وخاصرة ارض الطف تقطر دما :
قراءة نقدية في قصة تجليات الخزاعي ل (سعد الجصاص)
.............................................. ........
الدكتوره ندى صائب العبد الله
مما لا شك فيه، فان محاولة القاص سعد محمود شبيب الجصاص قراءة ملحمة الطف قصصيا هي سابقة ادبية خالصة ، وقد تناولتها اقلام عشرات النقاد بالتقدير والتحليل ، ليس لكونه نصا حازعلى جائزة دولية بالقصة القصيرة ، بل لأن تحويل التأريخ الى قصة ادبية يعد من اصعب المعضلات التي تواجه الكاتب والتي لا يقتنع بجمالية سردها المتلقي بيسر ، لا سيما وأن القضية الحسينيه قد تم تناول الجانب المأساوي منها بصورة مباشرة تقتضيها ضرورة السرد كأبشع جريمة على مر العصور ، غير أن الجصاص قد عالج احداثها باسلوب الواقعية السحرية والتكثيف الصوري ، اي تسخير الملحمة والخيال واللاممكن في الوصول الى الممكن والوصول الى تناول هذه القضية ادبيا بعيدا عن كل مباشرة وتسجيليه، ونحسب انه قد وفق في ذلك كثيرا ، بدءا بالرسالة التي يوجهها القاص الى الشاعر الخزاعي، وختاما بنهايتها الغريبة..
والقصة كما نوهنا، تبتديء سطورها دون اية مقدمات برسالة يتلوها الشاعر دعبل الخزاعي الماكث في عمق التأريخ.. الساكن في بطون الزمن :
( شهرٌ يعود، وفي أجوائه كمد لا يطاق.. وبابه الأصم تتباعد مصراعاه لتنجلي الأسرار القاتمة والمآسي والطرقاتُ المثقلةُ بالأنين، والعابرين، والجالسين، وشفاهٌ نأت عن رسم البسمات على الوجوه..
شهر يعود.. و بلادك.. ما زال جلادوها في الظلام يعيثون، في كل قلب منهم حجاجٌ وأبو لهب، وامرأة تحمل الحطب، تتجمل بحبل من مسد.... وجرحنا ظل ينزف بعذابنا، وآمالنا اتشحت بخيبات آمالنا، والأفق طواه شفقٌ من دمائنا..))
اي ان القاص ها هنا يود لو تم تغيير مسار التاريخ كله منذ البداية ، فلم يسفك دم الحسين ولم يستمر النزف الأحمر حتى يومنا هذا بحصاد دم مجنون لا يعرف الهواده..
وحين يصل الخزاعي الى القاص ويلتقيان عند احد وقفات التأريخ ، يدور بينه والكاتب حوار مقتضب ينتهي بهذه الكلمات ..
(( سألني (وهو يحاول إخفاء دموعه بعناء): هب أني وافقتك فيما ابتغيت، فهلا أخبرتني كيف نسلك طرق التأريخ، ذلك البحر العميق في قراره، اللا متناهي في سعته؟
ـ ذاك أمر هين، ففي عاشوراء يتصاغر التأريخ بأسره خجلا ليضمحلّ وتتقارب حوادثه، وليس من ركب البحر كمن عبّر السواقي !!))
يلاحظ ها هنا ان الكاتب قد سخر السرد الأنوي في القصة، اي المتحدث الشاهد، غير أن طريقة تناوله للاحداث وترتيبها وتزاحمها واتقادها والأوصاف التي تتتابع فيها تجعلك تنسى انه الراوي حيث يصف ابحاره عبر التأريخ الى مكمن الخطيئة الأولى والثمرة الهجينة بقوله : (كانت رحلة غريبة، تلفعنا فيها بحمر الثياب لنتسلل بين سطور التأريخ المتضمخة بالدماء.. فلا تستدل علينا العيون..!! )
وقد ذكر كثير من النقاد ومنهم الأستاذ الدكتور طاهر الأسدي أن هذه الومضة هي ابلغ وصف لتأريخ دام اجرامي مخز ، واكاد اقول أن تحديد الكاتب لاحداث هذه القصة بصفحتين لا غير قد حجم من امكانيته في توظيف الومضات لتكثيف الاحداث لتزداد جمالية النص وتتكامل دون حاجة الى اختصار.
