النصوص خالية الوفاض
.
قراءة نقدية في نص مديح لإمام الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا الصلاة والسلام
.
ليس كل الشعراء مؤهلين لكتابة قصائد مديح الرسول صلى الله عليه وسلَّم.
.
من لم يقرأ سيرته من الشعراء، ولو لمرة واحدة على الأقل ، فهو ليس مؤهلا لمديحه عليه الصلاة والسلام.
من لم ينبهر عقله ويخشع قلبه إعجابا بحكمته - عليه الصلاة والسلام - وبما وهبه الله من صفوة مكارم الأخلاق والشمائل، التي اختاره تعالى لأجلها سيدا للبشر قاطبة، منذ بدء الخليقة وإلى آخر منتهاها. فليس مؤهلا لمديحه.
.
أيها الشعراء !
لا تشرعوا بكتابة قصائد مديح النبي الأعظم، ما لم تملأ الأفكار الثمينة رؤوسكم، حتى تسدّ عليكم منافذ الكلام ومداخله في مركز اللغة في الدماغ . وما لم يفض بكم شعور الحب والتهيُّب، حتى تضطربوا حيرة، أمام كل كلمة تخطر في بالكم، وتتساءلوا بجديَة :هل يصلح قولها أو لا يصلح.
.
كثير من نصوص الشعر مختلفة الأغراض تكون خالية الوِفاض و تمرّ أمامنا يوميا، فنمرّرها مكرهين، لأن تيارها أصبح أضخم من أن نتمكن من الوقوف في وجهه .
لكن عندما يكون الغرض المعلَن لتلك النصوص هو مديح الرسول الأعظم، فإنه يعسر ويصعب تمريرها . وتعلق كالحسكة (عظمة السمكة غير المرئية ) في الحلق .
.
بين أيدينا نص بعنوان (قلَادَةُ النُّجُومِ الزُّهر) أقدِمه أنموذجا ، بهدف لفت النظر إلى أشكال الثغرات التي يمكن أن تحفل بها مثل تلك النصوص، لكي ينتبه إليها ويتداركها من يرغب بكتابة شعر المديح للرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام.
يقول الشاعر في مطلع النص
.
أَنَّـى أُحِيلُ سَنَاهُ حِبرَاً أَسوَدَا!
وأَخُطُّ في إِنسَانِ عَينِي إِثمِدَا؟
.
إحالة السنا إلى حبر أسود تعني الكتابة باستخدام الحبر لوصف السنا . ولو قال الشاعر : (انّى أحيل سناه حبرا) فقط ، ودون وصف الحبر بالسواد لأجزأه. لكن السواد من صفات الحبر . والمعنى: أن الحبر بالمعنى المجازي يبقى عاتما بالمقارنة مع سناه عليه الصلاة والسلام . فأنّى يكون له أن يستوعب هذا السنا ويعبّر عنه . والمعنى جميل.
.
أما العجز فقد وجدتُ فيه أحد عيوب الصورة الشعرية المتمثلة بعدم وجود تناسب بين خصائص عناصر الصورة الشعرية ( إنسان العين والخطّ بالإثمد ) .
فالإثمد: مادة ( مسحوق حجري ) تستخدم لكحل الحفون. أما إنسان العين: فهو الحدقة أوالفتحة الموجودة في وسط قرص القزحية الملونة في العين. ولا يجب للكحل أن يطالها .وإنما الكحل يكون لحوافّ الأجفان فقط . فكيف يكحل الشاعر إنسان عينه ؟ وكيف يخطّ الشاعر فيه الإثمد ؟؟ ومن الواضح أن الشاعر لا يعرف ما هو إنسان العين ، ويظنه الجفن.
ثم يقول
هَل أَقطِفُ الفُلَّ المُضَمَّخَ بالشَّذَى
والزَّهرَ والوردَ المُكَلَّلَ بالنَّدَى؟
مجرد وصف إنشائي منظوم اتكأ على تكرار المرادفات التي تحمل الدلالات المتشابهة ( فل، شذا بالألف الممدودة . زهر ، ورد، ندى ) . وأين الشاعر في هذا الاستسهال لنظم الكلمات ذات المعاني السطحية المرهَقة من كثرة استخدامها، من المعاني العميقة التي كان ينبغي عليه استحضارها عند ذكره عليه الصلاة والسلام.
