بسم الله الرحمن الرحيم
وجهة نظر في اعادة بناء المجتمع وتأهيله للفضيلة
بعد ان هوت وخوت مجتمعاتنا وافلست من رصيد حضارتها ، وتأخرت عن التقدم، وخسرت موروثها العلمي وجهلت مفاهيم دينها الذي هو من اهم اسباب النهوض، فتخلفت عن مصاف الامم والشعوب ، بعد ان كانت خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،ولا تقبل الا مكانة الصدارة بين الامم التي ندبها الله تعالى لتتبوأها، فقد قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة/143 .
وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة لتبين أن المراد من قوله سبحانه و تعالى : ( أمة وسطاً ) أي : عدلاً خياراً . وأن المراد من الشهادة على الناس : الشهادة على الأمم يوم القيامة أن رسلهم قد بلغوهم رسالات الله . ولم تخرج كلمات المفسرين عن ذلك المعنى ... حيث روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلام يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ؛ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ أَوْ مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ , قَالَ : فَيُقَالُ لِنُوحٍ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ , قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) قَالَ : الْوَسَطُ الْعَدْلُ ) وزاد أحمد : ( قَالَ : فَيُدْعَوْنَ فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاغِ , قَالَ : ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ ) .
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " والوسط ههنا الخيار والأجود , كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي : خيارها , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه , أي أشرفهم نسباً , ومنه : الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها . .
وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة : " فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها , ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به , وبما جاءكم به من عندي " انتهى .
فهذا هو الحال الذي اراده الله تعالى لهذه الامة،ان تكون امة الصدارة وان تكون امة الشهادة على الامم ، ولا يشهد الا العدول الخيار أجود الناس وأحسنهم سمتا وخلقا وسلوكا ...
وهذا لا يتحقق للامة الا بالايمان بالله واليوم الاخر والكتاب وان ما جاء فيه من الله تعالى ايمانا دافعا للعمل وموجها ومهذبا للسلوك ، وبانيا للافكار والمفاهيم والقيم ...
وهذا لا يتحقق الا بوجود عناصر مهمةفاعلة في المجتمع :-
واولها : وجوب وجود الاب المؤمن المشفق حقا على بنيه ، و وجود رب العائلة المشفق والناصح حقا لأهله :-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم6].
وثانياً:- وجود الام المربية الصالحة الفاضلة وقد ذكر لنا رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه واله عن مكانة الأم في المجتمع والحياة، وأن الأم هي أهم ما يجب على الإنسان الاعتناء به، فقد جاء إلى النبي محمد صل الله عليه وسلم رجلاً يسأل، من أحقُّ النّاس بحسن صحابتي، فقال النبي أمك، قال ثم من، قال أمك، قال ثم من، قال أمك قال ثم من، قال أبوكَ، وهذا من أهم واعظم الأحاديث التي ثبتت عن النبي محمد صل الله عليه وسلم التي تبين لنا مكانة الأم في الإسلام والمجتمع المؤمن. وذلك لإنّ الأم هي من تُنشئ أطفالها تنشئة صالحة، حيث قال الرسول محمد صلّ الله عليه وسلّم في ذلك: (المرأةُ في بيتِ زوجها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيتها)، فهي من تقوم بتربية أطفالها على الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة،وقد جعل الله تعالى حق حضانة الاولاد وتنشئتهم للأم وان كانت مطلقة ، وذلك لما للأم من اهمية في حياة الاطفال وتربيتهم ..فهي التي تقوم بالمساهمة في بناءِ شخصية الرجل وصقلها ...
وهنا يجدر بنا ان نتذكر قول الشاعر:-
ولم أرَ للخلائق من محلٍّ
يُهذِّبها كحِضن الأمهات
فحضْن الأمِّ مدرسة تسامتْ
بتربية البنين أو البنات
وأخلاقُ الوليدِ تقاسُ حسنًا
بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيبُ عاليةِ المزايا
كمثل ربيبِ سافلة الصفات
الى ان يقول:-
فكيف نظنُّ بالأبناء خيرًا
إذا نشئوا بحضن الجاهلات؟!