وعودة الى احداث القصة ، فلما كان ادم قد التهم الثمرة المحرمة، وهبطا الى الارض التي خالط ترابها دم هابيل على يد اخيه ، واستوت السفينة على الجودي ولم ينج الا نوح عقب الطوفان، ومادار من حوادث مهولة بين عهد الميلاد وواقعة الطف تناولها الكاتب بايجاز بارع يحسد عليه، لذا فسرعان ما وجد الكاتب ودعبل الخزاعي نفسيهما عند قصر الامارة في الكوفة ، في محاولة منهما لمنع جريمة حذف مسلم ابن عقيل منه.. لكن الكاتب سرعان ما يصف المأساة بقوله :
(قصر الإمارة بدا رغم سعته موحشا ضيقا كقبر منفرد، تحيط به شجيرات متيبسة تخالها نزعت أوراقها وخبأتها في اغصانها ليتيسّر امر فرارها... قطعنا الممر الطويل المفضي إلى المجلس، زواياه مفعمة برائحة الموت، وابن زياد يتكئ في حجرة فخمة على عرشه كالجبابرة، رمانا بنظرة ثاقبة لاحت كشرارة من عينين لا يروقهما منظر الخير قط، .. أومأ بإبهامه نحو الأعلى، صكّت أسماعنا إرتطامة مدوية بالأرض، ابتسامة خبيثة منه فسرت كل شئ :لقد تهشّمت عظام مسلم، وتهشمت آمالنا كصخرة هشة جرفها السيل إلى هوة واد سحيق.) !!
هذا الوصف من الكاتب يحاول فيه جاهدا ان يبتعد عن الطريقة التقليديه في تناول الحدث، وهو وان اتى دون ابحار في دوافع ابن زياد بارتكاب الفعل، الا ان سير الاحداث يبين بوضوح ان رائحة الخيانة كانت تفوح وتتلاقح مع ريح الطمع لتصنع مالا يقدم عليه احد عادة ، ولينبلج عنها تأريخ مروع بكل معنى الكلمة.. حين تتجلى خيانة وعاظ السلاطين وضوح الشمس في البيداء .. ويتضح تواني اهل الكوفه.. ويلوح في الافق جيش الضلال .. ليكون الحسين (ع) في مواجهة عشرات الالوف ممن لا يكاد يضم قلب احدهم ذرة من رحمة.
ثم يصف الواقعة ملزما برواية الاحداث كما وقعت وقد نجا بصعوبة تامة من السردية التسجيليه عبر الاقتضاب والايجاز دون التفاصيل ، في محاولة مضنية ومتعبه للخلاص من تلك الأدواء التي تنتاب القصة القصيرة حين تتناول حدثا تأريخيا.. وان كنا نأخذ عليه ذلك الايجاز في بعض التفاصيا، لكن هذا السرد يعالج المأخذ حين ينتهي به المقام الى نهاية المعركة وقد اخفق والشاعر في ايقاف الفاجعة فيذكر ما نصه :
(جلس شمر على صدره الكريم، حتى إذا ما طعنه اثنتي عشرة طعنة، ارتجت الأرض وكسفت السماء وانكفأ التاريخ على وجهه، لنتدحرج بين سطوره لا نلوي على شيء وعدنا محطمين إلى حيث انطلقنا، سكنت الأصوات جميعا ولم يبقَ إلا صوت واحد يأتيك من كل الجهات:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا وقد مات عطشانا بشط فرات
إذن للطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوجنات )
ثم يردف الكاتب ؛
(( من تحت ركام الكلمات وتلال الحروف خرجنا، نهض دعبل وتفحص لوحه المغرورق بالدمع والتراب، ثم عزم على المضي نحو حتفه بصمت مطلق.. لم تبدر منه إجابة، والخشبة التي كان يحملها على ظهره انقلبت لتحمله مصلوبا، ولاح الجواب لامعا عليها كنجم عملاق في ساعة السّحر..
خروج إمام لا محالة خارج يقومُ على اسم الله والبركات ))
ان الاستاذ الجصاص يضع الحل بيد مخلص البشرية من البراثن والادران في اشارة ذكية الى عدم جدوى انتظار هداية المتخلفين والسفاحين من المتشدقين بالدين ، فما كانت رسالتهم في الحياة سوى الدمار والسير على نهج ال امية وان تشدقوا بحب آل البيت زورا، وهو لا يدعو الى الاستكانة والتسليم لكنه يسبر اغوار نفوس الحكام واتباعهم فلم يجدهم سوى كافرين فاسقين .
ان قصة (تجليات على اعتاب لوحة الخزاعي) بفكرتها المتفردة وطريقة سردها وتنقلاتها البارعه وومضاتها الساحرة واوصافها بينت بما لا يقبل الجدل تلك القدرات التي يتحلى بها ذلك الاديب المبدع الذي تناول جميع ضروب الادب فلم يخفق في اي منها ، حتى اتت هذه الملحمة لتأخذ مكانتها بين اروع ما كتب من ملاحم عن ثورة الطف العظيمة ولتضاف الى خوالد الجواهري والحلي والخزاعي .. كما بينت ذلك لجنة منحه الجائزة الدولية الأولى عنها.
