مدن الفلسطينية الكبرى[/rtl]
[rtl]وقد دلت الحفريات الأثرية على أن بلدة أسدود كانت على جانب كبير من الحضارة والازدهار والغنى المادي، وهذا ما جعلها في القرن السادس قبل الميلاد عاصمة الفلسطينيين.[/rtl]
[rtl]أسهمت أسدود بدور بارز في الحركة الوطنية، إذ تأسس فيها أول نقابة للعمال باسم (جمعية العمال العربية) التابعة لمؤتمر العمال العرب الذي أسسته عصبة التحرر، كما نشط فيها عدد من رفاق عصبة التحرر الوطني[/rtl]
كُتب عن بلدة أسدود العديد من الكتابات منها:
* كتب زميلنا الدكتور عبد الله عبد الجليل المناعمة كتاب أسدود التاريخ والذاكرة
* كما وثق الأستاذ أحمد حسن جودة، لبلدته في كتاب اسدود قلعة الجنوب
[rtl]* وللمرحوم المناضل عبد الفتاح حميد (أبو علاء)، كتاب "من أعلام قرية أسدود" يتحدث فيه عن (78) علما من أعلام أسدود، ممن ساهموا في رفع المشاعل وحملوها علما وأدبا وفكرا ونضالا، وهدف الكتاب إلى إبراز مساهمات هؤلاء الأعلام في مجمل الشؤون الحضارية في قرية أسدود وأهلها".[/rtl]
إنها شهيناز غازي ابو شبيكة ناقدة وباحثة فلسطينية أسدودية الأصل حاصلة على بكالوريوس أساليب تدريس اللغة العربية من جامعة القدس المفتوحة، وماجستير لغة عربية في الأدب والنقد من جامعة القدس المفتوحة فرع غزة، ودبلوم في الدراسات الفلسطينية من أكاديمية اللاجئين الفلسطينيين في لندن، وعضو في العديد من المراكز الثقافية
بعد هذه التقدمة بدأت الأستاذة شهيناز بعرض قراءتها والتي جاء بها:
دراسة موضوعية لحكاية مخيم للكاتبة فائقة الصوص
نحن أمام كتاب جمع بين دفتيه القليل من الويلات والمآسي التي عاشها اللاجئ الفلسطيني، فقد عادت الكاتبة بذاكرتها البعيدة لتجسد المعاناة اليومية للاجئ المنكوب، فنسجت بقلمها الخجول الماضي القاسي، ورسمت معالم مخيم اللجوء رامزةً لحق العودة، وخزنت في ذاكرة الأجيال الحاضرة كل ما واجهه جيل النكبة والنكسة معاَ، فبدأت من أصل الحكاية بتآمر البريطانيون واليهود لإخلاء الأرض ووعد المجحف، فكانت البداية بليلة سوداء حالكة، ومجازر تفوق حد الوصف، أشلاء متناثرة، أطفال مقتولين، شلال الدم الجاري، مشاهد مروعة، عمت أخبار المجازر أنحاء الوطن، دب الرعب في القلوب، بات الكل يترقب، خرج الجميع ناجين بأنفسهم وأطفالهم، وأوراق ملكياتهم، ومفاتيح بيوتهم على أمل العودة الذي طالت، أقيمت المخيمات وبدأت الأونروا بمهامها.
وقد أصرت الكاتبة على حق العودة فجسدته على طول كتابها، فقالت في البداية:" جميع اللاجئين ينتظرون يوماً موعوداً يتحقق فيه حلمهم بالعودة إلى ديارهم، وانتقلت إلى قصة فدائية من بيت طيما قائلة:" كما يحتفظ كل فلسطيني بأوراق ملكيته لأرضه ويخبئها في قلبه وعيونه لتظل ميراثاً للأجيال، إنه الحق الذي لا يسقط بالتقادم وما ضاع حق وراءه مطالب"، وتقول على لسان أبو محمد اللاجئ: وهو ذاهب لاستقبال الجيوش العربية قبل معرفتهم بالخذلان والخدعة: "يا إم محمد إزا شفتيني اتأخرت الحئيني ع اللد". أما حلمها فجسدته بإنهاء الأطفال لعبتهم بانتصار العرب على اليهود، تعبيراً عن إيمانهم بفكرة المقاومة والانتصار، وتقول مؤكدة اصرارها:" كانت لنا بيارات وهجرنا منها وكنا أسياداً فيها ولا زلنا محتفظين بأوراق ملكيتها مؤمنين بالعودة إليها ذات يوم"، ورغم بدئها بنصوص التهجير والقتل إلا أنها أنهت كتابها بالعودة إلى بيت طيما، فتقول:" لا تزال قلوبنا معلقة بها نحلم بعودتنا عسى أن تكون قريبة".