.
أَو أَمزُجَ العُودَ الصَّرِيفَ بِعِطـرِهِ
وأَشُمُّهُ عَرفَاً تَعَبَّقَ بالهُدى؟
.
لماذا يريد الشاعر مزج شيء آخر ( العود) مع عطره عليه الصلاة والسلام؟ ألا يكفيه عطره دون العود ؟
ثم إن الهدى هو الشريعة أو السبيل المتًّبع. وإذا انتبهنا إلى خصائص المعنى فإنه لا يناسبه أن يكون مادة للشمّ. والأمر نفسه من عدم حصول تناسب وتجانس بين خصائص عناصر الصورة البيانية نجده في قوله:
أَمِنَ النُّجُومِ الزُّهرِ أَنظُمُ بُردَةً
أسمُو بِـهِ وَسطَ القِلَادَةِ فَرقَدَا؟
.
إذ أن البُردة نسيج يُنسَج من الخيوط ، ولا يُتَحصًّل عليها بعملية النظم، وإنما بعملية النسج . بينما النجوم الزهر تشبه الدرر ويناسبها النظم، وليست قابلة للنسج، كي تتحول إلى بُردة.
.
فالخلل الفني في بناء الصورة الشعرية في الصدر واضح . لكن وجود لفظة ( البردة ) مع مجموعة الألفاظ التي تنتمي إلى الحقل المعجمي والدلالي نفسه في البيت ( النجوم الزهر ، أنظم ، البردة ، القلادة ، الفرقد ) نكاد نفهم أن الشاعر لا يعرف ما هو الفرق بين البردة والقلادة .
ثم يقول:
.
والقَزَّ أَنسُجُ مِنهُ أَرقَى سُندُسٍ
وَأَخُصُّ مَحمُودَ المقامِ مُحَمَّدَا ؟
.
ليس القَزُّ باللباس الذي يُمَنُّ به على الرجال الأفاضل . إنما القزُّ لباس النساء . ومُحرَّم على الرجال في الشريعة الإسلامية .
.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: ((أَرْسَلَ النَّبيُّ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إلى عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عنْه- بحُلَّةِ حَرِيرٍ -أوْ سِيَرَاءَ- فَرَآهَا عليه. فَقالَ: «إنِّي لَمْ أُرْسِلْ بهَا إلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا؛ إنَّما يَلْبَسُهَا مَن لا خَلَاقَ له، إنَّما بَعَثْتُ إلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بهَا». يَعْنِي تَبِيعَهَا))، [صحيح البخاري: 2104] .
.
من الواضح أن الشاعر لا يعرف هذه المعلومة ولم يفكِّر فيها . وإلّا لما نسج الحرير ليخصَ به الرسول الذي نهى الرجال عن لبس الحرير.
فضلا عن أن لهجة التفاخر بالهديّة أيّا كان نوعها، وأيا كان مستوى رقيّها لا يليق بالمقام العظيم للمهدى إليه- عليه الصلاة والسلام - وإنما الأليق أن يكون الاعتذار عن التقصير هو الواضح والبارز في لهجة الشاعر، إذ لا يتناسب الفخر بالنفس في مقام مديحه على الإطلاق.
يقول:
.
وَعَنِ الحبيبِ المُصطَفَى أَكسُوكَهَا
كَعبَاً بِمَا أَطرَى فُؤَادُكَ أَحمَدَا
.
يريد الشاعر أن ينوب عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إهداء هذه البردة لكعب بن زهير . فأين هو المديح الذي أصاب الممدوح العظيم؟
.
لماذا يهدي الشاعر البردة التي سينظمها إلى كعب نيابة عن الرسول الأعظم ؟ وهل كان كعب- رضي الله عنه- بادئا بالفضل إذ أهداه الرسول صلى الله عليه سلَم بردته ؟ أم كان إهداء الرسول بردته له مجرد إحسان من الرسول الأعظم ؟
.
فأَنَا السَّحُولِيُّ اليَمَانِيُّ الَّذِي
أَحذَى بِنَسجِ البُردَةِ الأُولَى يَدَا
.