قراءة نقدية في قصة تجليات الخزاعي ل (سعد الجصاص)
.............................................. ........
الدكتوره ندى صائب العبد الله
مما لا شك فيه، فان محاولة القاص سعد محمود شبيب الجصاص قراءة ملحمة الطف قصصيا هي سابقة ادبية خالصة ، وقد تناولتها اقلام عشرات النقاد بالتقدير والتحليل ، ليس لكونه نصا حازعلى جائزة دولية بالقصة القصيرة ، بل لأن تحويل التأريخ الى قصة ادبية يعد من اصعب المعضلات التي تواجه الكاتب والتي لا يقتنع بجمالية سردها المتلقي بيسر ، لا سيما وأن القضية الحسينيه قد تم تناول الجانب المأساوي منها بصورة مباشرة تقتضيها ضرورة السرد كأبشع جريمة على مر العصور ، غير أن الجصاص قد عالج احداثها باسلوب الواقعية السحرية والتكثيف الصوري ، اي تسخير الملحمة والخيال واللاممكن في الوصول الى الممكن والوصول الى تناول هذه القضية ادبيا بعيدا عن كل مباشرة وتسجيليه، ونحسب انه قد وفق في ذلك كثيرا ، بدءا بالرسالة التي يوجهها القاص الى الشاعر الخزاعي، وختاما بنهايتها الغريبة..
والقصة كما نوهنا، تبتديء سطورها دون اية مقدمات برسالة يتلوها الشاعر دعبل الخزاعي الماكث في عمق التأريخ.. الساكن في بطون الزمن :
( شهرٌ يعود، وفي أجوائه كمد لا يطاق.. وبابه الأصم تتباعد مصراعاه لتنجلي الأسرار القاتمة والمآسي والطرقاتُ المثقلةُ بالأنين، والعابرين، والجالسين، وشفاهٌ نأت عن رسم البسمات على الوجوه..
شهر يعود.. و بلادك.. ما زال جلادوها في الظلام يعيثون، في كل قلب منهم حجاجٌ وأبو لهب، وامرأة تحمل الحطب، تتجمل بحبل من مسد.... وجرحنا ظل ينزف بعذابنا، وآمالنا اتشحت بخيبات آمالنا، والأفق طواه شفقٌ من دمائنا..))
اي ان القاص ها هنا يود لو تم تغيير مسار التاريخ كله منذ البداية ، فلم يسفك دم الحسين ولم يستمر النزف الأحمر حتى يومنا هذا بحصاد دم مجنون لا يعرف الهواده..
وحين يصل الخزاعي الى القاص ويلتقيان عند احد وقفات التأريخ ، يدور بينه والكاتب حوار مقتضب ينتهي بهذه الكلمات ..
(( سألني (وهو يحاول إخفاء دموعه بعناء): هب أني وافقتك فيما ابتغيت، فهلا أخبرتني كيف نسلك طرق التأريخ، ذلك البحر العميق في قراره، اللا متناهي في سعته؟
ـ ذاك أمر هين، ففي عاشوراء يتصاغر التأريخ بأسره خجلا ليضمحلّ وتتقارب حوادثه، وليس من ركب البحر كمن عبّر السواقي !!))
يلاحظ ها هنا ان الكاتب قد سخر السرد الأنوي في القصة، اي المتحدث الشاهد، غير أن طريقة تناوله للاحداث وترتيبها وتزاحمها واتقادها والأوصاف التي تتتابع فيها تجعلك تنسى انه الراوي حيث يصف ابحاره عبر التأريخ الى مكمن الخطيئة الأولى والثمرة الهجينة بقوله : (كانت رحلة غريبة، تلفعنا فيها بحمر الثياب لنتسلل بين سطور التأريخ المتضمخة بالدماء.. فلا تستدل علينا العيون..!! )
وقد ذكر كثير من النقاد ومنهم الأستاذ الدكتور طاهر الأسدي أن هذه الومضة هي ابلغ وصف لتأريخ دام اجرامي مخز ، واكاد اقول أن تحديد الكاتب لاحداث هذه القصة بصفحتين لا غير قد حجم من امكانيته في توظيف الومضات لتكثيف الاحداث لتزداد جمالية النص وتتكامل دون حاجة الى اختصار.
