الأدب الروائي الفلسطيني داخل اسرائيل
نبيـل عـودة
من اشكاليات أدبنا الفلسطيني داخل اسرائيل ، محدودية الجانر الروائي في ابداعنا المحلي. لا اعني بتعبير محدودية عدم وجود اعمال روائية او غياب الجانر ألروائي انما ما اعنية ان الرواية في ادبنا الفلسطيني داخل اسرائيل لم تأخذ مكانها كلون ادبي له وزنه ومكانته ، كما هي الحال في القصة القصيرة عامة والشعر على وجه التحديد..
يمكن الإشارة الى عدد من المحاولات الروائية الجيدة في ابداعنا المحلي ... مع ذلك يبقى الفن الروائي بعيدا عن أن يشكل تيارا ثقافيا يمكن الاشارة اليه.
لفت انتباهي مقال كتبه الناقد الدكتور حبيب بولس (1948 - 2012) وانا اراجع هذا الموضوع ضمن ما كتب ونشر ، جاء في مقاله: " في رأيي أن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: أسباب عامّة، أعني بها الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع وأخرى خاصّة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامّة سببان هامّان هما طبيعة الظروف التي نعيشها أولا وقلّة المرجعية لهذا الجانر محليّا وفلسطينيا ثانيّا. أمّا السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن الموازنة بين الخطابين: التاريخي/ الأيديولوجي/ الواقعي والخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخييلي.."
صحيح ان الدكتور حبيب بولس حدد الإشكالية الأساسية في اطار الخطابين التاريخي- الواقعي والأدبي - الإبداعي.
الخطابان(التاريخي والأدبي) ليسا وقفا على الجانر الروائي ، انما هم اشكالية لكل ابداع أدبي قصصي أو شعري او فني متنوع.
صحيح تماما انه لا وجود لهذين الخطابين ، التاريخي (الأيديولوجي) والأدبي (الفني)، خارج عملية الابداع .. فهما مرتبطان ارتباطا وثيقا وجدليا بعملية الابداع نفسها.
ألسؤال هل التوازن بين الخطابين هو قاعدة مطلقة؟ وكيف نتعامل مع الخطابين؟ وما هي الشروط اللغوية لتطوير جانر روائي يمكن ان يرسي هذا الفن في ادبنا داخل اسرائيل؟
من البديهيات ان الخطاب الأدبي (الفني ، طبعا بما في ذلك اللغة الروائية)، او الحدث التاريخي (الأيديولوجي) يشكلان جوهر الابداع وليس شرطا عبر استيعاب المبدع لهذه ألمعادلة وهذا يبرز في ادبنا الروائي عبر عدم فهم العلاقة التفاعلية بين الخطابين لدى اوساط واسعة من المبدعين.. في معظم الحالات نجد ان الاحساس الذاتي للمبدع هو معيار التوازن بين الخطابين.
لكن التوازن النابع من الذات في الخطابين لا يفي بالمطلوب دائما.
ان التوازن او التعادل بين الخطابين في صياغة النص ليست مطلقة، كما قد يفهم مما ورد في مقالة الناقد بولس.. او ما سبق وورد في مداخلتي.
في حديث لي معه قبل وفاته وافقني ان العلاقة بين الخطابين هي علاقة نسبية، تتعلق الى حد بعيد بقدرة المبدع نفسه في فهم نسبية هذه ألعلاقة اين يعلى خطابا على حساب خطاب وما هي محدودية كل خطاب ، أي تبقى عملية الكتابة الروائية او الإبداعية، مسالة ترتبط بالقدرات الذاتية والتجربة الذاتية والحس الذاتي.
اذن يمكن القول أننا امام حالة ابستمولوجية التي تعني باختصار شديد علم المعرفة الذي هو فرع من الفلسفة متخصص بدراسة طبيعة ألمعرفة مداها وحدودها.. ولا ابداع أدبي او فني او فكري خارح المعرفة بمفهومها الفلسفي الواسع ، وليس بشكلها كحالة من التطور الطبيعي للإنسان.
المعرفة.... هي المعيار السحري لكل ابداع أدبي في حالتنا.. وكما قال غوته:"الذي لا يعرف ان يتعلم دروس ال 3000 سنة الأخيرة يبقى في ألعتمة".