واليوم أَنسُجُ حُلَّةً دَاليَّةً
وأُرَصِّعُ النَّصَّ التَّلِيدَ زُمَرَّدَا
.
مَهلَاً فَنَجلُ زُهَير أَشرَقَ حَرفُهُ
بِالبَدرِ والشَّمسِ المُضِيئَةِ سَرمَدَا
.
مُتَوَشِّحَاً سَيفَ المَدَائِحِ سَلَّهُ
بِضِيَائِهِ حِينَ انتَضَاهُ مُهَنَّدَا
.
هذه أربعة أبيات يمدح فيها الشاعر نفسه ويفخر بشعره أيضا ( صار العدد حتى الآن ستة أبيات للتفاخر الذاتي ) . فهل يجوز هذا في مقام مديح النبي وبين يديه ؟
طبعا لا يجوز ؛ لأن غرض القصيدة هو مدح النبي عليه الصلاة والسلام وليس الفخر والمدح الذاتي . والأليق هو التواضع والاعتذار عن التقصير . والشاعر ينتبه جزئيا إلى هذا الأمر ويقول بعد ذلك
.
عُذرَاً رَسُولَ الله إِنَّ قَرِيحَتِي
مَهمَا تَجُودُ تَظَلُّ أنتَ الأَجوَدَا
.
ولكن هذا الاعتذار ليس اعتذارا حقيقيا؛ فضِمن الاعتذار نفسه يسمي الشاعر عمل قريحته في إنتاج الشعر بالجود ( إن قريحتي مهما تجود ) فيبدو قوله للرسول الأعظم ( تظلُّ أنت الأجودا ) إلى جانب تلك العبارة وكأنه مجرد مجاملة . فضلا عن أن الإقرار بأنه عليه الصلاة والسلام يظلُ هو الأجود ، ليس في مكانه لأنه بديهي، ومفروغ منه ولا يحتاج إلى النطق به . ومجرد النطق به يعطيه أهمية، وكأنه يستحق الذِكر.
.
إِنيَّ سَأَنثُرُ فِيكَ دُرَّاً خَالصَاً
وَأُدَبِّجُ الفَحوَى بِحُسنِكَ عَسجَدَا
.
سَأغُوصُ في بَحرِي وأَسبُرُ غَورَهُ
أَصطَادُ لُؤلُؤَهُ لِأُكرِمَ مَرثَدَا
.
المرثَد : هو الكريم . والشاعر يعد بإكرام الكريم، من خلال نثر الدر في الحديث عنه . واصطياد اللؤلؤ بعد أن يغوص في بحره أيضا .
وكل هذا الدرّ، والعسجد، واللؤلؤ، فضلا عما جاء في المطلع من نظم النجوم الزهر في القلادة، هو تكرار في تكرار، لصورة شعرية مستهلكة جدا، وتأتي كل تكرارتها في سياق الوعد والتفاخر بالشعر .
.
أَبنِي جِنانَ الرُّوحِ من يَاقُوتِهَا
وَأُقِيمُ في قَلبِ القَصِيدَةِ مَسجِدَاً
.
أُعلِي مَآذِنَ قُدوَتِي فِي رُكنِهِ
وَيَفُوحُ بِالآفَاقِ من فَمِهَا الصَّدَى
.
محاولة للخروج عن إطار الصورة الشعرية السابقة التي استغرقت قرابة نصف عدد أبيات القصيدة. وبناء المسجد في القصيدة صورة جميلة مع بناء المآذن في ركن هذا المسجد ، وقد جعل الصدى (صدى الآذان ) يفوح من فم المآذن. فكأنها ورود ذات روائح عطرة تفوح. وكأن صوت الأذان هو العطر الذي يمكن شمُّه في الآفاق . على أن لفظة ( قدوتي ) جاءت حشوا لتسدّ مكانها من التفعيلة . وليس المعنى محتاجا إليها بأية حال.
.
كي أُطفِئَ الظَّمَأَ الشَّدِيدَ بِذِكرِهِ
وَأَبُلَّ في حَوضِ الوُرُودِ بِهِ الصَّدَى
.