وهل يُرجَى لأطفالٍ كمالٌ
إذا ارتضعوا ثُدِيَّ الناقصات؟!
ان وجود الأبوين الواعيين على تكوين الاسرة المؤمنة ذات رسالة البناء امر ضروري لأي بناء حضاري ...
وثالثا:- وجود المعلم المربي القدوة في فكره وعقيدته وسلوكه و المرشد للهدى والحق بالحق، سواءً كان ذلك في المسجد او المدرسة او الجامعة او المجالس والاعلام، او حيث تتاح لهم فرصة الكلمة كمواقع التواصل الاجتماعي اليوم والصحف والمجلات والاذاعات المسموعة والمرئية...وفي هذا الشأن نروي ما اخرجه الامام الطبراني من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر".
وما يُروى من حديث البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة".
وكذلك ما اخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلمي الناس الخير».
وكما ورد الاستغفار أيضًا لطالب العلم؛ ففي "مسند الإمام أحمد" عن قبيصة بن المخارق قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك؟ قلت: كبر سني، ورق عظمي، وأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به". قال: "يا قبيصة، ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك".
والتعليم المثمر هنا هو ما يكون مبذولا من اهله تعبدا لله وابتغاء مرضاة الله تعالى لطالبه المبتغي به وجه الله تعالى متعبدا به لربه عز وجل ايضاً .... قال الله تعالى:- ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[ هود: 51]
التفسير: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وترك عبادة الأوثان والاصنام أجرًا، و ما أجري على دعوتي لكم إلا على الله الذي خلقني وأبدعني، أفلا تعقلون فتميِّزوا بين الحق والباطل؟ ! وهنا انتفى مانع القبول ان كان عرض الدنيا والاجر ،فتعليمه هنا مجاني لقاء وابتغاء الاجر من الله تعالى، فلا يلتفت الداعي والمرشد المعلم المربي الى ما في ايدي الناس من حطام الدنيا، ولا يسعى الى نوال منصب او تحقيق مكانة عندهم، بل يحتسب ذلك قربة الى الله تعالى،وهذا سر عظيم في نجاح دعوة الدعاة الى ربهم سبحانه وتعالى على مر تاريخ البشرية.لان الالتفات لما في ايدي الناس يُرخص الدعاة ويجعل الناس تستهين في امرهم وتسقط هيبتهم ...
وكم ظنَّ بعض الناسُ بالمصلحين الصادقين الطمعَ بما في أيديهم، فأبعدَهم ذلك عن تصديقهم! فعلى المُصلحِ المخلص أن يُعلن براءةَ ساحته مما ظنوه به.
لانه يعتقد جازما أن ما في الكون من رزّاقٍ إلا اللهُ الواحدُ الخلّاق، ومَن آمن به وحدَه خالقًا، وثِقَ به وحده رازقًا. فالدعوة لله ليست وظيفة تكسب يتكسب الانسان منها دنياه وينافس بها دنيا الناس وينازعهم مكاسبهم ، بل هي تعبد يؤديه المؤمن مخلصا دينه لله الواحد الأحد .. قال تعالى: - (وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ)(البينة 5)
و لو عقَل الناسُ ما ارتَضَوا سوى ما ارتضاه الله لعباده من الدين؛ فإنه التشريعُ المنزَّهُ عن النقائص والهنات، والمحلَّى بالكمال والجمال.
رابعا:- ان العقيدة العملية الصحيحة التي تربط الانسان بربه تصنع العقلية المؤمنة التي تربط امور الدنيا بالاخرة وتجعل غاية المؤمن نوال مرضاة ربه في شأنه كله فيتخذ من مقياس الحلال والحرام مقياسا لاقواله وافعاله في سلوكه، ومن منهج العقيدة مقياسا لافكاره ومفاهيمه وقيمه.