صحيح القول ان الخطاب ألتاريخي الأيديولوجي ، أي الحدث او الفكرة ، والخطاب ألأدبي الفني ،أي القدرات اللغوية، هما القاعدة لأي ابداع أدبي روائي ، قصصي ، شعري أو مسرحي أو فني ولكنه موضوع مركب أكثر اذا تناولناه من زاوية المعرفة ، المعرفة تعني القدرة على التوازن النسبي وليس المطلق وتطوير قدرات المبدع في فهم هذه العلاقة ونسبيتها. بكلمات اوضح : اين يجب ان يعطي المبدع مساحة أكبر لأحد ألخطابين وما هي حدود هذه المساحة حتى لا تصبح سلبية وقاتلة للجانر الروائي او غيرة من اشكال الابداعات الأدبية والفنية... ومدى الادراك الذاتي للواقع التاريخي ، الاجتماعي ، السياسي، الأخلاقي والثقافي بشمولية الثقافة .
قال هيغل: "ان ما هو معقول هو ما يمتلك امكانية دخول الحياة"
ان اللغة في النص تشكل مرتكزا هاما .. والموضوع ليس معرفة اللغة فقط ، معرفة اللغة امر هام ، بل القدرة على تطوير لغة مناسبة للجانر الأدبي الروائي او القصصي او الشعري وغير ذلك وهنا نسال هل اللغة الروائية مجرد انشاء سردي؟ حسب مقولة هيغل نستنتج ان الرواية تحتاج الى لغة روائيه بدونها مهما كانت الفكرة عبقرية تظل بعيدة عن المعقول ألروائي!
ان معرفة عرض الخطاب التاريخي قد يقود الى كتابة ريبورتاجية صحفية بغياب الخطاب اللغوي الروائي (اللغة الدرامية) ، معرفة الخطاب الأدبي قد يقود الى كتابة نص مليء بالفذلكة اللغوية والنحت الصياغي وصولا الى تركيبة جمالية لا تقول شيئا للقارئ ، إلا ان الكاتب يعرف النقش باللغة ... وربما ما ينقص الخطابين ، هو خطاب ثالث: "الخطاب ألتخيلي" القدرة على مقاربة الواقع بالنص ألروائي وخطاب رابع: "الخطاب ألدرامي" اي القدرة على بناء الأحداث المتخيلة التي تعبر عن الخطاب التاريخي ليس بشكله في الواقع اليومي ، وتغذي اللغة النص بأبعاد درامية جمالية وليس مجرد النقش اللغوي الأقرب للرسم بالريشة. اللغة الدرامية بحد ذاتها تشد القارئ تماما كما تشده صياغة ألحدث ولكن دورها ان تعمق الناحية الدرامية ، القكرة الدرامية لوحدها هي مجرد خبر . اللغة الدرامية تحول الخبر الى حدث روائي. وهنا يحدث تفاعل هام ومصيري بين النص الروائي واللغة الروائية . . أي اللغة الدرامية بكلمات أخرى.
ما هي اللغة الروائية ؟ هل من السهل اكتسابها بالدراسة ؟ .. وهل معرفة بحور الخليل مثلا تكفي لجعل الناظم شاعرا؟
ليس كل من يحسن النظم ومتمكن من لغة الضاد هو شاعر..
نجد في ثقافتنا المحلية (وفي الثقافة العربية عامة) مئات ناظمي الشعر، السؤال كم عدد الناظمين الذي نجحوا بجعل نظمهم قصائد شعرية حقيقية ؟ هنا نجد ان المئات يُختصرون لأفراد قلائل.
في القصة القصيرة لدينا عشرات الناثرين ... السؤال: كم ناثر نجح بأن يصل لإنتاج قصصي فني؟
احيانا في مراجعاتنا النقدية لا نقول كل الحقيقة حول التركيبة الابداعية ، لأسباب مختلفة ، أهمها اعطاء دفعة وتفاؤلا للناثر أو الناظم لعل التجربة القادمة تكون أكثر اكتمالا.. طبعا هذا لا يمكن فصله عن مستويات الابداع العامة لمجتمعنا.. ومقياسنا لا يمكن ان يكون حسب الابداعات العربية او العالمية.. حلمنا ان نصل ، لكن الحلم يحتاج الى الكثير من العناية الغائبة من أجندة مؤسساتنا الرسمية والشعبية.
هناك لاعبون في ساحة النقد ، يرتكبون جريمة بحق المبدعين حين يوهمونهم انهم بلغوا القمة ... ولكنه موضوع آخر!!
بالطبع هناك اشكاليات أكبر في ابداع جانر روائي.
النظرية والتحليل النقدي النظري جيد لتحليل العمل ، تقييمه ونقده ... وليس ليدرسها المبدع ويطبقها. ان عملية الابداع مركبة ومتداخلة بعناصر انسانية وعقلية ومعرفية (ابستمولوجية) وتجريبية واجتماعية واقتصادية أكثر اتساعا من مجرد فكرة تصلح لنص روائي او قصصي او شعري.