وقدمت الكاتبة مشاهد لمعاناة اللاجئ اليومية بكل تفاصيلها حتى أشعرتنا وكأننا نعيش في ذاك الزمن، فبدأت بالحنفية العمومية، والمشقة التي عاشتها المرآة الفلسطينية في الحصول على الماء، والمرحاض العمومي ذو الباب المتهالك، والمعاناة الجماعية في الانتظار ساعات الصباح، والحمام العمومي الذي كان مسموح به مرة واحدة في الأسبوع، والمؤن وذل اللاجئ الفلسطيني في الحصول على قوة يومه بعدما كان هو صاحب الأرض وسيدها، ومشقة العربنجي في توصيل حمله مقابل قروش زهيدة، أما الحالة الصحية وقتها، فكانت عيادة المخيم أو (الصحية)- كما ذكرت الكاتبة-، فغرفها ضيقة وأثاثها عبارة عن طاولة وكرسي قديم، وطبيب لا حاجة له بسماع شكوى المريض، فالعلاج واحد لجميع أنواع المرض، وهو السائل الأحمر المر، يوضع في زجاجة فارغة أحضرها المريض معه من بيته، أو حقنة مكررة الاستخدام، أما علاج الأسنان فكان الخلع فلا حشوات ولا علاج، فاختصروا مشقتهم وأصبحوا يعالجون أنفسهم بأنفسهم، وجسدت معاناة الأطفال وتذمرهم من تناول الحليب المالح وزيت السمك، وتعرضهم للرش بالمبيدات الحشرية لمنع انتشار الحشرات في الجسد والشعر بسبب قلة النظافة والاستحمام، أما معاناة تلاميذ المدارس في الوصول لمدارسهم عبر الشوارع الموحلة بالطين فكانت قمة التعاسة، فأحذيتهم عبارة عن زنوبات وأحذية من قماش لا تقاوم الأوحال، فتغوص أقدامهم في الطين، وتتلطخ ملابسهم وحقائبهم القماش بالوحل، وذكرت عمال الحصمة الكادحين المعرضين للموت بأي لحظة مقابل القليل من المال.
ونلحظ أن الكاتبة قد ذكرت بعض الأسماء لشخصيات المخيم، فأول شخصية هي جدتها مريم الطيماوية العنيدة التي أصرت على العودة إلى بيتها ليلاً لتأتي بأوراق الطابو، وحليمة صاحبة الضحكة الرنانة، وكريمة التي تخيط الصوف، وأم محمد وأم العبد المتعاركتان على تعبئة الماء، وأم عطية المثقلة بحملها، وصبحية موظفة الحمام، وكاتب الطعمة حسين الهندي باكستاني الأصل، وأبو حسن البواب، وأبو علي عامل الطورية الكادح، وبعدها انتقلت إلى شخصيات المقاومة الحقيقية في مخيم البريج، فنجد محمد الشريف أول شهيد في الانتفاضة، ومحمود عليان، وعبدالله حسين، وعبد المجيد السعيدني، وأحمد عبد الهادي، أما الفدائي فكان أحمد عمران حاكم مخيم النصيرات، والمقاتل الشرس، والأسير المتمرد، والشهيد البطل، وحسن العامودي فهو الفدائي والمقام والأسير المحرر.
اللغة: استخدمت الكاتبة لغةً بسيطةً سهلةً بعيدة عن التعقيد والخيال، حيث استخدمت الحوار بشكل قليل جداً بين الشخصيات، ونذكر منها:" يلا يما تعال اجري طير ع الدار خش في الوكر"، "تخافوش تخافوش اليهود دخلوا المخيم"، "أم محمد: هلحين دوري أنا، ردت أم العبد: أنا صافة ع الدور من الصبح ولا يمكن أخليكِ تملي جرتك قبلي"، وحديث موظفة الحمام التي تقول:" يلا يابنات خلصن بسرعة النسوان بستنن برة وأنت يا أم فايق قلتلك معك نص ساعة صارلك ساعة ليش طولتي".