قوله ( كي أطفئ الظمأ الشديد بذكره ) إنما يأتي تعليلا لما سبقه (أي :سبب إعلاء المآذن). ولكن (بلّ الصدى ) في العجز تكرار لإطفاء الظمأ الشديد في الصدر .
.
أَي...أَنتَ عِنوَانُ السَّمَاحَةِ والتُّقَى
دَفَّقتَ بالخُلُقِ العَظِيمِ مَوَارِدَا
ز
القافية في ( مواردا ) مؤسسة خلافا لبقية قوافي القصيدة، وهذا خلل عروضي. والخلل الآخر معنوي، ويتعلق بقوله (دَفَّقتَ بالخُلُقِ العَظِيمِ مَوَارِدَا) إذ لا يوصف تأثير الأخلاق العظيمة (بتدفيق الموارد ) لعدم وجود دلالة واضحة لمعنى التركيب اللغوي ( دفَقتَ مواردا ) .
.
أَروَيتَ زَرعَ المَكرُمَاتِ بِفَيضِهَا
أَنشَأتَ جِيلَاً هَامَ فِيكَ مُوَحِّدَا
.
وَعلى خُطَاك تَرَسَّخَت أَقدَامُهُ
أَضحَى عَلَى مَرِّ العُصُورِ مُجَدِّدَا
.
تِبرُ الثَّرى في غَيث دَعوتِهِ هَمَى
وَجَنَى الوَرَى بِيَدَيهِ عَيشَاً أَرغَدَا
.
أَحيَيتَ - أحمدُ - بالفَضَائِلِ أمَّةً
وَرَفَعتَ أَبراَجَ المَبَادِئِ سُؤددَا
أتساءل عن لفظة (جيلا) ولماذا هو جيل واحد فقط، وليست أجيالا؟
والأبيات نظم رتيب لا يخلق أية دهشة شعرية ، ولا يثير أية مشاعر وجدانية شاعرية تستحق الاهتمام بها. وقد امتلأت الأبيات بمفردات لا فائدة منها، سوى الحشو مثل (بيديه ، أحمد، أبراج المبادئ ) ويمكن الاستغناء عنها دون أي ضرر .
.
ولَبِستَ بَيضَاءَ السَّحَابِ عِمَامَةً
وَوَطِئتَ في قَدَمَيكَ رِجزَاً أَسوَدَا
.
وَغَلَبتَ قُرصَ الشَّمسِ في كَبِدِ الضُّحى
وبَلَغتَ في جَمِّ التَّوَاضُعِ مَقصَدَا
.
فَأَضَأَتَ وجَهَ الكونِ وَانقَشَعَ الدُّجَى
.
الصور الشعرية مكررة . وخالية من الابتكار ومن أية إضافة أو ميزة تزيد عن مستوى النظم الرتيب للكلمات .
.
وَتَلَألَأَ الجِيلُ الَّذِي فِيكَ اهتَدَى
.
وَتَهَلَّلَ التَّارِيخُ وَانشَرَحَ الأُلَى
وَالعَالَمُ الملهوفُ أَعلَنَ مَولِدَا
.
الألى: اسم موصول ويجب أن تأتي بعده جملة صلة الوصل ـ فأينها ؟
.
أَزهَقتَ فَوقَ الأَرضِ كُلَّ جَهَالةٍ
وَالظُّلم في جُنحِ الظَّلَامُ تَبَدَّدَا
.
أَعلَامُنَا خَفَقَت على هَامِ الدُّنَا
والعِزُّ فِي يَدِهِ سَقَى الذُّلَّ الرَّدَى
.
جمع دنيا : (دُنى) بالألف المقصورة . وليس الممدودة .
وليته - عليه الصلاة والسلام -كان قد أزهق حقا فوق الأرض كل جهالة ، إذن لانمحى الكفر من فوق الأرض . ولكن الجهالة بقيت و الكفر بقي في أصقاع الأرض ولم يزهقا .
.
لَكِنَّ طَودَ المَجدِ نَكَّسَ رَأسَهُ
في أُمَّتَينا - اليوم - قَزمُ بَنِي العِدَى
.
فَجَثَت عَلَى طُهرِ الثَّرَى أَورَامُهُ
غَرَزَت عَلَى مَسرَاكَ _طَهَ _ غَرقَدَا
.