اعتقد ان مشكلة الجانر الروائي ترتبط بتطوير ألمعرفة عندها سننتقل من "غبار روائي" الى "نجوم روائية".
اني أدعي ان معظم الروايات التي ظهرت في أدبنا العربي داخل اسرائيل ، تفتقد للمركب الروائي الأساسي. وتكاد تكون خطابا تاريخيا مجردا من القدرة على القص والدهشة وجعل اللغة طيعة متدفقة مثيرة ومتفجرة. طبعا لدينا نصوص روائية جيدة لكنها من القلة بحيث لا تشكل تيارا ادبيا روائيا.
الابداع الحقيقي ، نثرا أو شعرا ، لا يعني نقل حدث تاريخي او انطباعي بلغة سليمة. أو بديباجة مليئة بالفذلكة والألعاب الصياغية . الموضوع ليس انشاء لغويا بسيطا أو فخما جدا . هناك لغة للقص تختلف بتركيبتها عن لغة المقالة . تختلف بتركيبتها عن لغة الريبورتاج ، تختلف بتركيبتها عن لغة الشعر. لغة تفرض نفسها على كل قوانين اللغة وقيودها، ويبدو لي ان نشوء لغة عربية حديثة يخضع في معظمه لتطور الأدب القصصي والشعري الحديث ، ويمكن رصد البدايات الثورية لهذه اللغة الحديثة في الأدب العربي الذي طوره ادباء المهجر، وبنشاط الآباء اليسوعيين في لبنان.واليوم تلعب الصحافة ولغتها ومفرداتها دورا هاما في تطوير لغة عربية سهلة ممتعة سريعة الاندماج مع المناخ الثقافي وفرضها على اللسان العربي رغم المجامع اللغوية التي لا تزال تفسر "الساندويش" ب "الشاطر والمشطور"!!
ان رواة الأساطير يستخدمون اسلوبا هو أقرب للغة الرواية اذا استبدلنا المفردات العامية . اسميها لغة تشويق وأسلوبا يعرف كيف يشد المستمع بالمفاجئات والدهشة التي تظل حتى نهاية الأسطورة.
لا اقلل من قيمة الموروث التراثي التي ارتبط بشخص ألراوي في المقاهي او السهرات. لكنه لا يشكل قاعدة للكتابة الروائية او ألقصصية انما ملهما لتنمية القدرة على التخيل وفهم عناصر الاثارة ودورها في الابداع السردي. يجب ان لا ننسى ان الرواية هي وليدة عصر تحرير ارادة الإنسان. الانسان ولد ليكون حرا، ان لم يكن اجتماعيا ففي فكره ونصوصه وهذا ما اثبتته حركتنا الشعرية الفلسطينية داخل اسرائيل التي ولدت في ظروف تسلط قمعي وإرهابي وحصار ثقافي .. قبل ان تبدآ لأسباب لا مجال لها الآن بالتراجع (يمكن القول في مرحلة الحريات والتواصل مع الثقافة العربية بدون قيود).
رغم الانفتاح الواسع على الثقافة العربية والعالمية وما أنجزته من أعمال روائية راقية جدا إلا ان روايتنا لم تحدث تلك العاصفة التي احدثها شعرنا.
اذن أين مشكلتنا..؟!
بالطبع أرى أهمية ما طرحه الناقد الدكتور حبيب بولس...حيث كتب : " في مجتمع كمجتمعنا وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائما تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض ألسياسي الاجتماعي في فلسطين إبان ألنكبة قبلها، في خضمها، بعدها ومحليا أيضا،وهذا أمر من الممكن أن يشكّل منزلقا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى ألكاتب - أي كاتب - أن يحذر التاريخ، وأن يعرف كيف يقيم توازنا بينه وبين الإبداع، إذا أراد فعلا كتابة رواية فنية. وكم كان محقا ذلك الكاتب المفكر ألمغربي عبد الكبير ألخطيي حين قال: "التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب"، وهو يقصد بذلك أن صوت التاريخ – الواقع- الايدولوجيا ، حاضر على الدوام في شغاف قصصنا، يتأدى بطرائق وأساليب مختلفة متنوعة ، جهيرا حينا- خافتا حينا أخر".
