فهو اسلوب ابلغ في التاثير ولايجعل احدا يحمل اي ضغينة
ومعلوم ان من يدعوا للنهضة على اساس الاخلاق هم الاخوان المسلمين ولكن لاحظ كيف كان اسلوب الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله
--------------------
وقامت - الى جانب الجمعيات الثقافية والخيرية - جمعيات أخلاقية تعمل لإنهاض الأمة على أساس الاخلاق بالوعظ والارشاد والمحاضرات والنشرات، على اعتبار أن الخلُق أساس النهضة. وقد بذلت في هذه الجمعيات جهود وأموال، ولكنها لم تكن لها نتائج هامة. ونفّست عاطفة الأمة بهذه الأحاديث المملولة المكررة. وقد كان قيام هذه الجمعيات مبنياً على الفهم المغلوط لقوله تعالى مخاطباً الرسول ﴿وإنك لعلى خلق عظيم ﴾، ولقوله "إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق"، ولقوله " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، او ما ذهب اليه الشاعر بقوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت===========فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
إن فهم هذه الأدلة التي ذهبوا اليها في استدلالهم على الأخلاق يحتّم علينا ان نتساءل عن معنى الأخلاق التي أرادوها. فهل أرادوا بالأخلاق كل عمل يقوم به الانسان، أم أرادوا بها الأخلاق التي يتصف بها الفرد أثناء قيامه بالعمل او القول؟
فإن قالوا إنما المراد بالأخلاق: كل عمل يقوم به الانسان. فان هذا القول غير صحيح. وهو تحميل للكلمة معنىً غير المعنى الذي وُضعت له. فالتجارة والزراعة وكتابة العقود والجهاد وغير ذلك من الاعمال لا توصف بأنها أخلاق. وإنما هي اعمال يقوم بها الانسان، ويتصف بصفات معينة حين قيامه بها. فهو حينما يتحدث بحديث كنقل واقعة او خبر أو أداء شهادة، فهذا عمل قائم بذاته. وحكمه حكم ما جاء به الشرع. الا ان هناك حكماً آخر يتعلق بالفرد حين قيامه بهذا الفعل. فقد يتصف بالصدق في قوله، وقد يتصف بالكذب. وقد أوجب الشارع على الفرد أن يصدُق في حديثه، كما أجاز له أن يكذب في بعض الحالات، او أن يواري في حالات اخرى، وحرم عليه أن يصدق في حالات غيرها.
إذن فالصدق صفة خلقية يتصف بها الفرد أوجبها عليه الشرع. والعهد عقد بين طرفين. ويتصف المتعاقدان بصفة معينة قد يلتزمها طرف دون طرف. فأوجب الشرع على المتعاقدين الوفاء، إلا ان بعضهم قد يغرر وقد يخدع. فهذه صفات يتصف بها المتعاقدان، وهكذا. فالأخلاق صفة للفرد يتلبس بها حين قيامه بالاعمال او الاقوال التي يريد القيام بها. ونخلص الى القول بان الاخلاق جزء من مقومات الفرد، والتي هي العقيدة والعبادة والاخلاق والمعاملة. وصلاح الفرد بصلاح هذه المقومات الأربع، وفساده بفسادها أو فساد بعضها. فمهما سمت أخلاق الفرد، ومهما اتصف بصفات حميدة، فلا قيمة لها مطلقاً إن كانت عقيدته فاسدة. فلا يقال إن الكافر لا خلق له. إذن أن هناك من الكفار او الملحدين من يتصف بصفات حميدة مثلاً. فهو لا يكذب، ولا يخون، ولا يغدر. ومع ذلك فانه لا يعتبر فرداً صالحاً، لأن الأساس في مقوماته ان تكون مبنية على عقيدته. من هذا الفهم لواقع الأخلاق، نعود لفهم النصوص التي حاولوا الاستدلال بها. فعملية الاستدلال بنص من النصوص تحتّم فهم الواقع والتفقّه فيه، تماماً كفهم النص وفهم ما دلّت عليه ألفاظه وتراكيبه.
