واذا تاملنا ما إنتهجتها الثورة الفرنسية من أفعال فسنجد إن كل أفعالها على الصعيد الخارجى جاءت متناقضة تمامًا مع ما أعلنته الثروة من مبادئ (الحرية والإخاء والمساواة) وبخاصة فيما يتعلق بشعوب آسيا وإفريقيا التي استعمرتها والتي تعاملت معها بمنطق السيد والعبد ، فلم تمضِ فترة وجيزة مداها عشر سنين من الزمن حتى جاءت الحملة الفرنسية لاستعباد الشعب المصرى ، ثم جاء الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830 والمغرب وتونس والشام وغيرها من المناطق في آسيا وإفريقيا، فإى حريه وإى مساوه كانوا يحملونها فى ضمائرهم تجاه بنى الانسان ، ان ثياب الثوره الفرنسيه وكذلك ايدى الثوار لطخت بكثير من الدماء على الصعيد الخارجى لكنها اشربت بسيل من الدماء على الصعيد الداخلى ، فاذا كانت الحريه مطلبا هاما واساسيا لبنى البشر فان الحريه بدون عدل كجسد بدون روح لاقيمة له على الاطلاق ، والمساوه بدون عدل هى الظلم ذاته ، وإى اخاء يمكن ان يتحقق بدون عدل ، ان شعارات الثوره الفرنسيه انتزع العدل منها فصارت شعارات جوفاء لا تغنى ولا تسمن من جوع ، ان غياب معيار العدل هو الذى تسبب فى الظلمه الموحشه التى غلفت سماء الثوره الفرنسيه فى مرحلة المخاض التى استمرت ستون سنه ، واذا تاملنا هذه الظلمه فأننا لا بد ان نكتشف حماقة طبقة البولوريتاريا او إن شئت فسمها " غباء العقل الجمعى " ، وقد لا يبدو غريبا ان يكون كارل ماركس قد اقتبس نظرية استبداد طبقة البولوريتاريا من تأمل دقيق واستيعاب لاحداث الثوره الفرنسيه ، وربما كانت قسوة قادة الثوره الفرنسيه طوال فترة المخاض سببا رئيسيا فى استمرار الثوره حتى استقرارها بعد ستة عقود من قيامها وذلك اذا افترضنا حقيقية ماذكره جوستاف لوبان فى كتابه سيكولوجية الجماهير حيث قال " والجماهير تحترم القوة ولا تميل إلى احترام الطيبة التي تعتبرها شكلا من أشكال الضعف وما كانت عواطفها متجهه أبدا نحو الزعماء طيبي القلب وإنما نحو المستبدين الذين سيطروا عليها بقوة وبأس ولا تقيم النصب التذكارية إلا لها ، وبما إن الجماهير مستعدة دائما للتمرد على السلطة الضعيفة فإنها لا تحني رأسها بخنوع إلا للسلطة القوية " ، ورغم ان هناك افكارا أخرى تنافس فكرة لوبان حول فطرة الانسان ونزعته الى الحريه المطلقه او المنضبطه كما حقق ذلك جاك روسو باستفاضه فى كتابه "العقد الاجتماعى " الا اننى ارى ان الفكرتين مغايرتين وليستا متشابهتين ، فلكى نبسط الامر فأنه من المنطقى ان يكون الحق والعدل يحتاجا الى قوه ، وبدون هذه القوه لا يتحقق العدل وبالتالى لا يقام الحق ، ولذلك فأن الظلم المطلق الذى تم على أيدى النخبه فى الثوره الفرنسيه قد خالف المبادئ الثلاثه للثوره وأبرزه ما حدث فى في 2 سبتمبر1892 اذ تمت حملة إعدامات بين مؤيدي الملكية في باريس والمدن الفرنسية الأخرى، أشرف عليها «سفاح الثورة الفرنسية» دانتون ، وذهب ضحيتها ما يقرب من 1400 قتيل ، وبعد حملة الإعدامات جرت انتخابات تمخض عنها المؤتمر الوطني ، الذي استهل جلساته بإلغاء النظام الملكي في 21 أيلول 1792 وإعلان قيام الجمهورية الفرنسيه الاولى ، كما قرر إعدام لويس السادس عشر، حيث نُفذ فيه حكم الإعدام في ميدان الجمهورية في باريس بالمقصلة في 21 يناير 1793، وذلك بضغط من روبسبيير، وكان لهذا الإعدام نتائج خطيرة أدت إلى انقسام داخلي هدد بقيام حرب أهلية ، ولقد قدر عدد من أعدموا بالمقصلة في باريس وحدها بــ5000 شخص من بينهم الملكة ماري أنطوانيت ، واحكم " روبسبيير " قبضته ، وبدأ بإعدام زملائه بالمقصلة وعلى رأسهم دانتون ، وحكم فرنسة حكماً ديكتاتورياً ، ولكن زعماء المؤتمر الوطني وجهوا إليه في 28 تموز 1794 تهمة الخيانة ، وحاول روبسبيير البطش بهم ، لكن أنصاره انفضوا من حوله ، فأُلقي القبض عليه ، واقتيد إلى المقصلة ليواجه مصير ضحاياه.