فلذلك وجدنا العلماء والدعاة المؤثرين في تارخ الامة يمتهنون المهن حتى اصبح الكثير منهم يُنسب الى مهنته .. فقد كان طلب المعاش ليأكل من كد يده على صلة وثيقة في آن واحد مع طلب العلم وتعليمه ، وقد حاول الأستاذ عبد الباسط بن يوسف الغريب في كتابه اللطيف: (الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة) حاول استقراء المهن والحرف ومَنْ نسب إليها، وقد بذل جهداً طيباً وحصراً بديعاً.
فأورد – ضمن ما أورد – من مهن العلماء وحرفهم: الخشاب، والحداد، والصواف، والبقال، والبصال، والقفال، والجمال، والبناء والتبان، الجيلاني، الحصري، الخراز، الدلاَّل، الذهبي، الزجاج، السّقا، الصابوني، الضراب، الطحان، العطار، الغراء، القطان، الكسائي، اللؤلؤي، الماوردي، النقّاش، الوراق، الياقوتي والقائمة تطول ومن اراد زيادة المعرفة فعليه بالكتاب المذكور .....
خامساً:- تربية النشيء على معالي المعاني وراقي القيم التي حفلت بها سيرة نبينا العطرة وشمائله الكريمة واحاديثه الشريفة، و التي جعلته قرانا يمشي على الارض ، وكذلك فضائل الاخلاق و عظيم الامجاد التي حققها الاجداد ،و التي زخرت بها كتب الادب وقصص التاريخ والسير ودواوين الشعراء السنة عصورهم ومرآتها ...
سادسا: تعليم النشيء بلاضافة الى تعليمهم مرضاة ربهم مهنا عملية يتكسبون منها عيشهم، وترغيبهم في ذلك ليتعلموا عفة النفس ويتعلموا ما يعف انفسهم عن حاجة الناس والمذلة للخلق ...
وذلك لما رواه البخاري في الصحيح، يقول النبي ﷺ:- (ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ).
سابعا :- اسلوب التعليم والتدريس والتربية الذي يفتقر الى الناحية العملية والسلوكية وضرب المثل و القدوة والاسوة الحسنة، من اهم اسباب انحطاط النشيء.. وذلك حين تسقط هيبة الاب في بيته كقدوة اولى للطفل، وحين تهبط النظرة للام كمدرسة اولى للطفل،وذلك حين يكون دورهما -اي الابوين- مجرد دور بيلوجي عاطفي بهيمي، وكأن الاطفال ايتام الاب والام، وكذلك حين تسقط هيبة المعلم في المدرسة، فماذا تنتظر من نشيء ينشأ في هكذا اجواء وبيئة؟! وتكتمل المصيبة عندما تسقط هيبة الامام وخطيب المسجد في المجتمع، وذلك باتخاذ عملهم مجرد وظيفة للتكسب ، وحين تسقط هيبة الدعاة في الامة حين يطالبون الامة بالتوحد والتاخي وهم اعداء متناحرون يطعن كل منهم في الاخر دون اهتمام لحرمة دين او عرض ..!! فأنى لمثل هذا المجتمع ان ينهض لمعالي القيم وسامي المعالي ؟؟!!
هذا ما يحضرني ومن عنده زيادة فليزودنا ويزدنا، اللهم زدنا علما وارزقنا خشيتك واجعلنا للمتقين اماما وذرياتنا وذريات المسلمين اللهم امين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
وجهة نظر في اعادة بناء المجتمع وتأهيله للفضيلة
بعد ان هوت وخوت مجتمعاتنا وافلست من رصيد حضارتها ، وتأخرت عن التقدم، وخسرت موروثها العلمي وجهلت مفاهيم دينها الذي هو من اهم اسباب النهوض، فتخلفت عن مصاف الامم والشعوب ، بعد ان كانت خير امة اخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر،ولا تقبل الا مكانة الصدارة بين الامم التي ندبها الله تعالى لتتبوأها، فقد قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) البقرة/143 .
وجاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في تفسير هذه الآية الكريمة لتبين أن المراد من قوله سبحانه و تعالى : ( أمة وسطاً ) أي : عدلاً خياراً . وأن المراد من الشهادة على الناس : الشهادة على الأمم يوم القيامة أن رسلهم قد بلغوهم رسالات الله . ولم تخرج كلمات المفسرين عن ذلك المعنى ... حيث روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُدْعَى نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلام يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ : هَلْ بَلَّغْتَ ؟ فَيَقُولُ : نَعَمْ ؛ فَيُدْعَى قَوْمُهُ فَيُقَالُ لَهُمْ : هَلْ بَلَّغَكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ أَوْ مَا أَتَانَا مِنْ أَحَدٍ , قَالَ : فَيُقَالُ لِنُوحٍ : مَنْ يَشْهَدُ لَكَ ؟ فَيَقُولُ : مُحَمَّدٌ وَأُمَّتُهُ , قَالَ : فَذَلِكَ قَوْلُهُ : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ) قَالَ : الْوَسَطُ الْعَدْلُ ) وزاد أحمد : ( قَالَ : فَيُدْعَوْنَ فَيَشْهَدُونَ لَهُ بِالْبَلاغِ , قَالَ : ثُمَّ أَشْهَدُ عَلَيْكُمْ ) .
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية : " والوسط ههنا الخيار والأجود , كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي : خيارها , وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطاً في قومه , أي أشرفهم نسباً , ومنه : الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات وهي صلاة العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها . .
وقال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية الكريمة : " فمعنى ذلك : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً عدولاً شهداء لأنبيائي ورسلي على أممها بالبلاغ أنها قد بلغت ما أمرت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها , ويكون رسولي محمد صلى الله عليه وسلم شهيداً عليكم بإيمانكم به , وبما جاءكم به من عندي " انتهى .
فهذا هو الحال الذي اراده الله تعالى لهذه الامة،ان تكون امة الصدارة وان تكون امة الشهادة على الامم ، ولا يشهد الا العدول الخيار أجود الناس وأحسنهم سمتا وخلقا وسلوكا ...
وهذا لا يتحقق للامة الا بالايمان بالله واليوم الاخر والكتاب وان ما جاء فيه من الله تعالى ايمانا دافعا للعمل وموجها ومهذبا للسلوك ، وبانيا للافكار والمفاهيم والقيم ...
وهذا لا يتحقق الا بوجود عناصر مهمةفاعلة في المجتمع :-
واولها : وجوب وجود الاب المؤمن المشفق حقا على بنيه ، و وجود رب العائلة المشفق والناصح حقا لأهله :-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾[التحريم6].
وثانياً:- وجود الام المربية الصالحة الفاضلة وقد ذكر لنا رسولنا الكريم صلوات ربي وسلامه عليه واله عن مكانة الأم في المجتمع والحياة، وأن الأم هي أهم ما يجب على الإنسان الاعتناء به، فقد جاء إلى النبي محمد صل الله عليه وسلم رجلاً يسأل، من أحقُّ النّاس بحسن صحابتي، فقال النبي أمك، قال ثم من، قال أمك، قال ثم من، قال أمك قال ثم من، قال أبوكَ، وهذا من أهم واعظم الأحاديث التي ثبتت عن النبي محمد صل الله عليه وسلم التي تبين لنا مكانة الأم في الإسلام والمجتمع المؤمن. وذلك لإنّ الأم هي من تُنشئ أطفالها تنشئة صالحة، حيث قال الرسول محمد صلّ الله عليه وسلّم في ذلك: (المرأةُ في بيتِ زوجها راعيةٌ وهي مسؤولةٌ عن رعيتها)، فهي من تقوم بتربية أطفالها على الأخلاق الحميدة والصفات الحسنة،وقد جعل الله تعالى حق حضانة الاولاد وتنشئتهم للأم وان كانت مطلقة ، وذلك لما للأم من اهمية في حياة الاطفال وتربيتهم ..فهي التي تقوم بالمساهمة في بناءِ شخصية الرجل وصقلها ...