فالنص الاول، وهو قوله تعالى ﴿وإنك لعلى خلق عظيم ﴾ هو خطاب من الباري عز وجلّ موجّه لرسول الله . فقد جعله الله على خلق عظيم. فجمّله بالصفات الحميدة في كل أفعاله. وبالتالي فان هذا الخطاب هو وصف لشخص الرسول وليس للمجتمع. والمراد من بحثنا هو كيف ننهض بالمجتمع؟ فالمسألة مسألة النهضة.
وأما النصان الآخران، قوله (إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق) وقوله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). فإن المعنى المراد هو كافة أفعال الانسان، وأنه بعث لبيان كافة الاحكام الشرعية الواجب على الانسان التقيد بها. فالمسألة إذن ليست مسألة خلق او صفة، بل مسألة تكوين الشخصية الإسلامية كاملة من عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة. وما زال الموضوع متعلقاً بصفات الفرد او مقوماته.
وأما قول الشاعر، فلا مجال للإستدلال به، لأنه قول شاعر، والاستدلال إنما يكون بالكتاب والسنّة فقط. هذا بالاضافة الى خطأ الشاعر فيما ذهب اليه. إذ أن الأمم بعقيدتها والافكار التي تحملها، والنظم التي تطبقها، والكيان السياسي الذي يحفظ لهذه الأمة وحدتها، ويوجد لها مكانتها.
لذلك فان الخطأ في الفهم إنما كان مبنياً على الفهم المغلوط للمجتمع، والتصور بانه مكون من أفراد. ولذلك لا بد من معرفة مكونات المجتمع لتعرف مقوماته، ويصار الى تقويمه بناءا على هذه المقومات.
وبالنظر في مكونات المجتمع، يُرى أنه جماعة من الناس، وأفكار ومشاعر ونظام. هذه هي مكونات اي مجتمع. وفساد المجتمع وصلاحه متوقف على صلاح الافكار والمشاعر والنظام. حيث ان الناس هم الناس وهم حمَلة هذه الافكار وبصلاحها يصلحون وبفسادها يفسدون. أما مقومات الفرد فهي كما أسلفنا عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة. وصلاح الفرد إنما يكون بصلاح مقوماته وفساده بفسادها كذلك. أما أن يُتَصوّر ان المجتمع مكون من افراد، فهذا تصور خاطئ، والسير بصلاح الفرد للوصول الى صلاح المجتمع سير خاطئ، ولا يمكن أن يحقق تلك النتيجة على الاطلاق. فهما طريقان مختلفان لا يصلان أبداً الى نفس التنيجة. وليست المسألة أن هذا الطريق أقصر أو أبعد، بل المسألة انهما طريقان مختلفان لا يؤديان الى نفس التنيجة.
وبيان ذلك، أننا لو قمنا باصلاح الفرد صلاحاً تاماً، بحيث بلغت نسبة مَن أصلحنا من المسلمين أكثر من 90% من الذين اعتقدوا الاسلام عقيدة يقينية واضحة نيّرة، ولم يأخذوا فيها شيئاً ظنّياً، والتزموا العبادات على أكمل وجه، فرائض ونوافل. فالصلاة، يصلي الفريضة المكتوبة، والنافلة المؤكدة وغير المؤكدة، ويقوم الليل فلا يوتر الا قبيل الفجر. ويزكي ماله ويتصدق بأكثر من ثلث ماله فلا يترك يتيماً ولا مسكيناً إلا أعاله. ويصوم صوم سيدنا داوود عليه السلام بالاضافة الى شهر رمضان المبارك. ويحج ويعتمر معظمم سنيّ حياته، هذا من حيث العبادات. بالاضافة الى تلاوة القرآن التي هي خبزه اليومي والضراعة الى الله قياماً وقعوداً وعلى جنبه. فهل بعد ذلك من شيء؟ وأما أخلاقه فخلقه القرآن أي أنه يتصف بكل صفة حسنة ذكرها الله سبحانه في قرآنه، وأما معاملته مع الناس فمقياسه الحلال والحرام، فلا يقدم في معاملته على محرَّم ابداً.