أجل هذا صحيح . ولكن هل وضعنا يدنا على الوجع الأساسي ؟
الناقد استمر في تحليل "الواقع الموضوعي" ، اذا صح هذا التعبير ... الحائل بين تحول الابداع الروائي الى جانر مركزي في ثقافتنا. وهو تحليل علمي نقدي سليم تماما . ولكني ككاتب قصصي وروائي أيضا ، (اصدرت ثلاث روايات) ، اواجه مشاكل مستعصية لا تبقي في نفسي الرغبة لتجربة روائية جديدة ، بل فقط للكتابة الثقافية العامة ، وكتابة المقال الفكري والسياسي والمراجعات الثقافية ، أو النقد كما تسمى مجازا... وكتابة القصة القصيرة ، أي لا أجهد نفسي لأكتب رواية رغم توارد عشرات الأفكار الروائية الجيدة. دور النشر غائبة او تستغل الكاتب لتحلبه . لا مؤسسات ترعى المبدعين . هناك تسيب ثقافي ، الكثير من النصوص انشائي يفتقد للغة الرواية ولأجواء الرواية ، ستجد عددا من " النقاد " ، حتى بدون بعض الفضة ، يجعلوا كل نص ابداعا لا مثيل له في الأدب العالمي رغم انه لا يستحق القراءة.
كل واقعنا هو واقع مريض. ليس فقط ان شعب اقرأ لا يقرأ ، مؤسساتنا غائبة عن الفعل الثقافي . ثقافتنا بنيت بظروف عصيبة من التحدي البطولي ، ومن معارك الحفاظ على لغتنا وثقافتنا وانتمائنا القومي ، ضد سياسة القمع والحكم العسكري البغيض .
مع ذلك كان هناك القادة الطلائعيين الأبطال داخل الجسم السياسي ( الحزب الشيوعي ) الذين تصدوا بقوة ونجاح وربطوا بين السياسي والثقافي بوعي كامل لأهمية هذا الربط في المرحلة التاريخية التي كنا بمواجهتها، خلقوا أجيالا من المثقفين والمناضلين شكلوا العمود الفقري لانطلاقة ثقافتنا وضرب جذورها عميقا بالأرض .. وصولا الى انبهار العالم العربي كله بما انجزناه سياسيا وثقافيا.
للأسف اليوم في ظل الحرية نتهاون بما انجزناه ونضيع ما وصلنا اليه. وهذا ينعكس سلبا على ابداعنا (وعلى واقعنا السياسي أيضا)وعلى تطوره بما في ذلك الجانر الروائي الهام جدا في كل ثقافة متحدية.
الرواية كانت تاريخيا ، معيارا لتطور المجتمعات الرأسمالية ، بل ويعزي المفكر الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد في كتابه الهام والمثير " الثقافة والامبريالية " التطور المبكر للروايتين الفرنسية والانكليزية الى كون فرنسا وانكلترا شكلتا الدولتين الاستعمارين الأساسيتين ، وأن تطور الرواية الأمريكية تأخرت حتى بداية القرن العشرين مع بدء انطلاق الامبريالية الأمريكية الى السيطرة على العالم.
يُفهم من طرح الدكتور ادوارد سعيد أيضا ، ان الرواية شكلت أداة اعلامية لظاهرة الاستعمار.. لتبريره أخلاقيا (رواية " روبنسون كروزو" مثلا ، حيث يصل الأبيض الى جزيرة مجهولة ويجد شخصا أسود ويبدأ بتثقيفه وإعادة تربيته وجعله انسانا راقيا – أي نقل له الحضارة باستعماره لأرضه وتحويله الى خادم له ، وهي تشبه الواقع الفلسطيني مع مغتصبي وطننا) ولكن الرواية ، هذا الفن الراقي والرائع ، الذي انتجه الاستعمار المتوحش والجشع ، خلق الرواية المضادة ، أو ألأدب المقاوم بمفهوم آخر..
لوكاتش ، المفكر الماركسي التنويري الكبير يصر بأن الرواية ( الأدب القصصي ) ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة ألأوروبية وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات ألأوروبية يمكن ان نستخلص هنا ان التطور الاجتماعي وتطور الطبقة البرجوازية ، بكل ما يشكله ويشمله هذا التطور من مضامين هو من ضروريات انطلاقة ألرواية وهي حالة لم تقف امام تطور الشعر مثلا .. وتاريخيا لم يكن الشعر بحاجة لها.
اذن ظهور الرواية الفلسطينية داخل اسرائيل بدأ عمليا مع تطور المجتمع العربي وبدء اندماجه بالمجتمع الصناعي عملا وفكرا ... لذلك نجد ان الرواية المضادة للرواية الصهيونية كان لها السبق ("متشائل" اميل حبيبي مثلا) ، لكن الرواية بمفهومها الاجتماعي الشامل ، ما زالت تتعثر!!
nabiloudeh@gmail.com
نبيـل عـودة
من اشكاليات أدبنا الفلسطيني داخل اسرائيل ، محدودية الجانر الروائي في ابداعنا المحلي. لا اعني بتعبير محدودية عدم وجود اعمال روائية او غياب الجانر ألروائي انما ما اعنية ان الرواية في ادبنا الفلسطيني داخل اسرائيل لم تأخذ مكانها كلون ادبي له وزنه ومكانته ، كما هي الحال في القصة القصيرة عامة والشعر على وجه التحديد..
