ليس الإسلام أو الفكر الإسلامي قوالب جامدة، أو نصوصا حدية. ولو كان كذلك لانتهى إلى ما انتهت إليه أديان و إيديولوجيات
سادت ثم بادت.
ولكن الفكر الإسلامي يمتاز بقدرته الفائقة على التأقلم، وهو ما جعله يفاجئ الكثير من العلماء والباحثين، في أكثر من مكان وأكثر من
مرحلة تاريخية.
فطبيعته التي تمتاز بالتكيف مع الظروف ومع التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، هي التي ساهمت - بعد تعهد الخالق سبحانه
– في حفظ أصوله المتمثلة في القرآن والسنة.
ولذلك نجد علماء الإسلام ومفكريه والحاملين للوائه عبر الأزمنة والامكنة المختلفة يبرهنون على أن الإسلام هو الأفضل، كلما
ظهرت نظرية، أو برزت قيمة فكرية، أو طرحت الأسئلة الفلسفية بمختلف أشكالها الإيديولوجية.
وذلك يدل على طبيعة فوق عادية للقرآن والسنة، اللذين يستقي منهما الفكر الإسلامي أطروحاته.
وهو فكر غير معصوم، مما يجعل احتمال الإصابة والخطأ في فهم النص ورادا، باعتراف علماء الإسلام في القديم والحديث. وبذلك
ترفع القداسة عن الاجتهاد، والمجتهد مأجور في الحالتين، إذا توفرت النية الحسنة، وبذل الوسع في معرفة الحق.وقابلية المراجعة
والتراجع ورادة، وبالتالي فإن الفكر الإسلامي، لا يعد من اليقينيات التي تظل حكرا على النص الموحى به. أما الفهوم فهي قابلة
للصحة وللخطأ، وليست مقدسة، وليست وحيا من الله ولا نطقا باسمه. وهذه الخاصية هي التي أرست التسامح الحق في الفكر
الإسلامي، ورسمت آفاق تطوره وحيويته وضمنت بالتالي استمراره. فالأفكار التي أخذت طابع اليقينيات انهارت وانهارت مراجعها،
عندما اصطدمت بالحقائق الموضوعية والكونية والعلمية.
وربما فهمت الأقلية العلمانية في تركيا الإسلام، بطريقة أفضل-جزئيا- من بعض المسلمين، ( وإن كان فهما ينقصه العمق ) فقد كانت
هذه الأقلية المهووسة واضحة في تعريفها للاسلام بأنه " منهج حياة " ولذلك فهي واضحة في رفضها له، رغم أنها في اعتقادنا لو
فهمته على حقيقته لتغيرت نظرتها إليه. فما نحاول ابلاغه لقومنا العرب، هو أن " الإسلام منهج حياة " ويجب القبول به على هذا
الأساس، لا رفضه كما تفعل الأقلية العلمانية المتزمتة في تركيا، وتونس، من هذا المنطلق. والإسلام بالنسبة لنا ليس منهج حياة
فحسب، بل طريقة للتفكير وللتحليل أيضا. وانطلاقا من نظرة الإسلام للوجود و للحياة وللموت ولخلق الانسان وسعيه وأهدافه
ومآلاته، تكون، أو يجب أن تكون حياة الانسان الفرد، والمجتمع، منسجمة ومتسقة مع هذه النظرة وهذه المفاهيم.
إن الإسلام من الاتساع والرحابة، بما يجعله فضاء للكثير من الرؤى والأفكار، ما لم تخرج على أصوله وثوابته، أو تنزلق في خبث
النية أو سوء الطوية، التي يمكن أن يمحص بعضها الراسخون في العلم، ويبقى بعضها في علم الله تعالى، مما يمنع الافتئات،
ومحاسبة ما في الصدور.وهذه ميزة أخرى للاسلام، طالما طمستها السياسة، وتعامى عنها ضيق الأفق.
والفكر الإسلامي يثبت جدارته وتميزه في وجود الخصوم الايديولوجيين، فهو-لاستمداده أصوله من الوحيين-يوظف ذلك في تطوير
خطابه وتصحيحه وتقويته.