لو افترضنا أن غالبية المسلمين جعلناهم على مثل هذا النمط، فهل يصبح مجتمعهم مجتمعاً اسلامياً؟ مع أن فيه قابلية أن يُحكَم بأنظمة الكفر، ويسوده ويتحكم فيه أناس كفرة، والفاسق او الفاجر ومن يفعل الموبقات ليس هناك من يقيم عليه حد، والبلاد التي يحيون فيها نهب لغيرهم، وليس لهم أي قوة يعتمدونها في حمل الدعوة للعالم. فهل يكون مجتمعهم هذا مجتمعاً اسلامياً؟؟؟ هل يكون مجتمعهم مجتمعاً اسلامياً إن لم يكن لهم كيان سياسي، ودولة تطبق فيها أنظمة المجتمع؟ هل يكون لهم مجتمع اسلامي وليس لهم خليفة ينوب عنهم في تطبيق الاسلام في الداخل وإقامة الحدود وتنفيذ العقوبات على المخالف، ويحمي ثغور هذا البلد ويحفظ أمنه من أي اعتداء، ويجهز الجيوش ويعدُّ العدة لحمل الدعوة الى العالم؟؟؟
لا، والف لا.
فالمجتمع جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة. والعلاقات الدائمة وجودها حتمي عند اية جماعة يتوافقون على العيش على بقعة واحدة من الارض. إلا ان وجود هذه العلاقات لا يتم الا بناءا على افكار يتفقون عليها لتنظيم هذه العلاقات. وبوجود هذه الافكار والتزامهم بها تتواجد في نفوس هؤلاء الناس مشاعر متجانسة مع هذ الافكار فيغضبون حين يخرج على هذه الافكار أحد، ويُسرّون حين يلتزم بما اتفقوا عليه أحد.
فحين يتفقون على اشباع غريزة النوع بالزواج، تجد القرية فرحة مسرورة حين يقوم أحد أبنائها بالالتزام بهذه الفكرة. وتقام في القرية الأفراح والأهازيج والأغاني. أما اذا حصل العكس وحاول أحدهم أن يخالف ما اتفقوا عليه، بأن أراد اشباع غريزة النوع عنده بغير ما اتفقوا عليه كالزنا مثلاً، او الإقامة سفاحاً مع امرأة، فان القرية كلها تثور عليه وقد تُقدم على قتله. وهكذا مع كل فكرة اتفقت الجماعة عليها. فمبادلة السلع والبيع، اذا خرج عنها أحد غضب عليه الجميع وسمّوه حرامي. وحاولوا معاقبته. ولأجل أن يبقى الأمر منضبطاً، تنيب هذه الجماعة عنها أميراً او شيخاً او رئيساً او مختاراً يتولى الاشراف على تنفيذ تلك الافكار التي اتفقوا عليها. هذه طبيعة تكوين المجتمعات ليس غير. وإلا فان اجتماع آلاف من البشر على ظهر سفينة لا يكون مجتمعاً. لأنهم لا يشتركون في افكار واحدة، ومشاعرهم ليست واحدة، ولم يتفقوا على نظام واحد. بل يخضعون لنظام السفينة، ولم ينيبوا عنهم من يشرف على تنفيذ ما اتفقوا عليه لأنهم لم يتفقوا على شيء أصلاً. ونخلص الى القول أن المجتمع هو جماعة من الناس بينهم علاقات دائمة تنظمها افكار واحدة، ومشاعر واحدة، تكون على أساسها نظاما واحدا، ويناب عنهم أحدهم لتنفيذ ذلك النظام. ومن هذا يتبين ان مقومات المجتمع هي افكاره ومشاعره والنظام المنبثق عن هذه الافكار ونائب ينوب عنهم (أي حاكم) يتولى التنفيذ.