وقد استخدمت بعض المصطلحات والكلمات الفلسطينية لتكون بمثابة توثيق على مدار الزمن، نذكر منها: العلية، بيت الطينة، البيكة، بايكة البقر، ليستها، الزقاق، القنو، ابرة البابور، كيس الخيش، الحوايا، كلاكيل، حنفية، الكاوشوك، الكيلة، اللجن، المؤن، قفة، خريطة، القاووش، سراج الكاز، الهباب، بنطلون الكاكي، حقيبة الشرايط، كربالة، الوكر، وغيرها من المصطلحات الشعبية الفلسطينية.
واتجهت فائقة لباب الفكاهة في سردها لبعض المواقف، فنذكر منها طوشة الحنفية التي نشبت بين أم محمد وأم العبد، فتقول:" تجاهلت أم محمد دور أم العبد وقدمت فوهة جرتها لتملأها، استفزت أم العبد وأزاحت الجرة بعنف لتضع قيزانها الحديدي مكانها، فانكسرت الجرة، ويحها ثكلتها أمها بدأت المعركة ارتفع الصراخ وعلت الأصوات بالشتائم وانتهت بالاشتباك بالأيدي وشد الشعر، المعركة الآن حامية الوطيس أمام الحنفية" (حكاية لاجئ: 30). وتقول أيضاً برغم رعبها وخوفها عندما اختبأت مع عائلتها في الوكر- وهو حفرة بطول مترين وعمق أقل من متر، سقفه من الزينجو الصدئ، مرتكزاً على أخشاب غليظة يعلوها تراب الحفرة، فتقول:" هرعت مع أمي وإخوتي إلى الوكر دخلت بعدنا خالتي وقد شل الرعب حركتها، وعلقت من فرط سُمنتها بالباب للحظات، فانقطع الهواء عن الوكر، وضاقت أنفاسي فشعرت أن الأكسجين قد نفد من الكون، وما أن دخلت حتى عدت إليَّ الحياة" (حكاية لاجئ، 115).
أما حالات الخوف والرعب التي أحاطت باللاجئ الفلسطيني على مدار الساعة، فقد جسدته في نص بطولة وانتقام، فبدأت من حيث نادى المنادي بمنع التجول وخروج الرجال إلى المدارس، بعدما نُفِذت عملية بطولية ضد كمين نصبته قوات الاحتلال الصهيونية للفدائيين في مخيم البريج، فقاموا بتفتيش البيوت، وحفر أرضها، وترويع أطفالها ونساءها باحثين عن الفدائيين، مسلطين أسلحتهم اتجاههم وكأنهم رهائن، أما عن الرجال فاستمر جلوسهم أكثر من سبع ساعات على الأرض دون حراك، فتململوا، وإذا بجندي حاقد صوب بندقيته اتجاههم فانطلقت منها ثلاث رصاصات أصابت أربعة من رجال المخيم، ومن بينهم جدي والد أمي (محمد محمود الشريف) أبو رمضان، والذي استشهد على إثرها بعد يومين فكان أول شهيد في الانتفاضة، وشُيع بجنازة شعبية حاشدة تاركاً خلفه ستة أبناء وزوجة حامل في شهرها الأول.
ولم يفُت الكاتبة ذكر بعض المواقف الجميلة رغم المأساة التي يعيشها لاجئ أصر على الحياة، فجسدت فرحة الأطفال في الطُعمة التي كانت تقدمها وكالة الغوث، فمنهم من يأكل وجبته ومنهم من يخبئها ويبيعها مقابل أقراص الجبجب الشهية، ووصفت تجمع العائلة حول الكانون وانتظار الأولاد لإبريق الشاي والبطاطا المشوية وبذور البطيخ المحمصة، ولم تنسَ فائقة حفل عيد الجلاء الوطني، فقد شاركت به وكانت من زهرات فلسطين، فكان الاحتفال بأجواءٍ ثورية وفرحة الانتصار، وانتقلت إلى سينما المخيم والتي كانت تقيمها وكالة الغوث مرة كل عام، تعرض فيه فلماً للترفيه عن اللاجئين لمدة ساعتين، ثم يعود كلاً منهم إلى معاناتهم اليومية بلا كهرباء فعم الظلام وانصرفوا إلى بيوتهم.
**
يُتبع بالجزء الثاني