يمكن الإشارة الى عدد من المحاولات الروائية الجيدة في ابداعنا المحلي ... مع ذلك يبقى الفن الروائي بعيدا عن أن يشكل تيارا ثقافيا يمكن الاشارة اليه.
لفت انتباهي مقال كتبه الناقد الدكتور حبيب بولس (1948 - 2012) وانا اراجع هذا الموضوع ضمن ما كتب ونشر ، جاء في مقاله: " في رأيي أن الأسباب الرئيسية التي تقف عائقا أمام تطور هذا الجانر تنقسم إلى فئتين: أسباب عامّة، أعني بها الأسباب الخارجة عن إرادة المبدع وأخرى خاصّة نابعة عن المبدع نفسه. من الأسباب العامّة سببان هامّان هما طبيعة الظروف التي نعيشها أولا وقلّة المرجعية لهذا الجانر محليّا وفلسطينيا ثانيّا. أمّا السبب الرئيس الخاص فيعود إلى عدم قدرة المبدعين لدينا لغاية الآن الموازنة بين الخطابين: التاريخي/ الأيديولوجي/ الواقعي والخطاب الإبداعي/ الروائي/ التخييلي.."
صحيح ان الدكتور حبيب بولس حدد الإشكالية الأساسية في اطار الخطابين التاريخي- الواقعي والأدبي - الإبداعي.
الخطابان(التاريخي والأدبي) ليسا وقفا على الجانر الروائي ، انما هم اشكالية لكل ابداع أدبي قصصي أو شعري او فني متنوع.
صحيح تماما انه لا وجود لهذين الخطابين ، التاريخي (الأيديولوجي) والأدبي (الفني)، خارج عملية الابداع .. فهما مرتبطان ارتباطا وثيقا وجدليا بعملية الابداع نفسها.
ألسؤال هل التوازن بين الخطابين هو قاعدة مطلقة؟ وكيف نتعامل مع الخطابين؟ وما هي الشروط اللغوية لتطوير جانر روائي يمكن ان يرسي هذا الفن في ادبنا داخل اسرائيل؟
من البديهيات ان الخطاب الأدبي (الفني ، طبعا بما في ذلك اللغة الروائية)، او الحدث التاريخي (الأيديولوجي) يشكلان جوهر الابداع وليس شرطا عبر استيعاب المبدع لهذه ألمعادلة وهذا يبرز في ادبنا الروائي عبر عدم فهم العلاقة التفاعلية بين الخطابين لدى اوساط واسعة من المبدعين.. في معظم الحالات نجد ان الاحساس الذاتي للمبدع هو معيار التوازن بين الخطابين.
لكن التوازن النابع من الذات في الخطابين لا يفي بالمطلوب دائما.
ان التوازن او التعادل بين الخطابين في صياغة النص ليست مطلقة، كما قد يفهم مما ورد في مقالة الناقد بولس.. او ما سبق وورد في مداخلتي.
في حديث لي معه قبل وفاته وافقني ان العلاقة بين الخطابين هي علاقة نسبية، تتعلق الى حد بعيد بقدرة المبدع نفسه في فهم نسبية هذه ألعلاقة اين يعلى خطابا على حساب خطاب وما هي محدودية كل خطاب ، أي تبقى عملية الكتابة الروائية او الإبداعية، مسالة ترتبط بالقدرات الذاتية والتجربة الذاتية والحس الذاتي.
اذن يمكن القول أننا امام حالة ابستمولوجية التي تعني باختصار شديد علم المعرفة الذي هو فرع من الفلسفة متخصص بدراسة طبيعة ألمعرفة مداها وحدودها.. ولا ابداع أدبي او فني او فكري خارح المعرفة بمفهومها الفلسفي الواسع ، وليس بشكلها كحالة من التطور الطبيعي للإنسان.
المعرفة.... هي المعيار السحري لكل ابداع أدبي في حالتنا.. وكما قال غوته:"الذي لا يعرف ان يتعلم دروس ال 3000 سنة الأخيرة يبقى في ألعتمة".
صحيح القول ان الخطاب ألتاريخي الأيديولوجي ، أي الحدث او الفكرة ، والخطاب ألأدبي الفني ،أي القدرات اللغوية، هما القاعدة لأي ابداع أدبي روائي ، قصصي ، شعري أو مسرحي أو فني ولكنه موضوع مركب أكثر اذا تناولناه من زاوية المعرفة ، المعرفة تعني القدرة على التوازن النسبي وليس المطلق وتطوير قدرات المبدع في فهم هذه العلاقة ونسبيتها. بكلمات اوضح : اين يجب ان يعطي المبدع مساحة أكبر لأحد ألخطابين وما هي حدود هذه المساحة حتى لا تصبح سلبية وقاتلة للجانر الروائي او غيرة من اشكال الابداعات الأدبية والفنية... ومدى الادراك الذاتي للواقع التاريخي ، الاجتماعي ، السياسي، الأخلاقي والثقافي بشمولية الثقافة .