فصلاح هذا المجتمع بصلاح هذه المقومات، وفساده بفساد هذه المقومات. واما ما يقال عنه أنه عرف عام. فان الافكار والمشاعر حين تأخذ دور العراقة والتركيز في النفوس يتكون من اتحادهما عرف عام يصبح له قوة القانون، بل إنه في كثير من الاحيان أقوى أثراً من القانون. ويصبح وكأنه رقيب على تصرفات الافراد والحكام. بالعرف العام يخيف الحاكم تماماً كما يخيف الفرد.
وحين نريد اصلاح مجتمع ما، علينا أن نقوم باصلاح العرف العام فيه عن طريق اصلاح الافكار والمشاعر الموجودة فيه. وبالتالي يصار الى تغيير النظم المطبقة، وتغيير الحاكم المنفذ لتلك الافكار. فالعمل مباشرة يكون عملية اصلاح وتغيير العرف العام. وذلك ببيان فساد الافكار العامة الموجودة وبيان فسادها للناس حتى يقتنع الناس بفسادها فيعمدوا لتغييرها. وبالتالي تتغير نظرتهم للحاكم ويعمدوا لتغييره. هذه هي طريقة تغيير المجتمع واصلاحه. لا عن طريق الفرد، لأن طريق اصلاح الفرد تختلف تماماً عن هذا الطريق.
الا ان الفئة او الجماعة او التكتل او الحزب القائم على عملية التغيير لا بد وأن يكون افراده جميعهم قد أصلحت عقائدهم وعباداتهم وأخلاقهم ومعاملاتهم. ولا يقبلون في صفوفهم أي عنصر فاسد، لأنه لا يكون من جنسهم. فعملية اصلاح الفرد تكون فقط لأعضاء التكتل او الحزب. واما التكتل او الحزب فانه يسير بمجموعه في طريق اصلاح المجتمع.
إن عدم وضوح هذا الفهم لدى تلك الجمعيات جعلها تتخبط في سيرها. ولا تؤدي الى أي شيء يمكن ان يحقق للأمة نهضتها. خصوصاً وانهم كانوا متأثرين بما تركّز في أذهان الكثير من المصلحين وعلماء الأخلاق من أن الفرد إنما تبنيه او تهدمه أخلاقه. فالخلق القويم يجعله قوياً مستقيماً فعالاً منتجاً عاملاً للخير والصلاح والاصلاح. والخلق الذميم يجعله ضعيفاً مسترخياً لا نفع منه ولا خير فيه، ولا همّ له في حياته الا إشباع شهواته وإرضاء أنانيته. ولما كانت الجماعة إنما يبنيها او يهدمها الفرد، والفرد إنما تبنيه او تهدمه أخلاقه، لذلك، فقد ساروا في طريق اصلاح الفرد عن طريق اصلاح أخلاقه.
وهذا الفهم الخاطئ لعلماء الأخلاق والمصلحين جعل خطأهم مزدوجاً. خطأ الظن بتكون المجتمع من أفراد، وخطأ تقويم الفرد بالأخلاق. وقد سبق وأشرنا الى ان الاخلاق هي صفة من صفات الفرد وليست هي الأساس في حياته او سلوكه. فلو أن شخصاً خلقه كخلق الأنبياء ولكنه ملحد فهل يعتبر صالحاً؟ أم أنه يبقى كافراً ولا خير فيه؟ فالأساس في حياة الفرد عقيدته. وأما بقية أعماله وصفاته فيمكن تقويمها، ولا يخرجه اعوجاجها عن الاسلام. فلو ارتكب فرد عقيدته جيدةٌ إساءةً خلقيةً، أو حتى إساءات، فان ذلك لا يخرجه عن كونه مسلماً. ويمكن اصلاحه بسهولة ما دامت عقيدته صالحة. فالقول بأن الفرد إنما تبنيه أخلاقه او تهدمه أخلاقه قول خطأ.