ليس (طه) من أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم -وهذا خطأ شائع ينبغي الانتباه إليه . إنما هو اسم سورة من سور القرآن الكريم فقط. .
.
فَمَتَى سَيبزُغُ فَجرُنا بِكَ مَرَّةً
-أُخرَى - ويُشرِقُ نَصرُنا الآتِي غَدَا
.
نص من النظم البارد المكتوب دون انفعال شعري حقيقي، لم يقترب من الشعر في بنائه اللغوي وفي خياله وتصويره وإدهاشه وإمتاعه. ولم يعطِ مقام الرسول الأعظم حقه من محاولة المديح.
.
ثناء حاج صالح
.
قراءة نقدية في نص مديح لإمام الأنبياء والمرسلين عليهم جميعا الصلاة والسلام
.
ليس كل الشعراء مؤهلين لكتابة قصائد مديح الرسول صلى الله عليه وسلَّم.
.
من لم يقرأ سيرته من الشعراء، ولو لمرة واحدة على الأقل ، فهو ليس مؤهلا لمديحه عليه الصلاة والسلام.
من لم ينبهر عقله ويخشع قلبه إعجابا بحكمته - عليه الصلاة والسلام - وبما وهبه الله من صفوة مكارم الأخلاق والشمائل، التي اختاره تعالى لأجلها سيدا للبشر قاطبة، منذ بدء الخليقة وإلى آخر منتهاها. فليس مؤهلا لمديحه.
.
أيها الشعراء !
لا تشرعوا بكتابة قصائد مديح النبي الأعظم، ما لم تملأ الأفكار الثمينة رؤوسكم، حتى تسدّ عليكم منافذ الكلام ومداخله في مركز اللغة في الدماغ . وما لم يفض بكم شعور الحب والتهيُّب، حتى تضطربوا حيرة، أمام كل كلمة تخطر في بالكم، وتتساءلوا بجديَة :هل يصلح قولها أو لا يصلح.
.
كثير من نصوص الشعر مختلفة الأغراض تكون خالية الوِفاض و تمرّ أمامنا يوميا، فنمرّرها مكرهين، لأن تيارها أصبح أضخم من أن نتمكن من الوقوف في وجهه .
لكن عندما يكون الغرض المعلَن لتلك النصوص هو مديح الرسول الأعظم، فإنه يعسر ويصعب تمريرها . وتعلق كالحسكة (عظمة السمكة غير المرئية ) في الحلق .
.
بين أيدينا نص بعنوان (قلَادَةُ النُّجُومِ الزُّهر) أقدِمه أنموذجا ، بهدف لفت النظر إلى أشكال الثغرات التي يمكن أن تحفل بها مثل تلك النصوص، لكي ينتبه إليها ويتداركها من يرغب بكتابة شعر المديح للرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام.
يقول الشاعر في مطلع النص
.
أَنَّـى أُحِيلُ سَنَاهُ حِبرَاً أَسوَدَا!
وأَخُطُّ في إِنسَانِ عَينِي إِثمِدَا؟
.
إحالة السنا إلى حبر أسود تعني الكتابة باستخدام الحبر لوصف السنا . ولو قال الشاعر : (انّى أحيل سناه حبرا) فقط ، ودون وصف الحبر بالسواد لأجزأه. لكن السواد من صفات الحبر . والمعنى: أن الحبر بالمعنى المجازي يبقى عاتما بالمقارنة مع سناه عليه الصلاة والسلام . فأنّى يكون له أن يستوعب هذا السنا ويعبّر عنه . والمعنى جميل.
.
أما العجز فقد وجدتُ فيه أحد عيوب الصورة الشعرية المتمثلة بعدم وجود تناسب بين خصائص عناصر الصورة الشعرية ( إنسان العين والخطّ بالإثمد ) .
فالإثمد: مادة ( مسحوق حجري ) تستخدم لكحل الحفون. أما إنسان العين: فهو الحدقة أوالفتحة الموجودة في وسط قرص القزحية الملونة في العين. ولا يجب للكحل أن يطالها .وإنما الكحل يكون لحوافّ الأجفان فقط . فكيف يكحل الشاعر إنسان عينه ؟ وكيف يخطّ الشاعر فيه الإثمد ؟؟ ومن الواضح أن الشاعر لا يعرف ما هو إنسان العين ، ويظنه الجفن.