قال هيغل: "ان ما هو معقول هو ما يمتلك امكانية دخول الحياة"
ان اللغة في النص تشكل مرتكزا هاما .. والموضوع ليس معرفة اللغة فقط ، معرفة اللغة امر هام ، بل القدرة على تطوير لغة مناسبة للجانر الأدبي الروائي او القصصي او الشعري وغير ذلك وهنا نسال هل اللغة الروائية مجرد انشاء سردي؟ حسب مقولة هيغل نستنتج ان الرواية تحتاج الى لغة روائيه بدونها مهما كانت الفكرة عبقرية تظل بعيدة عن المعقول ألروائي!
ان معرفة عرض الخطاب التاريخي قد يقود الى كتابة ريبورتاجية صحفية بغياب الخطاب اللغوي الروائي (اللغة الدرامية) ، معرفة الخطاب الأدبي قد يقود الى كتابة نص مليء بالفذلكة اللغوية والنحت الصياغي وصولا الى تركيبة جمالية لا تقول شيئا للقارئ ، إلا ان الكاتب يعرف النقش باللغة ... وربما ما ينقص الخطابين ، هو خطاب ثالث: "الخطاب ألتخيلي" القدرة على مقاربة الواقع بالنص ألروائي وخطاب رابع: "الخطاب ألدرامي" اي القدرة على بناء الأحداث المتخيلة التي تعبر عن الخطاب التاريخي ليس بشكله في الواقع اليومي ، وتغذي اللغة النص بأبعاد درامية جمالية وليس مجرد النقش اللغوي الأقرب للرسم بالريشة. اللغة الدرامية بحد ذاتها تشد القارئ تماما كما تشده صياغة ألحدث ولكن دورها ان تعمق الناحية الدرامية ، القكرة الدرامية لوحدها هي مجرد خبر . اللغة الدرامية تحول الخبر الى حدث روائي. وهنا يحدث تفاعل هام ومصيري بين النص الروائي واللغة الروائية . . أي اللغة الدرامية بكلمات أخرى.
ما هي اللغة الروائية ؟ هل من السهل اكتسابها بالدراسة ؟ .. وهل معرفة بحور الخليل مثلا تكفي لجعل الناظم شاعرا؟
ليس كل من يحسن النظم ومتمكن من لغة الضاد هو شاعر..
نجد في ثقافتنا المحلية (وفي الثقافة العربية عامة) مئات ناظمي الشعر، السؤال كم عدد الناظمين الذي نجحوا بجعل نظمهم قصائد شعرية حقيقية ؟ هنا نجد ان المئات يُختصرون لأفراد قلائل.
في القصة القصيرة لدينا عشرات الناثرين ... السؤال: كم ناثر نجح بأن يصل لإنتاج قصصي فني؟
احيانا في مراجعاتنا النقدية لا نقول كل الحقيقة حول التركيبة الابداعية ، لأسباب مختلفة ، أهمها اعطاء دفعة وتفاؤلا للناثر أو الناظم لعل التجربة القادمة تكون أكثر اكتمالا.. طبعا هذا لا يمكن فصله عن مستويات الابداع العامة لمجتمعنا.. ومقياسنا لا يمكن ان يكون حسب الابداعات العربية او العالمية.. حلمنا ان نصل ، لكن الحلم يحتاج الى الكثير من العناية الغائبة من أجندة مؤسساتنا الرسمية والشعبية.
هناك لاعبون في ساحة النقد ، يرتكبون جريمة بحق المبدعين حين يوهمونهم انهم بلغوا القمة ... ولكنه موضوع آخر!!
بالطبع هناك اشكاليات أكبر في ابداع جانر روائي.
النظرية والتحليل النقدي النظري جيد لتحليل العمل ، تقييمه ونقده ... وليس ليدرسها المبدع ويطبقها. ان عملية الابداع مركبة ومتداخلة بعناصر انسانية وعقلية ومعرفية (ابستمولوجية) وتجريبية واجتماعية واقتصادية أكثر اتساعا من مجرد فكرة تصلح لنص روائي او قصصي او شعري.
اعتقد ان مشكلة الجانر الروائي ترتبط بتطوير ألمعرفة عندها سننتقل من "غبار روائي" الى "نجوم روائية".