ومما يؤسف له ان هذه الفكرة: فكرة أصلِح الفرد يصلح المجتمع، وفكرة إصلاح الفرد عن طريق الأخلاق، بالرغم من فشل جميع الحركات التي قامت على أساسها، ما زالت هذه الافكار تقتنع بها العامة، وبانها أساس الاصلاح، وما زالت تنشأ على أساسها جمعيات متعددة تسير في نفس الطريق والاسلوب.
مع ان الحقيقة هي أن وسائل اصلاح الجماعة غير وسائل اصلاح الفرد. ولو كان الفرد جزءا في الجماعة، لأن فساد الجماعة آتٍ من فساد مشاعرها الجماعية، ومن فساد أجوائها الفكرية والروحية، وآتٍ ايضاً من وجود المفاهيم المغلوطة عند الجماعة. وبعبارة أخرى، آتٍ من فساد العرف العام.
أما قولنا بفساد مشاعرها الجماعية: فيعني أن مشاعرها لم تصبح واحدةً، فهي لا تثور وهي تشاهد الكفر مطبّقاً عليها، ولا تهتز مشاعرها الجماعية وهي ترى أبناءها غارقين في الحرمات، او ترى النظم المطبّقة عليها كفراً صراحاً.
واما فساد أجوائها الفكرية والروحية: فيعني أننا نجد أن افكار الغرب او افكار الكفر قد وجدت الى عقلها طريقاً. فقد امتزجت هذه الافكار بأفكارها (الإسلامية) فنادت بالديمقراطية، ونادت بالحرية، ونادت بالاشتراكية، محاولةً المزج بينها وبين الاسلام تارةً، ومجردة تارة اخرى، لفساد الأجواء الروحية. أي غياب ربط هذه الافكار بعقيدتها، وأستبدلت بها مقاييس النفعية. وصار ينظر الى الحكم الشرعي من حيث ما فيه من منفعة، لا من حيث انبثاقه عن عقيدتها. بل انها تنفر من حكم شرعي صريح اذا لم تكن النفعية ظاهرة فيه او حسب مطابقته للعقل. بالاضافة الى تسرب بعض المفاهيم المغلوطة من جواز تولّي الكفار أمورَ المسلمين، او امكانية تغير الأحكام بتغير الأزمان وغير ذلك من المفاهيم الخاطئة مما أدى الى فساد العرف العام. ولم يعد هناك أثر للعرف العام على مجتمعنا. بل ان الفردية أصبحت مطلقةً في حياته. وأصبحت اللامبالاة في حياة الناس فكرة أساسية فيهم، وزال من بينهم ما هو من أبرز أعرافهم كمسلمين، وأعني به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلا يقبل من أحد أن يأمر بمعروف او ينهى عن منكر. فتجد الكثير ممن يردّ على من يحاول القيام بهذا الأمر قائلين له: وما دخلك أنت؟ هذا ما نعنيه بفساد العرف العام.
وكقاعدة أساسية في نجاح أي تكتل من ناحية تكتلية في ايجاد نهضة او اصلاح، لا بد أن يكون هذا التكتل مبنياً على مبدأ معين، وأن يكون مسبوقاً بتفهّم صحيح لهذا المبدأ بفكرته وطريقته، وأن تكون الرابطة بين اعضاء هذا التكتل رابطة صحيحة تجمع بين اعضاء هذا التكتل، أي أن يكون الإنضمام والعضوية فيه بمقدار وعي هذا العضو على ثقافة هذا التكتل وإخلاصه لها. وأن يكون العضو – حتى يكون عضواً او مسؤولاً – مؤهلاً للإضطلاع بالمسؤولية والاستعداد للتضحية.