وهنا يجدر بنا ان نتذكر قول الشاعر:-
ولم أرَ للخلائق من محلٍّ
يُهذِّبها كحِضن الأمهات
فحضْن الأمِّ مدرسة تسامتْ
بتربية البنين أو البنات
وأخلاقُ الوليدِ تقاسُ حسنًا
بأخلاق النساء الوالدات
وليس ربيبُ عاليةِ المزايا
كمثل ربيبِ سافلة الصفات
الى ان يقول:-
فكيف نظنُّ بالأبناء خيرًا
إذا نشئوا بحضن الجاهلات؟!
وهل يُرجَى لأطفالٍ كمالٌ
إذا ارتضعوا ثُدِيَّ الناقصات؟!
ان وجود الأبوين الواعيين على تكوين الاسرة المؤمنة ذات رسالة البناء امر ضروري لأي بناء حضاري ...
وثالثا:- وجود المعلم المربي القدوة في فكره وعقيدته وسلوكه و المرشد للهدى والحق بالحق، سواءً كان ذلك في المسجد او المدرسة او الجامعة او المجالس والاعلام، او حيث تتاح لهم فرصة الكلمة كمواقع التواصل الاجتماعي اليوم والصحف والمجلات والاذاعات المسموعة والمرئية...وفي هذا الشأن نروي ما اخرجه الامام الطبراني من حديث جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "معلم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر".
وما يُروى من حديث البراء بن عازب، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء، يحبهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة".
وكذلك ما اخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر؛ ليصلون على معلمي الناس الخير».
وكما ورد الاستغفار أيضًا لطالب العلم؛ ففي "مسند الإمام أحمد" عن قبيصة بن المخارق قال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك؟ قلت: كبر سني، ورق عظمي، وأتيتك لتعلمني ما ينفعني الله به". قال: "يا قبيصة، ما مررت بحجر ولا شجر ولا مدر إلا استغفر لك".
والتعليم المثمر هنا هو ما يكون مبذولا من اهله تعبدا لله وابتغاء مرضاة الله تعالى لطالبه المبتغي به وجه الله تعالى متعبدا به لربه عز وجل ايضاً .... قال الله تعالى:- ﴿ يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[ هود: 51]
التفسير: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وترك عبادة الأوثان والاصنام أجرًا، و ما أجري على دعوتي لكم إلا على الله الذي خلقني وأبدعني، أفلا تعقلون فتميِّزوا بين الحق والباطل؟ ! وهنا انتفى مانع القبول ان كان عرض الدنيا والاجر ،فتعليمه هنا مجاني لقاء وابتغاء الاجر من الله تعالى، فلا يلتفت الداعي والمرشد المعلم المربي الى ما في ايدي الناس من حطام الدنيا، ولا يسعى الى نوال منصب او تحقيق مكانة عندهم، بل يحتسب ذلك قربة الى الله تعالى،وهذا سر عظيم في نجاح دعوة الدعاة الى ربهم سبحانه وتعالى على مر تاريخ البشرية.لان الالتفات لما في ايدي الناس يُرخص الدعاة ويجعل الناس تستهين في امرهم وتسقط هيبتهم ...
وكم ظنَّ بعض الناسُ بالمصلحين الصادقين الطمعَ بما في أيديهم، فأبعدَهم ذلك عن تصديقهم! فعلى المُصلحِ المخلص أن يُعلن براءةَ ساحته مما ظنوه به.
لانه يعتقد جازما أن ما في الكون من رزّاقٍ إلا اللهُ الواحدُ الخلّاق، ومَن آمن به وحدَه خالقًا، وثِقَ به وحده رازقًا. فالدعوة لله ليست وظيفة تكسب يتكسب الانسان منها دنياه وينافس بها دنيا الناس وينازعهم مكاسبهم ، بل هي تعبد يؤديه المؤمن مخلصا دينه لله الواحد الأحد .. قال تعالى: - (وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعْبُدُواْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَيُؤْتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ ٱلْقَيِّمَةِ)(البينة 5)
و لو عقَل الناسُ ما ارتَضَوا سوى ما ارتضاه الله لعباده من الدين؛ فإنه التشريعُ المنزَّهُ عن النقائص والهنات، والمحلَّى بالكمال والجمال.