اني أدعي ان معظم الروايات التي ظهرت في أدبنا العربي داخل اسرائيل ، تفتقد للمركب الروائي الأساسي. وتكاد تكون خطابا تاريخيا مجردا من القدرة على القص والدهشة وجعل اللغة طيعة متدفقة مثيرة ومتفجرة. طبعا لدينا نصوص روائية جيدة لكنها من القلة بحيث لا تشكل تيارا ادبيا روائيا.
الابداع الحقيقي ، نثرا أو شعرا ، لا يعني نقل حدث تاريخي او انطباعي بلغة سليمة. أو بديباجة مليئة بالفذلكة والألعاب الصياغية . الموضوع ليس انشاء لغويا بسيطا أو فخما جدا . هناك لغة للقص تختلف بتركيبتها عن لغة المقالة . تختلف بتركيبتها عن لغة الريبورتاج ، تختلف بتركيبتها عن لغة الشعر. لغة تفرض نفسها على كل قوانين اللغة وقيودها، ويبدو لي ان نشوء لغة عربية حديثة يخضع في معظمه لتطور الأدب القصصي والشعري الحديث ، ويمكن رصد البدايات الثورية لهذه اللغة الحديثة في الأدب العربي الذي طوره ادباء المهجر، وبنشاط الآباء اليسوعيين في لبنان.واليوم تلعب الصحافة ولغتها ومفرداتها دورا هاما في تطوير لغة عربية سهلة ممتعة سريعة الاندماج مع المناخ الثقافي وفرضها على اللسان العربي رغم المجامع اللغوية التي لا تزال تفسر "الساندويش" ب "الشاطر والمشطور"!!
ان رواة الأساطير يستخدمون اسلوبا هو أقرب للغة الرواية اذا استبدلنا المفردات العامية . اسميها لغة تشويق وأسلوبا يعرف كيف يشد المستمع بالمفاجئات والدهشة التي تظل حتى نهاية الأسطورة.
لا اقلل من قيمة الموروث التراثي التي ارتبط بشخص ألراوي في المقاهي او السهرات. لكنه لا يشكل قاعدة للكتابة الروائية او ألقصصية انما ملهما لتنمية القدرة على التخيل وفهم عناصر الاثارة ودورها في الابداع السردي. يجب ان لا ننسى ان الرواية هي وليدة عصر تحرير ارادة الإنسان. الانسان ولد ليكون حرا، ان لم يكن اجتماعيا ففي فكره ونصوصه وهذا ما اثبتته حركتنا الشعرية الفلسطينية داخل اسرائيل التي ولدت في ظروف تسلط قمعي وإرهابي وحصار ثقافي .. قبل ان تبدآ لأسباب لا مجال لها الآن بالتراجع (يمكن القول في مرحلة الحريات والتواصل مع الثقافة العربية بدون قيود).
رغم الانفتاح الواسع على الثقافة العربية والعالمية وما أنجزته من أعمال روائية راقية جدا إلا ان روايتنا لم تحدث تلك العاصفة التي احدثها شعرنا.
اذن أين مشكلتنا..؟!
بالطبع أرى أهمية ما طرحه الناقد الدكتور حبيب بولس...حيث كتب : " في مجتمع كمجتمعنا وفي ظروف كظروفنا نجد أن الرواية دائما تخاتل طموح كتابة التاريخ الفني للمخاض ألسياسي الاجتماعي في فلسطين إبان ألنكبة قبلها، في خضمها، بعدها ومحليا أيضا،وهذا أمر من الممكن أن يشكّل منزلقا للكتابة الروائية في ظروفها الاجتماعية المعيشة. فعلى ألكاتب - أي كاتب - أن يحذر التاريخ، وأن يعرف كيف يقيم توازنا بينه وبين الإبداع، إذا أراد فعلا كتابة رواية فنية. وكم كان محقا ذلك الكاتب المفكر ألمغربي عبد الكبير ألخطيي حين قال: "التاريخ هو الوحش المفترس للكاتب"، وهو يقصد بذلك أن صوت التاريخ – الواقع- الايدولوجيا ، حاضر على الدوام في شغاف قصصنا، يتأدى بطرائق وأساليب مختلفة متنوعة ، جهيرا حينا- خافتا حينا أخر".