وبالنظر الى التكتلات التي قامت على أساس الجمعية، والتكتلات التي قامت على أساس التسمية الحزبية، نجد أن فشلها كان طبيعياً لعدم قيامها على مبدأ معين. ولم يسبق قيامها تفهّم صحيح لهذا المبدأ، بفكرته وطريقته، ولم يكن الجامع بين افرادها، أي الرابطة التي تربط بين افرادها، رابطة صحيحة.
زد على هذا فان إخفاقها كان محققاً ايضاً من ناحية افرادها. فان العضو فيها لم يكن ينظر اليه من ناحية صلاحيته لهذا العمل، أي من حيث ايمانه بالفكرة التي يقوم عليها التكتل، أو وعيه على تلك الفكرة، او اخلاصه لها واستعداده للتضحية في سبيلها. وإنما يُختار الفرد فيها على أساس مكانته في المجتمع وإمكانية تحقيق الفائدة المعجلة من وجوده عضوا فيها. فقد كان العضو يُختار على أساس انه وجيه في قومه، او غني بين جماعته، او محامٍ، او طبيب، او ذو مكانة ونفوذ، بغض النظر عن كونه صالحاً لهذه الكتلة التي يُختار لها أم غير صالح. ولذلك فانه كان يغلب على اعضاء هذه التكتلات التفكك، وعدم الانسجام. كما تغلب عليها الناحية الطبقية. فاعضاء الحزب او الجمعية يداخلهم تصور خفي بأنهم يمتازون عن باقي الشعب، لا بمالهم ووجاهتهم فحسب، بل بكونهم اعضاء في الجمعية او الحزب ايضاً. ولذلك لا يحصل بينهم وبين الشعب أي تفاعل او تقارب.
اذن كان اختيار الاعضاء على هذا الأساس، أي المكانة الاجتماعية، ضررا كبيرا على التكتل نفسه، وعلى المجتمع ايضاً. أما ضرره على الكتلة نفسها، جمعية كانت أم حزباً، فقد كان التفكك وعدم الانسجام فيما بينهم أمراً طبيعياً، وإمكانية الانتقال من حزب لآخر، او من جمعية لأخرى أمراً بديهياً، وكان بقاؤه في هذه الجمعية او تلك بمقدار ما يشبع غروره، او يحقق مآربه، او يزيد من مكانته. فقد رأيت في أحد المكاتب السياسية لبعض هذه التنظيمات إثني عشر حامل دكتوراه، ورئيس التكتل شبه أمّي. وبمجرد توقف الانتفاع فرّقتهم أيدي سبأ. وقال لي رئيس تنظيم آخر بالحرف الواحد: "إن رصيدنا اليوم مليون ونصف المليون ليرة، وأنا أعلم أن هؤلاء – ويعني أعضاء المكتب السياسي لكتلته – إنما جاؤوا للإغتنام. فأتمنى عليك لو أخذتم هذا المبلغ. أما أن يأخذه هؤلاء فهو والله جريمة".
هذا هو واقع التكتلات، وهذه خطورة اختيار الاعضاء على أساس المكانة الاجتماعية.
أما خطورته على المجتمع، فان المجتمع يعقد أمله دائماً على كل بارقة أمل تلوح في الأفق، ويرى أن أي تكتل في الأمة قد يؤدي الى إنقاذها او تحسين وضعها على الأقل. وحين يدرك المجتمع واقع هذه التكتلات، ويرى أنها إنما تركض وراء منافعها، وتلهث وراء زيادة مكاسبها ومكانتها، خصوصاً وهو يرى أنهم قبعوا في أبراجهم العاجية، ولا يتصلون بالناس الا حين تكون لهم حاجة، كالانتخابات مثلاً، او جمع التبرعات او غير ذلك، حين يدرك المجتمع ذلك فانه يكفر بالتكتلات جميعها، ولا يسمح لأي منها بدخوله، ولا يخلص لها. وهذا يشكل عقبة كؤوداً أمام أي تكتل صحيح يظهر في المجتمع. وبالفعل، فان هذه التكتلات بتصرفها هذا لم تستطع ان تدخل المجتمع ولا ان تتفاعل معه. بل لم يجرِ تقارب بينه وبينها، وبقيت في عزلتها. فأمست ضغثاً على إبّالة، أي حزمة فوق الحمْل. وبمعنى اصطلاحي آخر – صنماً على مزبلة -، و همّاً جديداً فوق داءٍ عضال.