ولا تخلو الثورات مما يسمى الثوره المضاده والذى يعنى محاولة عناصر النظام القديم - الذى جاءت الثوره لتطيح به - للقضاء على الثوره والتمكن من العوده الى الحكم ، فعندما انتخب المجلس الوطني وانعقدت الجلسة الأولى يوم 5 ماي 1789 ، وامتنع النبلاء من التعامل مع النواب ، فقرر الثوار أن يعلنوا أن مجلسهم مجلس وطني و أرغموا البلاط الملكي على التنازل أمام إرادة الشعب ، و وفى محاوله من الملك للالتفاف على المجلس ، أمر النبلاء و رجال الكنيسة بالانظمام إلى باقي النواب الذين أعلنوا أن مجلسهم أصبح مجلسا تأسيسيا ، وأمام تهديدات الملك الذي كان يحاول المناورة ضد المجلس كان يلتجأ المجلس للشعب للدفاع عنه و عن الحرية ، و هذا ما دفع جماهير باريس لاقتحام سجن الباستيل يوم 14 يوليو 1789 الذي كان رمز الطغيان ، و أرغم الملك على إلغاء بعض التدابير العسكرية التي اتخدها ضد المجلس ، وكانت كل تلك التحركات للقضاء على الثوره المضاده التى كانت تمثل التهديد الاكبر للثوره.
كما لا تخلو الثورات من مظالم تحدث بيد الثوار وبيد طبقات الشعب المختلفه ، ويصف المؤرخ الفرنسي "بيير كارون" المذابح التي حدثت في السجون الباريسية إبان عهد الثورة فيقول " إن هذه المذابح كان لها طابع (شعائري) جارف ، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت تدبر فيها للإطاحة بالثورة ، وأقام "الدهماء" من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في فناء هذه السجون، حيث كان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدًا بعد الآخر فتوجه إليهم التهم ويحكم لهم أو عليهم ليس تبعًا للأدلة والشواهد؛ وإنما تبعًا لمظهرهم العام وسلوكهم وشخصيتهم بل وتكوينهم الجسدي. كما كان أي تردد أو أي اضطراب يظهر على الشخص يعد دليلاً للإدانة وعلى ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام، وكان الذي يتولى المحاكمة وإصدار الحكم شخصًا عاديًا، كما كانت أحكامه تقابل بالتصفيق والصياح من الجماهير الذين تجمعوا من الشوارع المحيطة وأصبحوا بمثابة محلفين، وكان الشخص الذي يحكم ببراءته يؤخذ بالأحضان والتهنئة والقبلات ويطوفون به الشوارع ، بينما كان الشخص الذي يحكم عليه بالإدانة يتم إعدامه طعنًا بالخناجر والسيوف وضربه بالهراوات الثقيلة ثم تنزع عنه ملابسه ويلقى بجسده فوق كومة من أجساد الذين سبقوه " ، و هذه المذابح كانت ترتكب باسم الحرية والعدالة والمساواة .