أجل هذا صحيح . ولكن هل وضعنا يدنا على الوجع الأساسي ؟
الناقد استمر في تحليل "الواقع الموضوعي" ، اذا صح هذا التعبير ... الحائل بين تحول الابداع الروائي الى جانر مركزي في ثقافتنا. وهو تحليل علمي نقدي سليم تماما . ولكني ككاتب قصصي وروائي أيضا ، (اصدرت ثلاث روايات) ، اواجه مشاكل مستعصية لا تبقي في نفسي الرغبة لتجربة روائية جديدة ، بل فقط للكتابة الثقافية العامة ، وكتابة المقال الفكري والسياسي والمراجعات الثقافية ، أو النقد كما تسمى مجازا... وكتابة القصة القصيرة ، أي لا أجهد نفسي لأكتب رواية رغم توارد عشرات الأفكار الروائية الجيدة. دور النشر غائبة او تستغل الكاتب لتحلبه . لا مؤسسات ترعى المبدعين . هناك تسيب ثقافي ، الكثير من النصوص انشائي يفتقد للغة الرواية ولأجواء الرواية ، ستجد عددا من " النقاد " ، حتى بدون بعض الفضة ، يجعلوا كل نص ابداعا لا مثيل له في الأدب العالمي رغم انه لا يستحق القراءة.
كل واقعنا هو واقع مريض. ليس فقط ان شعب اقرأ لا يقرأ ، مؤسساتنا غائبة عن الفعل الثقافي . ثقافتنا بنيت بظروف عصيبة من التحدي البطولي ، ومن معارك الحفاظ على لغتنا وثقافتنا وانتمائنا القومي ، ضد سياسة القمع والحكم العسكري البغيض .
مع ذلك كان هناك القادة الطلائعيين الأبطال داخل الجسم السياسي ( الحزب الشيوعي ) الذين تصدوا بقوة ونجاح وربطوا بين السياسي والثقافي بوعي كامل لأهمية هذا الربط في المرحلة التاريخية التي كنا بمواجهتها، خلقوا أجيالا من المثقفين والمناضلين شكلوا العمود الفقري لانطلاقة ثقافتنا وضرب جذورها عميقا بالأرض .. وصولا الى انبهار العالم العربي كله بما انجزناه سياسيا وثقافيا.
للأسف اليوم في ظل الحرية نتهاون بما انجزناه ونضيع ما وصلنا اليه. وهذا ينعكس سلبا على ابداعنا (وعلى واقعنا السياسي أيضا)وعلى تطوره بما في ذلك الجانر الروائي الهام جدا في كل ثقافة متحدية.
الرواية كانت تاريخيا ، معيارا لتطور المجتمعات الرأسمالية ، بل ويعزي المفكر الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد في كتابه الهام والمثير " الثقافة والامبريالية " التطور المبكر للروايتين الفرنسية والانكليزية الى كون فرنسا وانكلترا شكلتا الدولتين الاستعمارين الأساسيتين ، وأن تطور الرواية الأمريكية تأخرت حتى بداية القرن العشرين مع بدء انطلاق الامبريالية الأمريكية الى السيطرة على العالم.
يُفهم من طرح الدكتور ادوارد سعيد أيضا ، ان الرواية شكلت أداة اعلامية لظاهرة الاستعمار.. لتبريره أخلاقيا (رواية " روبنسون كروزو" مثلا ، حيث يصل الأبيض الى جزيرة مجهولة ويجد شخصا أسود ويبدأ بتثقيفه وإعادة تربيته وجعله انسانا راقيا – أي نقل له الحضارة باستعماره لأرضه وتحويله الى خادم له ، وهي تشبه الواقع الفلسطيني مع مغتصبي وطننا) ولكن الرواية ، هذا الفن الراقي والرائع ، الذي انتجه الاستعمار المتوحش والجشع ، خلق الرواية المضادة ، أو ألأدب المقاوم بمفهوم آخر..
لوكاتش ، المفكر الماركسي التنويري الكبير يصر بأن الرواية ( الأدب القصصي ) ليست إلا ملحمة البرجوازية التي ظهرت على مسرح التاريخ في أعقاب النهضة ألأوروبية وبالتحديد بعد الثورة الصناعية التي جعلت منها الطبقة السائدة في المجتمعات ألأوروبية يمكن ان نستخلص هنا ان التطور الاجتماعي وتطور الطبقة البرجوازية ، بكل ما يشكله ويشمله هذا التطور من مضامين هو من ضروريات انطلاقة ألرواية وهي حالة لم تقف امام تطور الشعر مثلا .. وتاريخيا لم يكن الشعر بحاجة لها.
اذن ظهور الرواية الفلسطينية داخل اسرائيل بدأ عمليا مع تطور المجتمع العربي وبدء اندماجه بالمجتمع الصناعي عملا وفكرا ... لذلك نجد ان الرواية المضادة للرواية الصهيونية كان لها السبق ("متشائل" اميل حبيبي مثلا) ، لكن الرواية بمفهومها الاجتماعي الشامل ، ما زالت تتعثر!!
nabiloudeh@gmail.com