عندما تنجو كتب شاعر من محرقة النظام لتصبح وقودا للتدفئة في ريف حلب
محمد إقبال بلّو
الجمعة 18/4/2014
حلب ـ ‘القدس العربي’ بحدس الشاعر وإحساسه أدرك محمد أن قوات النظام ستقتحم بلدته المطلة على سفوح سمعان في ريف حلب الشمالي، وبقرار سريع خرج من منزله الذي عمل ليل نهار لأكثر من ست سنوات لإتمام بنائه وتجهيزه، لم يأخذ معه سوى أطفاله الثلاثة معتبراً الفوز والنجاة بهم هدفاً أساسياً لا يعنيه سواه.
إقتحمت قوات النظام بلدة عندان من أربعة محاور بعد أن نزح معظم الأهالي عنها لانتشار خبر تحرك الجيش باتجاههم، وكان عناصر الأمن والجيش يحملون قوائم بأسماء الناشطين كما يرافقهم بعض المخبرين لإرشادهم إلى منازل أولئك، وبالفعل وصل عناصر النظام إلى بيوت أكثر من مئتي ناشط منهم محمد وقاموا بإحراقها بشكل كامل انتقاماً لمن كان له دور في التظاهر ضد النظام آنذاك.
عندان من أوائل بلدات الريف الحلبي التي ثارت ضد النظام السوري، والتي كانت سباقة إلى الدفاع عن باقي مناطق الريف ومنع أرتال قوات النظام من الوصول إليها عبر الطريق الدولية الرئيسة التي ينتهي بها المطاف إلى مدينة غازي عنتاب التركية، بالإضافة لثأر قديم بين أبناء البلدة وبين النظام السوري منذ أيام الثمانينات، حيث اقتحمت وقتها وتم قتل واعتقال الكثير من شبابها، فالمعركة لم تكن جديدة بل كان لها جذور متأصلة في قلوب العندانيين.
فقد محمد عمله، ومن ثم فقد منزله مما دفعه للإقامة في منطقة حدودية تركية فترة من الزمن حيث كان يمارس نشاطه الإعلامي والأدبي، أبلغه بعض الأقارب بحرق منزله بأسلوب لا يخلو من المواساة والشفقة، إلا أنه كان يشعر بانتصار كبير إذ أن قوات النظام لم تستطع اعتقاله أو قتله وأطفاله، وهذا بالنسبة له كان إنجازاً.
لم يبق من أشياء محمد في ذلك المنزل المحترق سوى عشرات النسخ من مجموعته الشعرية التي قام بطباعتها ونشرها قبل انطلاق الثورة بفترة وجيزة، كانت ملطخة ببعض السواد إلا أنها في حالة جيدة أدخلته ضمن سعادة غامرة بنجاة أعز ممتلكاته من الحرق، رغم أن مجموعة شعرية ضخمة وبنسخة واحدة فقط من تأليف والده المتوفى منذ أعوام كانت واحدة من الخسائر.
في أواسط الشتاء عاد محمد إلى بلدته بشوق الشاعر وفرحة الغانم يريد الحصول على نسخه المتبقية، أدرك في طريقه إلى المنزل أنه لن يلتقي بضالته، فقد كانت بعض الأوراق من ديوانه متناثرة هنا وهناك في الشارع الذي يقع بيته فيه، لم ينحنِ لجمعها، ولم يشعر بالحزن أو اليأس بل أصر على مواصلة الطريق أملاً في إيجاد شيء.
لمح مجموعة من الأطفال يتجمعون بالقرب من المنزل ويشعلون ناراً تقيهم برد الشتاء، وتعوضهم ما حرمهم منه النظام لثورة أهاليهم ضده، ولدى اقترابه أدرك أنهم يشعلون نسخاً كثيرة من مجموعته الشعرية، تلك الطفلة الوحيدة الغالية على قلبه، ويمررون أصابعهم الغضة فوق اللهب بمتعة من وصل الجنة دون حساب.
في ذاك الشتاء قام أهالي البلدة باستخدام كل ما لم يحرقه النظام طلباً للدفء، فقد رخص عندهم كل غالٍ أمام موت أطفالهم برداً، حيث اقتلعت معظم الأبواب الخشبية من المنازل، كما استعملت الكثير من قطع الأثاث، حتى الأشجار المتناثرة هنا وهناك تعرضت للقتل بيد من أحبوها وقاموا برعايتها، إنه البرد الذي يجمد الأصابع والوجوه وحتى المشاعر، لم يكتفِ النظام بالقصف الجوي والمدفعي بل قرر قتلهم برداً بحرمانهم من كل وسائل الطاقة ومنع وصولها إليهم.