رابعا:- ان العقيدة العملية الصحيحة التي تربط الانسان بربه تصنع العقلية المؤمنة التي تربط امور الدنيا بالاخرة وتجعل غاية المؤمن نوال مرضاة ربه في شأنه كله فيتخذ من مقياس الحلال والحرام مقياسا لاقواله وافعاله في سلوكه، ومن منهج العقيدة مقياسا لافكاره ومفاهيمه وقيمه.
فلذلك وجدنا العلماء والدعاة المؤثرين في تارخ الامة يمتهنون المهن حتى اصبح الكثير منهم يُنسب الى مهنته .. فقد كان طلب المعاش ليأكل من كد يده على صلة وثيقة في آن واحد مع طلب العلم وتعليمه ، وقد حاول الأستاذ عبد الباسط بن يوسف الغريب في كتابه اللطيف: (الطرفة فيمن نسب من العلماء إلى مهنة أو حرفة) حاول استقراء المهن والحرف ومَنْ نسب إليها، وقد بذل جهداً طيباً وحصراً بديعاً.
فأورد – ضمن ما أورد – من مهن العلماء وحرفهم: الخشاب، والحداد، والصواف، والبقال، والبصال، والقفال، والجمال، والبناء والتبان، الجيلاني، الحصري، الخراز، الدلاَّل، الذهبي، الزجاج، السّقا، الصابوني، الضراب، الطحان، العطار، الغراء، القطان، الكسائي، اللؤلؤي، الماوردي، النقّاش، الوراق، الياقوتي والقائمة تطول ومن اراد زيادة المعرفة فعليه بالكتاب المذكور .....
خامساً:- تربية النشيء على معالي المعاني وراقي القيم التي حفلت بها سيرة نبينا العطرة وشمائله الكريمة واحاديثه الشريفة، و التي جعلته قرانا يمشي على الارض ، وكذلك فضائل الاخلاق و عظيم الامجاد التي حققها الاجداد ،و التي زخرت بها كتب الادب وقصص التاريخ والسير ودواوين الشعراء السنة عصورهم ومرآتها ...
سادسا: تعليم النشيء بلاضافة الى تعليمهم مرضاة ربهم مهنا عملية يتكسبون منها عيشهم، وترغيبهم في ذلك ليتعلموا عفة النفس ويتعلموا ما يعف انفسهم عن حاجة الناس والمذلة للخلق ...
وذلك لما رواه البخاري في الصحيح، يقول النبي ﷺ:- (ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ).
سابعا :- اسلوب التعليم والتدريس والتربية الذي يفتقر الى الناحية العملية والسلوكية وضرب المثل و القدوة والاسوة الحسنة، من اهم اسباب انحطاط النشيء.. وذلك حين تسقط هيبة الاب في بيته كقدوة اولى للطفل، وحين تهبط النظرة للام كمدرسة اولى للطفل،وذلك حين يكون دورهما -اي الابوين- مجرد دور بيلوجي عاطفي بهيمي، وكأن الاطفال ايتام الاب والام، وكذلك حين تسقط هيبة المعلم في المدرسة، فماذا تنتظر من نشيء ينشأ في هكذا اجواء وبيئة؟! وتكتمل المصيبة عندما تسقط هيبة الامام وخطيب المسجد في المجتمع، وذلك باتخاذ عملهم مجرد وظيفة للتكسب ، وحين تسقط هيبة الدعاة في الامة حين يطالبون الامة بالتوحد والتاخي وهم اعداء متناحرون يطعن كل منهم في الاخر دون اهتمام لحرمة دين او عرض ..!! فأنى لمثل هذا المجتمع ان ينهض لمعالي القيم وسامي المعالي ؟؟!!
هذا ما يحضرني ومن عنده زيادة فليزودنا ويزدنا، اللهم زدنا علما وارزقنا خشيتك واجعلنا للمتقين اماما وذرياتنا وذريات المسلمين اللهم امين ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..