ثم يقول
هَل أَقطِفُ الفُلَّ المُضَمَّخَ بالشَّذَى
والزَّهرَ والوردَ المُكَلَّلَ بالنَّدَى؟
مجرد وصف إنشائي منظوم اتكأ على تكرار المرادفات التي تحمل الدلالات المتشابهة ( فل، شذا بالألف الممدودة . زهر ، ورد، ندى ) . وأين الشاعر في هذا الاستسهال لنظم الكلمات ذات المعاني السطحية المرهَقة من كثرة استخدامها، من المعاني العميقة التي كان ينبغي عليه استحضارها عند ذكره عليه الصلاة والسلام.
.
أَو أَمزُجَ العُودَ الصَّرِيفَ بِعِطـرِهِ
وأَشُمُّهُ عَرفَاً تَعَبَّقَ بالهُدى؟
.
لماذا يريد الشاعر مزج شيء آخر ( العود) مع عطره عليه الصلاة والسلام؟ ألا يكفيه عطره دون العود ؟
ثم إن الهدى هو الشريعة أو السبيل المتًّبع. وإذا انتبهنا إلى خصائص المعنى فإنه لا يناسبه أن يكون مادة للشمّ. والأمر نفسه من عدم حصول تناسب وتجانس بين خصائص عناصر الصورة البيانية نجده في قوله:
أَمِنَ النُّجُومِ الزُّهرِ أَنظُمُ بُردَةً
أسمُو بِـهِ وَسطَ القِلَادَةِ فَرقَدَا؟
.
إذ أن البُردة نسيج يُنسَج من الخيوط ، ولا يُتَحصًّل عليها بعملية النظم، وإنما بعملية النسج . بينما النجوم الزهر تشبه الدرر ويناسبها النظم، وليست قابلة للنسج، كي تتحول إلى بُردة.
.
فالخلل الفني في بناء الصورة الشعرية في الصدر واضح . لكن وجود لفظة ( البردة ) مع مجموعة الألفاظ التي تنتمي إلى الحقل المعجمي والدلالي نفسه في البيت ( النجوم الزهر ، أنظم ، البردة ، القلادة ، الفرقد ) نكاد نفهم أن الشاعر لا يعرف ما هو الفرق بين البردة والقلادة .
ثم يقول:
.
والقَزَّ أَنسُجُ مِنهُ أَرقَى سُندُسٍ
وَأَخُصُّ مَحمُودَ المقامِ مُحَمَّدَا ؟
.
ليس القَزُّ باللباس الذي يُمَنُّ به على الرجال الأفاضل . إنما القزُّ لباس النساء . ومُحرَّم على الرجال في الشريعة الإسلامية .
.
عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: ((أَرْسَلَ النَّبيُّ- صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- إلى عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عنْه- بحُلَّةِ حَرِيرٍ -أوْ سِيَرَاءَ- فَرَآهَا عليه. فَقالَ: «إنِّي لَمْ أُرْسِلْ بهَا إلَيْكَ لِتَلْبَسَهَا؛ إنَّما يَلْبَسُهَا مَن لا خَلَاقَ له، إنَّما بَعَثْتُ إلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بهَا». يَعْنِي تَبِيعَهَا))، [صحيح البخاري: 2104] .
.
من الواضح أن الشاعر لا يعرف هذه المعلومة ولم يفكِّر فيها . وإلّا لما نسج الحرير ليخصَ به الرسول الذي نهى الرجال عن لبس الحرير.
فضلا عن أن لهجة التفاخر بالهديّة أيّا كان نوعها، وأيا كان مستوى رقيّها لا يليق بالمقام العظيم للمهدى إليه- عليه الصلاة والسلام - وإنما الأليق أن يكون الاعتذار عن التقصير هو الواضح والبارز في لهجة الشاعر، إذ لا يتناسب الفخر بالنفس في مقام مديحه على الإطلاق.
يقول:
.