ولحكمة يعلمها الله عز وجل كان وجود المشركين والمنافقين واليهود، على خبثهم وأذاهم وجودا أسهم في تجلية محاسن الإسلام لدى
كل ذي فطرة سليمة.والأمر نفسه ينطبق على وجود الفرق والمذاهب في الفترات التالية لعصر صدر الإسلام.
من هنا ندرك قيمة القبول بالآخر في الفكر الإسلامي، ففي مجتمع المدينة لم يفرض الإسلام على اليهود التحول إلى الدين الجديد،
كما لم يفرضه على المشركين. وفي الفتوحات الإسلامية لم يكن الإسلام خيارا أوحد، فقد ظل غير المسلمين على دينهم ولم يرغم أحد
على دخول الإسلام، والجزية التي كانت تؤخذ منهم أقل مما يدفعه المقيمون اليوم في الغرب، وأقل بكثير جدا ( قياس مع الفارق،
كمقارنة السيف بالعصا ) من تكلفة الحماية التي تفرضها الدول الغربية الامبريالية على دولنا في عصرنا الراهن. وهذا ما يغيب كثيرا
على منتقدي الإسلام والمدافعين عنه على حد سواء.
وها هم المتطاولون على حكم الردة في الإسلام يتجاهلون أن هذا الحد-بدون ضوابطه الإسلامية-يطبق اليوم سرا داخل الكنيسة
الأرثوذكسية حيث اختفت آثار الكثير ممن أسلموا من النساء والرجال، إذ أن حكم الردة موجود في الكتب المقدسة لدى النصارى
واليهود. تماما كتعدد الزوجات من قبل الأنبياء: ابراهيم، يعقوب، وسليمان عليهم السلام. بل يقولون إن سليمان كانت لديه 300
زوجة و900 جارية ؟!!!
وهناك أمر مهم في الفكر الإسلامي يتعلق بالعبادات التوقيفية، والأحكام ثابتة الدلالة، وأبعادها المقاصدية، فهناك من حاول إظهار تلك
العبادات والأحكام بشكل حرفي، دون مقاصدها. وهناك من ركز على الأبعاد المقاصدية متجاوزا العبادات والاحكام في مظهرها
الشعائري والحرفي. وهناك طرف ثالث يصر على الصلة الوثقى ، -وهو على صواب كما نعتقد-
بين الأحكام والمقاصد على حد سواء.
فمن انتهى عن الفحشاء والمنكر، وهي مقاصد الصلاة، ليس في حل من الصلاة.كما ذهب إلى ذلك بعض الغنوصيين من الصوفية.
وتحقيق مقاصد العدالة لا يغني من تطبيق الأحكام، كما يرى بعض المعتزلة الجدد، ونحن نرى المعتزلة القدامى أقل انحرافاً ( في
تقديرنا ) من العصرانيين اليوم. فأولئك كانوا على الأقل، يحافظون على أركان الإسلام، ورغم ضلالهم في بعض المسائل، كموقفه
من مرتكب الكبيرة، لم يفضلوا كافرا على مسلم.
وعندما تحدثنا في الحلقات الماضية ( حركة التنوير الإسلامي في القرن 21 ) عن مرونة الفكر الإسلامي، قلنا إن تطبيق الشريعة
الإسلامية ليس مطلبا آنيا، وإنما يعود إلى الرغبة الشعبية. وتحدثنا عن مشاركة الإسلاميين في السلطة، وهي قضية لا تزال تثير
الكثير من الحوارات، والآراء، وهي تعود لتقدير المكاسب والخسائر من ذلك، حسب كل قطر وحسب الظرف. فما هو غير ممكن
في الوقت الحاضر قد يكون ضروريا وربما حتميا في وقت آخر. وهذا ما يجعل الجزم بهذا أوذاك، سقوطا في تثبيت ما هو متغير.
وعلى الإسلاميين بذل الوسع فكريا وسياسيا لا لاقناع الشعب فحسب، بل نخبه، بضرورة صياغة مجتمع اسلامي يتسع للجميع، من
خلال تحديد عناصر هويتنا، وأهدافنا الكبرى، والأولويات التي نعالجها والتحديات التي نواجهها، ضمن استراتيجية موحدة، ثم يكون
التنافس في التفاصيل، والشعب والأمة هما الفيصل في نهاية الأمر، ولا يمكن النضال ضد وصاية لفرض وصاية أخرى، من نفس
النوع، أو من أي نوع آخر