أما سيرجو بوسكيرو رئيس الحركة الملكية الإيطالية فيقول: إن الثورة الفرنسية كانت عبارة عن حركة معادية للشعب الفرنسي إبان قيامها، كما أن أسطورة السيطرة الشعبية على سجن الباستيل لم تكن سوى عملية سطو على مخزن الأسلحة في الباستيل الذي كان يستضيف 7 مساجين فقط ، منهم 3 مجانين، ويضيف قائلاً: إن الثورة الفرنسية بحق قامت بأكبر مجزرة في التاريخ أو على الأقل في الشعب الفرنسي، حيث قتلت 300 ألف فلاح ، وهي بذلك تعد منبع الإرهاب العالمي ؛ إذ ولدت "ظاهرة الإرهاب" من الثورة الفرنسية " ، وبغض النظر عن مخالفة كلام بوسكيرو لبعض الحقائق المستقره تاريخيا كرمزية سجن الباستيل ، الا انه كان محقا بشأن المجزره الكبرى ويكفى ان نعرف ان المذبحة الرهيبه التي تعرض لها سكان مقاطعة فانديه بين العامين ١٧٩٣ و١٧٩٤ ، وراح ضحيتها نحو 117 ألف قتيل من الأطفال والنساء والعجزة والرجال ، ويكفى ان نعرف ان “لجنة الإنقاذ العام” التي قررت هذه الإبادة وخططت لها ، كانت مؤلفة من أبرز وجوه نواب الشعب ، والجنرالات الذين نفذوها ، ففى الاول من مارس ١٧٩٣ كانت انتفاضة سكان مقاطعة فانديه على الثوار الجمهوريين ، وقد تم فى 1 أغسطس ١٧٩٣ التصويت داخل البرلمان الفرنسي على أول قانون سحق وإبادة لجزء من الشعب الفرنسى ، وقد تم تطبيق حقيقي ومنهجي لهذا القانون لم يسلم منه حتى قاطنو مقاطعة فانديه الموالون للثوّار.
في 20 يونيو 1792، حدثت انتفاضة ضد الملك وقام المتظاهرون بمهاجمة القصر الملكي في التويلري ، وقد قتل الكثير من اتباع وحراس الملك ، لكن الغريب فى هؤلاء الثوار او القتله انهم استباحوا القتل دون محاكمه ، لكنهم لم يسمحوا لانفسهم بسلب مقتنيات هؤلاء القتلى ، فقد لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي " تين " أن الذين قاموا بمجازر سبتمبر قد جاؤوا بمحافظ النقود والحلي والجواهر التي وجدوها في جيوب ضحاياهم وسلموها للجان الثورية، وذلك الأمر تحقق ايضا للجمهور الهادر الذي هجم على قصر التويلري فإنه لم يسرق أي تحفة ثمينة من تحفه .
ان هذا الشطط فيما يخص افعال الثوار ما بين عدم الاستيلاء على ممتلكات من قاموا بقتله واستباحة القتل دون محاكمه والاعتداء على الاخرين ورفض الأخر بالكليه لمجرد المخالفه فى الرأى او تباين الموقف السياسى واختزال الاخر – رفقاء الكفاح - فى الخيانه والعماله وكراهيته كراهيه مطلقه والاقصاء الفكرى لكل مخالف واعتباره عدو لا خصما ، يبدو انها من سمات الثوره والثوار على مر الزمان ، ويبدو من قراءة الثورات ان مبادئ الثوره لا تصلح للتطبيق الا على المؤيدين اما المخالفين فليس لهم سوى القتل او السجن ، رغم ان كل الثورات قامت لتحقق العداله والحريه والمساوه لكن ينسى الثوار دائما ان يلحقوا هذه المبادئ بعبارة " للمؤيدين فقط " اما المخالفين فليذهبوا الى الجحيم وليجدوا لهم ارضا اخرى غير ارض الثوره والثوار .
كما يجب ان تستوقفنا ملاحظه اخرى وهى ان الثورات تقسم وتفرق الشعب ما بين مؤيد ومعارض ومتخازل ، وقد يمر وقت طويل قبل ان تتوحد الاراء وتتعانق الافكار ، او تتعايش مع بعضها البعض ، لكن ليس قبل ان تروى شجرة الحريه بكثير من الدماء والدموع يتساقط الشهداء وتمتلئ السجون بالمعذبين من ابناء الشعب ، يرى بعض الشعب انهم لا يستحقون الحياه.
maw01000@yahoo.com
* مستشار بمجلس الوحده الاقتصاديه العربيه