ولهذا نستطيع ان نقول بعد دراسة معظم التكتلات والجمعيات التي قامت في العالم الاسلامي بأكمله ومعرفة الأسس التي قامت عليها، والظروف التي أوجدتها، والاوضاع التي لاءمت بين افرادها، وبعد التفكر في المفاهيم التي طرحتها، وبعض الافكار التي أوجدتها، والآثار التي تركتها، وبعد استقراء معظم هذه الحركات وتتبّعها من مولدها الى نشأتها وموتها، او تتبّع حياتها إن كانت ما زالت حية، وباستقراء كافة الاقاليم الإسلامية، ورؤية أنها ما زالت تعاني من الانحطاط والتخلف، وما زال الاستعمار يهيمن عليها جميعها هيمنة فكرية وثقافية واقتصادية وسياسية، ولم تبد تباشير أي نهضة او افكار تؤدي او يمكن ان تؤدي الى النهضة، بعد هذه الدراسة والتفكر والاستقراء نستطيع أن نجزم أنه لم ينشأ خلال القرن الفائت أي تكتل صحيح، يؤدي الى نهضة صحيحة، وأن جميع التكتلات والحركات التي حصلت قد أخفقت، والدليل على ذلك بقاء الأمة على حالها، إن لم نقل أنها تزداد سوءاً يوماً بعد يوم. وسبب ذلك هو أنها قامت على أساس مغلوط.
مع ان الأمة لا تنهض الا بالتكتل، فان الملاحظ ان العمل الفردي لا يجدي، ولا يمكن أن يؤدي الى اية نتيجة اطلاقاً. ولو أراد أحد ان ينهض بالأمة على أساس واضح فسيجد نفسه حتماً يعمل على ايجاد تكتل، ذلك أنه حين يدعو الناس افراداً او جماعات الى ما يحمل من دعوة، أي الى الأساس الذي يريد ان ينهض الأمة على أساسه، فقد يستجيب له فرد او افراد، فلا بد له من تثقيفهم بالثقافة التي أعدّها، او توضيح الهدف الذي يسعى اليه. ثم إن هؤلاء الافراد حين ينطلقون بما حفظوا، وما آمنوا به، يدعون الناس لفكرتهم وهدفهم، فانهم سيبقون حتماً على اتصال بداعيتهم الاول، يوجّههم بما يراه ويرسم لهم خطة العمل وأساليبه، ويجيبهم على تساؤلات الناس، او تساؤلاتهم هم واستفساراتهم عن بعض الأمور. وفي هذه الحالة سيجد هذا الانسان نفسه يقود كتلة معينة، شاء أم أبى، هذا مع افتراض الاخلاص عند هذا الانسان (وهذا هو الأصل). أما اذا افترضنا غير ذلك من ارتباط او عمالة، فان عمله الفردي لا يؤدي الى نتيجة، ولا يستجيب اليه أحد. وبالتالي فهو عمل فاشل. ولا يعوّل عليه، ولهذا نقول ان اية عملية تغيير في الأمة لا يمكن لفرد ان يقوم بها بمفرده، بل لا بد من تكتل يقوم على ذلك. فكيف اذا كانت عملية التغيير هذه هي النهوض بالأمة؟؟ إنه لا بد وأن يقوم بهذا الأمر تكتل. فما هو هذا التكتل الصحيح الذي يسبب نهضة الأمة؟؟؟ هذا ما نحتاج الى بيانه.