الزندقة
يطلق اسم زنديق - بالفارسية (زند كراي) - على الملحد الذي لا يؤمن بوحدانية الله ولا باليوم الآخر. وقد شاعت الزندقة
في فارس وأطلقت على من ظل معتنقا تعاليم (مزدك) و (ماني) التي تدعو إلى عبادة إلهين إله النور, وإله الظلمة وأباحت ما حرم
الإسلام من حرمات, وتأثرت بعقائد الهند التي تقول بالتناسخ والحلول, ثم تدثرت بدثار التشيع وأخذت تقاوم الإسلام, وكانت ترمي
بذلك إلى تحقيق هدفين:
الانتقاض على الحكم العربي وإفساد عقيدة المسلمين.
أما الانتقاض فقد جرى على أسلوبين, أحدهما سياسي ساعد عليه تقريب العناصر الفارسية ومشاركة الخليفة العباسي في
السلطة, وأحيانا الاستقلال بها من دونه بتفويض منه. فقد كانت هذه العناصر تحلم بإعادة مجدها المفقود وتشجع حركات الزندقة
والشعوبية, وكانت تخفي أحلامها بمطاوعة الخلفاء فيما يشتهون وإشباع شهواتهم وإظهار الوفاء لهم. وكان من هؤلاء أبو مسلم
الخراساني ثم البرامكة, ثم آل سهل وآل طاهر.
أما الأسلوب الثاني, فكان في خلع طاعة الخليفة وإعلان الثورة عليه, ومنها ثورة الراوندية والخرمية والبابكية وغيرها.
وكان الهدف الثاني الذي ترمي إليه الزندقة هو إفساد عقيدة المسلمين تحت شعار التشيع, ومن خلاله تسربت عقائد وديانات الفرس
السابقة للإسلام, فكانت تغرر بالشبان بما كان ماني يدعو إليه من طلب اللذة بإباحة شرب الخمر ووطء المحرمات ومنهم الأخوات
والبنات.
وقد بدأ الخليفة المنصور بتتبع الزنادقة وقتل من قامت عليه الحجة, واشتد المهدي في تتبعهم, وكان يستتيبهم, فمن تاب أطلقه
ومن أبى قتله, وبذلك أوصى ابنه موسى (الهادي) فقال له: يا بني, إن صار إليك هذا الأمر - أي الخلافة - فتجرد لهذه العصابة
- يعني أصحاب ماني - فإنها فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن, كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للآخرة. ... ثم
تخرجها من هذه المبادئ إلى عبادة اثنين: أحدهما النور والآخر الظلمة, ثم تبيح نكاح الأخوات والبنات. .. فجرد السيف فيها,
وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له. فقال الهادي: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها حتى لا أترك فيها عينا تطرف.
ولما تولى الخلافة اشتد في طلب الزنادقة, وقتل منهم جماعة من بينهم هاشميان انزلقا إلى الزندقة وعبا من مفاسدها, أحدهما
أحد أبناء عمه داود بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم, والثاني يعقوب بن الفضل من سلالة الحارث بن عبد
المطلب بن هاشم, المعروف باسم يعقوب الهاشمي فقد أقر بالزندقة فقتله خنقا, وأقر الثاني فقتله وأقرت ابنته فاطمة بالزنا وأنها
حاملة من أبيها.
وقد سار الرشيد بسيرة أبيه وأخيه فتعقب الزنادقة وبطش بمن ثبتت عليه الزندقة. أما المأمون فكان إذا سمع بزنديق أمر بحمله
إلى مجلسه وفيه جماعة من المتكلمين - المعتزلة - فناظروه لعلهم يقنعونه ويردونه إلى الإسلام, وكان المأمون يشترك في مناظرته,
فإذا لم يكف عن غوايته, أمر بقتله.
ويقال إنه بلغه خبر عشرة رجال من البصرة يجتمعون على المانوية, فأمر بحملهم إليه, فلما دخلوا عليه امتحنهم وحاول أن يردهم
عن ضلالتهم, غير أنهم ثبتوا على عقيدتهم, فأمر بقتلهم جميعا.
كذلك فعل المعتصم فقتل قائده (الأفشين) بعد محاكمته وثبوت الزندقة عليه. ويستبين مما تقدم أن خلفاء بني العباس لم يكونوا يقتلون
على الزندقة إلا بعد ثبوتها على صاحبها ثبوتا لا يرقى إليه الشك. وإنهم كانوا يقتلون من كان ينزع في مجوسيته إلى المانوية, أما
الموبقات الأخرى من شرب الخمر واللهو والمجون فكانوا يتسامحون فيها ويغضون الطرف عنها.