أولا: ابتداءً يجب أن لا ننسى أن لله سبحانه وتعالي هو الحَكَم، قوله الحق، وله الحكم، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم هو المبلِّغ عن الله سبحانه، وأنه داع إلى الله بإذنه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ((45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45-46]، فكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، هو مما أذن الله به . وعلى المسلم أن يتلقى حكم الله بالقبول والانقياد {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً} [ الأحزاب : 36 ] وهذا هو معنى الإسلام، والمسلم لا يناقش الحكم، وإنما يناقش الدليل، ومن شك في الحكم نخاطبه بالتوحيد لا بالأحكام الشرعية، نبين له أن الله حكيم عليم فعال لما يريد، لا يُسأل عن ما يفعل .
ثانيا: جاءنا من النبي صلى الله عليه وسلم نص وبيان لمعنى هذا النص، أو قل جاءنا الحكم الشرعي وتطبيقٌ عمليٌ لهذا الحكم على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أو على مَنْ معه من أصحابه رضوانه الله عليهم . فنحن ملزمون بفهم النص الشرعي ـ أو الحكم الشرعي ـ كما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، ومن ثم الامتثال له كما امتثل الصحابة رضوان الله عليهم . أما تجريد منطوق القرآن الكريم أو الحديث الشريف من سياقه القولي أو العلمي ثم تفسيره بخلفيات عرفية أو لغوية، فهذا لا نعرفه، وهو مما يُحرف به الكلم عن مواضعه .
ثالثا: الحكمة من الأحكام الشرعية هي غيرة الله تعالى على العباد..
كما قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ يَغَارُ، وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا» .
وقَالَ: «... يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرَ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» .
وكما قدمنا إذا حكم الله وقضى فلا نجد في أنفسنا حرجا مما قضى {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65].
وينبه حديث سعد الذي رواه البخاري إلى التعامل الصحيح مع حكم الله: قال سعد بن عبادة: " لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه "، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْد،ٍ فَوَاللَّهِ لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّى؛ مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّه...» .
رضاع الكبير دليل على إنسانية الشريعة . . . وهو مخرج استثنائي
وفي حادثة سالم مولى أبي حذيفة حكمٌ من أحكام الشرع الذي كشف عظمة الشريعة نفسها؛ إذ قام الحكم على اعتبار الحالة الإنسانية الصعبة التي ترتبت على إنهاء حكم التبني.
فأصبحت الشبهة المثارة دليلاً على إنسانية الشريعة التي تحسب للإسلام، والتي بلغت حدًّا أوجد قاعدة (المخارج الشرعية) والتي كان منها حكم رضاع سالم..
ومثاله المخرج الشرعي الذي جعله الله لنبيه أيوب حتى يمنعه من ضرب زوجته!!
يقول ابن كثير في تفسير قوله سبحانه: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووَجَدَ عليها في أمْرٍ فعلته... وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة... فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها -مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان- أن تقابل بالضرب؛ فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثا -وهو الشمراخ فيه مائة قضيب- فيضربها به ضربة واحدة، وقد برت يمينه وخرج من حنثه.
فالمخرج الشرعي هو حكم استثنائي تحافظ به الشريعة على أحكامها مع الاعتبار الكامل لظروف الواقع، وهو ما حدث في قضية سالم مولى أبي حذيفة وغيرها.
وبعد المقدمة يأتي الردُّ على الشبهة..
ونبدأ أولاً ببيان
السياق العملي للحديث الذي ورد فيه رضاع الكبير .وما يستنبط من ذلك
أَبَو حُذَيْفَةَ بْنَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ... تَبَنَّى سَالِمًا... وزَوَّجَه بِنْتَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ -وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ ابْنُهُ-؛ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلِ، وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ أَيَامَى قُرَيْشٍ.
إذن سالم هو –أصلا- ابنٌ لأبي حذيفة بالتبني، وزوجته سهلة هي أمُّه بالتبني.. بكل ما يترتب على ذلك من أحكام التبني من الوراثة، ووجوب النفقة وحرمة المصاهرة.. وهي الأحكام التي كانت ثابتة بالولادة أو الرضاع أو التبني.
إنهاء التبني:
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيات إنهاء التبني: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5]، «رُدَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أُولَئِكَ إِلَى أَبِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ رُدَّ إِلَى مَوْلَاهُ».