وَعَنِ الحبيبِ المُصطَفَى أَكسُوكَهَا
كَعبَاً بِمَا أَطرَى فُؤَادُكَ أَحمَدَا
.
يريد الشاعر أن ينوب عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في إهداء هذه البردة لكعب بن زهير . فأين هو المديح الذي أصاب الممدوح العظيم؟
.
لماذا يهدي الشاعر البردة التي سينظمها إلى كعب نيابة عن الرسول الأعظم ؟ وهل كان كعب- رضي الله عنه- بادئا بالفضل إذ أهداه الرسول صلى الله عليه سلَم بردته ؟ أم كان إهداء الرسول بردته له مجرد إحسان من الرسول الأعظم ؟
.
فأَنَا السَّحُولِيُّ اليَمَانِيُّ الَّذِي
أَحذَى بِنَسجِ البُردَةِ الأُولَى يَدَا
.
واليوم أَنسُجُ حُلَّةً دَاليَّةً
وأُرَصِّعُ النَّصَّ التَّلِيدَ زُمَرَّدَا
.
مَهلَاً فَنَجلُ زُهَير أَشرَقَ حَرفُهُ
بِالبَدرِ والشَّمسِ المُضِيئَةِ سَرمَدَا
.
مُتَوَشِّحَاً سَيفَ المَدَائِحِ سَلَّهُ
بِضِيَائِهِ حِينَ انتَضَاهُ مُهَنَّدَا
.
هذه أربعة أبيات يمدح فيها الشاعر نفسه ويفخر بشعره أيضا ( صار العدد حتى الآن ستة أبيات للتفاخر الذاتي ) . فهل يجوز هذا في مقام مديح النبي وبين يديه ؟
طبعا لا يجوز ؛ لأن غرض القصيدة هو مدح النبي عليه الصلاة والسلام وليس الفخر والمدح الذاتي . والأليق هو التواضع والاعتذار عن التقصير . والشاعر ينتبه جزئيا إلى هذا الأمر ويقول بعد ذلك
.
عُذرَاً رَسُولَ الله إِنَّ قَرِيحَتِي
مَهمَا تَجُودُ تَظَلُّ أنتَ الأَجوَدَا
.
ولكن هذا الاعتذار ليس اعتذارا حقيقيا؛ فضِمن الاعتذار نفسه يسمي الشاعر عمل قريحته في إنتاج الشعر بالجود ( إن قريحتي مهما تجود ) فيبدو قوله للرسول الأعظم ( تظلُّ أنت الأجودا ) إلى جانب تلك العبارة وكأنه مجرد مجاملة . فضلا عن أن الإقرار بأنه عليه الصلاة والسلام يظلُ هو الأجود ، ليس في مكانه لأنه بديهي، ومفروغ منه ولا يحتاج إلى النطق به . ومجرد النطق به يعطيه أهمية، وكأنه يستحق الذِكر.
.
إِنيَّ سَأَنثُرُ فِيكَ دُرَّاً خَالصَاً
وَأُدَبِّجُ الفَحوَى بِحُسنِكَ عَسجَدَا
.
سَأغُوصُ في بَحرِي وأَسبُرُ غَورَهُ
أَصطَادُ لُؤلُؤَهُ لِأُكرِمَ مَرثَدَا
.
المرثَد : هو الكريم . والشاعر يعد بإكرام الكريم، من خلال نثر الدر في الحديث عنه . واصطياد اللؤلؤ بعد أن يغوص في بحره أيضا .
وكل هذا الدرّ، والعسجد، واللؤلؤ، فضلا عما جاء في المطلع من نظم النجوم الزهر في القلادة، هو تكرار في تكرار، لصورة شعرية مستهلكة جدا، وتأتي كل تكرارتها في سياق الوعد والتفاخر بالشعر .
.
أَبنِي جِنانَ الرُّوحِ من يَاقُوتِهَا
وَأُقِيمُ في قَلبِ القَصِيدَةِ مَسجِدَاً
.
أُعلِي مَآذِنَ قُدوَتِي فِي رُكنِهِ
وَيَفُوحُ بِالآفَاقِ من فَمِهَا الصَّدَى
.