ابتسم محمد ودخل علبة السواد تلك، كانت أطلال منزل ورفات ذكريات، اختلطت المشاعر كلها، وتواردت ألف ذكرى في مخيلته، وقال لنفسه: رغم ذلك مازالت الأمور جيدة، فمن كان يصدق أن الشعر يمنح الدفء حتى في زمن الحرب؟
محمد إقبال بلّو
الجمعة 18/4/2014
حلب ـ ‘القدس العربي’ بحدس الشاعر وإحساسه أدرك محمد أن قوات النظام ستقتحم بلدته المطلة على سفوح سمعان في ريف حلب الشمالي، وبقرار سريع خرج من منزله الذي عمل ليل نهار لأكثر من ست سنوات لإتمام بنائه وتجهيزه، لم يأخذ معه سوى أطفاله الثلاثة معتبراً الفوز والنجاة بهم هدفاً أساسياً لا يعنيه سواه.
إقتحمت قوات النظام بلدة عندان من أربعة محاور بعد أن نزح معظم الأهالي عنها لانتشار خبر تحرك الجيش باتجاههم، وكان عناصر الأمن والجيش يحملون قوائم بأسماء الناشطين كما يرافقهم بعض المخبرين لإرشادهم إلى منازل أولئك، وبالفعل وصل عناصر النظام إلى بيوت أكثر من مئتي ناشط منهم محمد وقاموا بإحراقها بشكل كامل انتقاماً لمن كان له دور في التظاهر ضد النظام آنذاك.
عندان من أوائل بلدات الريف الحلبي التي ثارت ضد النظام السوري، والتي كانت سباقة إلى الدفاع عن باقي مناطق الريف ومنع أرتال قوات النظام من الوصول إليها عبر الطريق الدولية الرئيسة التي ينتهي بها المطاف إلى مدينة غازي عنتاب التركية، بالإضافة لثأر قديم بين أبناء البلدة وبين النظام السوري منذ أيام الثمانينات، حيث اقتحمت وقتها وتم قتل واعتقال الكثير من شبابها، فالمعركة لم تكن جديدة بل كان لها جذور متأصلة في قلوب العندانيين.
فقد محمد عمله، ومن ثم فقد منزله مما دفعه للإقامة في منطقة حدودية تركية فترة من الزمن حيث كان يمارس نشاطه الإعلامي والأدبي، أبلغه بعض الأقارب بحرق منزله بأسلوب لا يخلو من المواساة والشفقة، إلا أنه كان يشعر بانتصار كبير إذ أن قوات النظام لم تستطع اعتقاله أو قتله وأطفاله، وهذا بالنسبة له كان إنجازاً.
لم يبق من أشياء محمد في ذلك المنزل المحترق سوى عشرات النسخ من مجموعته الشعرية التي قام بطباعتها ونشرها قبل انطلاق الثورة بفترة وجيزة، كانت ملطخة ببعض السواد إلا أنها في حالة جيدة أدخلته ضمن سعادة غامرة بنجاة أعز ممتلكاته من الحرق، رغم أن مجموعة شعرية ضخمة وبنسخة واحدة فقط من تأليف والده المتوفى منذ أعوام كانت واحدة من الخسائر.
في أواسط الشتاء عاد محمد إلى بلدته بشوق الشاعر وفرحة الغانم يريد الحصول على نسخه المتبقية، أدرك في طريقه إلى المنزل أنه لن يلتقي بضالته، فقد كانت بعض الأوراق من ديوانه متناثرة هنا وهناك في الشارع الذي يقع بيته فيه، لم ينحنِ لجمعها، ولم يشعر بالحزن أو اليأس بل أصر على مواصلة الطريق أملاً في إيجاد شيء.
لمح مجموعة من الأطفال يتجمعون بالقرب من المنزل ويشعلون ناراً تقيهم برد الشتاء، وتعوضهم ما حرمهم منه النظام لثورة أهاليهم ضده، ولدى اقترابه أدرك أنهم يشعلون نسخاً كثيرة من مجموعته الشعرية، تلك الطفلة الوحيدة الغالية على قلبه، ويمررون أصابعهم الغضة فوق اللهب بمتعة من وصل الجنة دون حساب.
في ذاك الشتاء قام أهالي البلدة باستخدام كل ما لم يحرقه النظام طلباً للدفء، فقد رخص عندهم كل غالٍ أمام موت أطفالهم برداً، حيث اقتلعت معظم الأبواب الخشبية من المنازل، كما استعملت الكثير من قطع الأثاث، حتى الأشجار المتناثرة هنا وهناك تعرضت للقتل بيد من أحبوها وقاموا برعايتها، إنه البرد الذي يجمد الأصابع والوجوه وحتى المشاعر، لم يكتفِ النظام بالقصف الجوي والمدفعي بل قرر قتلهم برداً بحرمانهم من كل وسائل الطاقة ومنع وصولها إليهم.
ابتسم محمد ودخل علبة السواد تلك، كانت أطلال منزل ورفات ذكريات، اختلطت المشاعر كلها، وتواردت ألف ذكرى في مخيلته، وقال لنفسه: رغم ذلك مازالت الأمور جيدة، فمن كان يصدق أن الشعر يمنح الدفء حتى في زمن الحرب؟