الحلقة السابعة عشرة من سلسلة ربط العبادات بالسلوك والعقيدة.
الحاجة الفطرية للناحية الروحية
حري بنا ان نختم بعد جولتنا في معاني الطهارة والصلاة بالحديث في هذه الحلقة الخاتمة لهذه السلسلة المباركة ،عن مبحث الناحية الروحية في الانسان، وهي حاجته الملحة لادراك الصلة بالله تعالى، في نفسه هو وفي الاشياء التي يتعامل معها في الكون والحياة والوجود، وهي من اقوى الدوافع في الانسان لاشباع جوعات غريزة التدين التي فطر الله تعالى النفوس عليها، اما الروح بمعنى انها سر الحياة، والباعث على الادراك في الاحياء، فهي امر خفي لن يستطيع العقل ادراكه او الاحاطة به، مهما حاول ومهما بذل من جهد وتطاول، لقوله تعالى :- (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (85 الاسراء). قال العلماء :- الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس و الحركة الإرادية، و لفظه يذكر و يؤنث، و ربما يتجوز به فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة، كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: «أومن كان ميتا فأحييناه»: الأنعام: 122 أي بالهداية إلى الإيمان و على هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره»: النحل: 2 أي بالوحي و قوله: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي، فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا، لأن به حياة النفوس الميتة، كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة. و كيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية و مدنية، و لم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان، و هو مبدأ الحياة، الذي يتفرع عليه الإحساس و الحركة الإرادية، كما في قوله: «يوم يقوم الروح و الملائكة صفا»: النبأ: 38، و قوله: «تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر»: القدر: 4، و لا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني الباعث على الحياة، و غير الملائكة. و هو و إن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي و التبليغ، كما يظهر من قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده» الآية فقد قال تعالى: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله»: البقرة: 97، فنسب تنزيل القرآن على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبريل ثم قال: «نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»: الشعراء: 195، و قال: «قل نزله روح القدس من ربك»: النحل: 102، فوضع الروح و هو غير الملائكة بوجه مكان جبريل و هو من الملائكة، فجبريل ينزل بالروح و الروح يحمل هذا القرآن المقروء و المتلو. وفي قوله تعالى: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 52، و يظهر أن المراد من وحي الروح في الآية، هو إنزال روح القدس إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنزاله إليه هو الوحي اي القرآن لكونه يحمله على ما تبين . و أما نسبة الوحي، و هو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى و هو من الموجودات العينية و الأعيان الخارجية، فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى، كما قال في عيسى بن مريم (عليهما السلام): «و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء: 171، فعد الروح كلمة دالة على المراد، فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة، و إنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس، بدليل قوله: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59، و قد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال: «قل الروح من أمر ربي» و ظاهر «من» أنها لتبيين الجنس، كما في نظائرها من الآيات «يلقي الروح من أمره»: غافر: 15، و «ينزل الملائكة بالروح من أمره» و«أوحينا إليك روحا من أمرنا»و «تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر» فالروح من اصل الأمر ورسوخه.
ثم عرف أمره في قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس: 84، فبين أولا أن أمره هو قوله للشيء: «كن» و هو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد، و الإيجاد هو وجود الشيء، لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى، و قيامه به فقوله فعله. و قد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله: «يوم يقوم الروح و الملائكة صفا»: النبأ: 38، و قوله: «تعرج الملائكة و الروح إليه» الآية: المعارج: 4.
و يظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك» «نزل به الروح الأمين على قلبك» قل نزله روح القدس» و قوله: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا»: مريم: 17.
و منه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى: «ثم سواه و نفخ فيه من روحه»: الم السجدة: 9، و قال: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي»: الحجر: 29 .
و منه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22، و يشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: «أومن كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122، فإن المذكور في الآية حياة جديدة و الحياة فرع الروح.
و منه ما نزل إلى الأنبياء (عليهم السلام) كما يدل عليه قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا» الآية: النحل: 2، و قوله: «و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس»: البقرة: 87 و قوله: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 52، إلى غير ذلك.
و من الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة و أن في النبات حياة، و الحياة متفرعة على الروح ظاهرا.
فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» و أن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، و أن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح و أنه من رسوخ الأمر بالمعنى الذي تقدم و أما قوله: «و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا» أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود و خواص و آثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.
وان الناحية الروحية وهي محاولة الانسان ادراك الصلة بالخالق المدبر جل وعلا اتية من خلال غريزة التدين المغروزة في النفس البشرية غرزا، وهي من امور الجبلة الخلقية التي فطر الله الناس عليها، فلذلك تجد الانسان يبحث عنها بفطرته ليشبعها ويحاول جاهدا ان يجد لذلك سبيلا.
والاسلام يوم اعطى بعقيدته للانسان فكرة كلية عن الكون والانسان والحياة وعلاقتها بما قبلها وما بعدها، انما عمد الى حل العقدة الكبرى لدى الانسان وعقله البشري المحدود، ليسير في هذه الحياة على هدى ونور مبين من رب العالمين، ويتضح لديه السبيل في التعامل بصفته هو مخلوق من مخلوقات الله تعالى، وبصفته مكرما و مفضلا عن كثير من الخلق، وجعل ما في الكون مسخرا له بامر الخالق جل وعلا الذي جعل الانسان سيد مخلوقات هذا الوجود، ان هو استقام على منهج الحق والهدى والنور، والا كان السفول والانحطاط سبيله والانتكاس مصيره. قال الله تعالى في سورة التين:- { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ }...بلى والله واني على ذلك من الشاهدين..
ولقد جعل الله تعالى لنا محطات لتقوية واشباع الناحية الروحية وتعزيزها في حياة الانسان منها شهر رمضان، وما شرع فيه من وجوب صيام وندب قيام، وليلة بالف شهر، وما يرافقه من اعمال بر واحسان وصدقة وزكاة نفوس واموال واطعام، و كذلك ما شرع لنا من عبادات يومية كالصلوات المكتوبة والنوافل وصلوات المناسبات كصلاة الجنازة وصلاة الحاجة والاستخارة والاستسقاء والخسوف والكسوف والنصر وسجود التلاوة وسجود الشكر وتحية المسجد وسنة الاحرام وسنة الطواف والاذكار والتسابيح والدعاء وصلاة الجمعة ، وما شرع لنا من حج واعتمار، ليجعل دوما حياتنا زاخرة بالناحية الروحية وادراك الصلة برب العالمين، لنذكره ونذكر مراده من الخلق والايجاد والتكوين، ولا نكون في لحظة من الغافلين، وتقبل الله مني ومنكم وكتبنا واياكم في عباده الذاكرين والصلاة والسلام على سيد وخاتم الانبياء والمرسلين واله وصحبه اجمعين ونختم بهذا سلسلة ربط العبادات بالسلوك والعقيدة املين ان نلتقي معكم في سلسلة جديدة نتناول فيها بعض الاذكار المسنونة والمندوب مداومتها في اليوم والليلة وفقنا الله واياكم لكل خير يريده وجنبنا واياكم كل مكروه وشر يكرهه لنا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2017-11-03, 12:45 am عدل 1 مرات