وعودة الى احداث القصة ، فلما كان ادم قد التهم الثمرة المحرمة، وهبطا الى الارض التي خالط ترابها دم هابيل على يد اخيه ، واستوت السفينة على الجودي ولم ينج الا نوح عقب الطوفان، ومادار من حوادث مهولة بين عهد الميلاد وواقعة الطف تناولها الكاتب بايجاز بارع يحسد عليه، لذا فسرعان ما وجد الكاتب ودعبل الخزاعي نفسيهما عند قصر الامارة في الكوفة ، في محاولة منهما لمنع جريمة حذف مسلم ابن عقيل منه.. لكن الكاتب سرعان ما يصف المأساة بقوله :
(قصر الإمارة بدا رغم سعته موحشا ضيقا كقبر منفرد، تحيط به شجيرات متيبسة تخالها نزعت أوراقها وخبأتها في اغصانها ليتيسّر امر فرارها... قطعنا الممر الطويل المفضي إلى المجلس، زواياه مفعمة برائحة الموت، وابن زياد يتكئ في حجرة فخمة على عرشه كالجبابرة، رمانا بنظرة ثاقبة لاحت كشرارة من عينين لا يروقهما منظر الخير قط، .. أومأ بإبهامه نحو الأعلى، صكّت أسماعنا إرتطامة مدوية بالأرض، ابتسامة خبيثة منه فسرت كل شئ :لقد تهشّمت عظام مسلم، وتهشمت آمالنا كصخرة هشة جرفها السيل إلى هوة واد سحيق.) !!
هذا الوصف من الكاتب يحاول فيه جاهدا ان يبتعد عن الطريقة التقليديه في تناول الحدث، وهو وان اتى دون ابحار في دوافع ابن زياد بارتكاب الفعل، الا ان سير الاحداث يبين بوضوح ان رائحة الخيانة كانت تفوح وتتلاقح مع ريح الطمع لتصنع مالا يقدم عليه احد عادة ، ولينبلج عنها تأريخ مروع بكل معنى الكلمة.. حين تتجلى خيانة وعاظ السلاطين وضوح الشمس في البيداء .. ويتضح تواني اهل الكوفه.. ويلوح في الافق جيش الضلال .. ليكون الحسين (ع) في مواجهة عشرات الالوف ممن لا يكاد يضم قلب احدهم ذرة من رحمة.
ثم يصف الواقعة ملزما برواية الاحداث كما وقعت وقد نجا بصعوبة تامة من السردية التسجيليه عبر الاقتضاب والايجاز دون التفاصيل ، في محاولة مضنية ومتعبه للخلاص من تلك الأدواء التي تنتاب القصة القصيرة حين تتناول حدثا تأريخيا.. وان كنا نأخذ عليه ذلك الايجاز في بعض التفاصيا، لكن هذا السرد يعالج المأخذ حين ينتهي به المقام الى نهاية المعركة وقد اخفق والشاعر في ايقاف الفاجعة فيذكر ما نصه :
(جلس شمر على صدره الكريم، حتى إذا ما طعنه اثنتي عشرة طعنة، ارتجت الأرض وكسفت السماء وانكفأ التاريخ على وجهه، لنتدحرج بين سطوره لا نلوي على شيء وعدنا محطمين إلى حيث انطلقنا، سكنت الأصوات جميعا ولم يبقَ إلا صوت واحد يأتيك من كل الجهات:
أفاطم لو خلت الحسين مجدلا وقد مات عطشانا بشط فرات
إذن للطمت الخد فاطم عنده وأجريت دمع العين في الوجنات )
ثم يردف الكاتب ؛
(( من تحت ركام الكلمات وتلال الحروف خرجنا، نهض دعبل وتفحص لوحه المغرورق بالدمع والتراب، ثم عزم على المضي نحو حتفه بصمت مطلق.. لم تبدر منه إجابة، والخشبة التي كان يحملها على ظهره انقلبت لتحمله مصلوبا، ولاح الجواب لامعا عليها كنجم عملاق في ساعة السّحر..
خروج إمام لا محالة خارج يقومُ على اسم الله والبركات ))
ان الاستاذ الجصاص يضع الحل بيد مخلص البشرية من البراثن والادران في اشارة ذكية الى عدم جدوى انتظار هداية المتخلفين والسفاحين من المتشدقين بالدين ، فما كانت رسالتهم في الحياة سوى الدمار والسير على نهج ال امية وان تشدقوا بحب آل البيت زورا، وهو لا يدعو الى الاستكانة والتسليم لكنه يسبر اغوار نفوس الحكام واتباعهم فلم يجدهم سوى كافرين فاسقين .
ان قصة (تجليات على اعتاب لوحة الخزاعي) بفكرتها المتفردة وطريقة سردها وتنقلاتها البارعه وومضاتها الساحرة واوصافها بينت بما لا يقبل الجدل تلك القدرات التي يتحلى بها ذلك الاديب المبدع الذي تناول جميع ضروب الادب فلم يخفق في اي منها ، حتى اتت هذه الملحمة لتأخذ مكانتها بين اروع ما كتب من ملاحم عن ثورة الطف العظيمة ولتضاف الى خوالد الجواهري والحلي والخزاعي .. كما بينت ذلك لجنة منحه الجائزة الدولية الأولى عنها.