فنشأ مع ذلك مشكلة إنسانية؛ حيث رد الحكمُ الشرعي سالمًا إلى أن يصبح مولًا لأبي حذيفة بعدما كان ابنًا له بالتبني.
وكان أبو حذيفة متبنيًا لسالم، وله كل أحكام التبني؛ من حيث العلاقة بأهل البيت كما تصف سهلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَرَى سَالِمًا وَلَدًا، وَكَانَ يَدْخُلُ على وَأَنَا فُضُلٌ، وَلَيْسَ لَنَا إِلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ. فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ؟
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ؛ فَيَحْرُمُ بِلَبَنِهَا؛ وَكَانَتْ تَرَاهُ ابْنًا مِنْ الرَّضَاعَةِ» .
فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ؛ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ .
ولم تجد سهلة وزوجها أبو حذيفة حرجًا مما قضى الله؛ وبفرض أن الرضاع كان بالتقام الثدي فإن الحياء في إتمام الأمر بالنسبة لسهلة كان شيئًا طبيعيًّا لا بد أن يحدث حتى لو كان سالم ابنها بالولادة.
ولكن الحياء لا يعني رد الحكم.. والالتزام بالحكم لا يعني إلغاء الحياء..
ومن هنا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ينطق بالوحي وهو يعلم ما قد يصيب سهلة «الأم بالتبني» من حياء.
حيث قَالَتْ: وَكَيْف أُرْضِعهُ وَهُوَ رَجُل كَبِير؟! فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُل كَبِير» وَفِي رِوَايَة لِمُسْلِمٍ قَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَة! قَالَ: «أَرْضِعِيهِ».
وكما لم يكن هناك حرجٌ عند سهلة.. كذلك لم يكن عند أبو حذيفة.
فلم يكن ما في نفس أبو حذيفة إلا تغير حكم سالم بعد إلغاء التبني؛ فلما أرضعت زوجته سالمًا ذهب ما نفس أبي حذيفة؛ فعاد الأمر في نفس أبو حذيفة تجاه سالم كما كان وقت التبني.
فكان شعور أبو حذيفة مع الشرع في كل مراحله:
في مرحلة التبني.. وما بعد إنهاء حكم التبني.. وفي حكم الرضاع.
وتلك هي العظمة التي كشفتها الحادثة في الالتزام بالشريعة.
تبقى ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: الطريقة التي رضع بها سالم
وتفسير الرضاعة لغة يحتمل الطريقتين: التقام الثدي أو شرب اللبن بالقدح بعد حلبه من الثدي.
وقصر معنى الرضاعة لغة على (التقام الثدي) فقط قول خاطئ؛ بل يطلق الرضاع ويراد به السقاية أيضًا.
قال ابن منظور في لسان العرب في باب مادة (موت): " وقول عمر رضي الله عنه في الحديث: "اللَّبَنُ لا يموتُ" أَراد أَن الصبي إِذا رَضَع امرأَةً مَيِّتةً حَرُمَ عليه من ولدها وقرابتها ما يَحْرُم عليه منهم لو كانت حَيَّةً، وقد رَضِعَها، وقيل معناه: إِذا فُصِلَ اللبنُ من الثَّدْي وأُسْقِيه الصبيُّ فإِنه يحرم به ما يحرم بالرضاع، ولا يَبْطُل عملُه بمفارقة الثَّدْي؛ فإِنَّ كلَّ ما انْفَصل من الحَيِّ مَيِّتٌ إِلا اللبنَ والشَّعَر والصُّوفَ لضرورة الاستعمال ".
كما أن فهم السلف يحتمل المعنيين أيضًا:
ففي رواية ابن سعد –كما أوردها الإمام مالك- عن الواقدي عن محمد بن عبد الله ابن أخي الزهري عن أبيه قال: " كانت سهلة تحلب في مسعط قدر رضعة فيشربه سالم في كل يوم، حتى مضت خمسة أيام؛ فكان بعد ذلك يدخل عليها وهي حاسر رأسها رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لسهلة ".
ومن هنا كان قول القاضي في قوله صلى الله عليه وسلم: «أرضعيه» قال القاضي: " لعلها حلبته، ثم شربه من غير أن يمس ثديها، ولا التقت بشرتاهما ". وهذا الذي قاله القاضي حسن. ويحتمل أنه عُفي عن مسه للحاجة، كما خُص بالرضاعة مع الكبر.
عدل سابقا من قبل نبيل القدس ابو اسماعيل في 2014-07-14, 8:23 pm عدل 1 مرات