محاولة للخروج عن إطار الصورة الشعرية السابقة التي استغرقت قرابة نصف عدد أبيات القصيدة. وبناء المسجد في القصيدة صورة جميلة مع بناء المآذن في ركن هذا المسجد ، وقد جعل الصدى (صدى الآذان ) يفوح من فم المآذن. فكأنها ورود ذات روائح عطرة تفوح. وكأن صوت الأذان هو العطر الذي يمكن شمُّه في الآفاق . على أن لفظة ( قدوتي ) جاءت حشوا لتسدّ مكانها من التفعيلة . وليس المعنى محتاجا إليها بأية حال.
.
كي أُطفِئَ الظَّمَأَ الشَّدِيدَ بِذِكرِهِ
وَأَبُلَّ في حَوضِ الوُرُودِ بِهِ الصَّدَى
.
قوله ( كي أطفئ الظمأ الشديد بذكره ) إنما يأتي تعليلا لما سبقه (أي :سبب إعلاء المآذن). ولكن (بلّ الصدى ) في العجز تكرار لإطفاء الظمأ الشديد في الصدر .
.
أَي...أَنتَ عِنوَانُ السَّمَاحَةِ والتُّقَى
دَفَّقتَ بالخُلُقِ العَظِيمِ مَوَارِدَا
ز
القافية في ( مواردا ) مؤسسة خلافا لبقية قوافي القصيدة، وهذا خلل عروضي. والخلل الآخر معنوي، ويتعلق بقوله (دَفَّقتَ بالخُلُقِ العَظِيمِ مَوَارِدَا) إذ لا يوصف تأثير الأخلاق العظيمة (بتدفيق الموارد ) لعدم وجود دلالة واضحة لمعنى التركيب اللغوي ( دفَقتَ مواردا ) .
.
أَروَيتَ زَرعَ المَكرُمَاتِ بِفَيضِهَا
أَنشَأتَ جِيلَاً هَامَ فِيكَ مُوَحِّدَا
.
وَعلى خُطَاك تَرَسَّخَت أَقدَامُهُ
أَضحَى عَلَى مَرِّ العُصُورِ مُجَدِّدَا
.
تِبرُ الثَّرى في غَيث دَعوتِهِ هَمَى
وَجَنَى الوَرَى بِيَدَيهِ عَيشَاً أَرغَدَا
.
أَحيَيتَ - أحمدُ - بالفَضَائِلِ أمَّةً
وَرَفَعتَ أَبراَجَ المَبَادِئِ سُؤددَا
أتساءل عن لفظة (جيلا) ولماذا هو جيل واحد فقط، وليست أجيالا؟
والأبيات نظم رتيب لا يخلق أية دهشة شعرية ، ولا يثير أية مشاعر وجدانية شاعرية تستحق الاهتمام بها. وقد امتلأت الأبيات بمفردات لا فائدة منها، سوى الحشو مثل (بيديه ، أحمد، أبراج المبادئ ) ويمكن الاستغناء عنها دون أي ضرر .
.
ولَبِستَ بَيضَاءَ السَّحَابِ عِمَامَةً
وَوَطِئتَ في قَدَمَيكَ رِجزَاً أَسوَدَا
.
وَغَلَبتَ قُرصَ الشَّمسِ في كَبِدِ الضُّحى
وبَلَغتَ في جَمِّ التَّوَاضُعِ مَقصَدَا
.
فَأَضَأَتَ وجَهَ الكونِ وَانقَشَعَ الدُّجَى
.
الصور الشعرية مكررة . وخالية من الابتكار ومن أية إضافة أو ميزة تزيد عن مستوى النظم الرتيب للكلمات .
.
وَتَلَألَأَ الجِيلُ الَّذِي فِيكَ اهتَدَى
.
وَتَهَلَّلَ التَّارِيخُ وَانشَرَحَ الأُلَى
وَالعَالَمُ الملهوفُ أَعلَنَ مَولِدَا
.
الألى: اسم موصول ويجب أن تأتي بعده جملة صلة الوصل ـ فأينها ؟
.
أَزهَقتَ فَوقَ الأَرضِ كُلَّ جَهَالةٍ
وَالظُّلم في جُنحِ الظَّلَامُ تَبَدَّدَا
.
أَعلَامُنَا خَفَقَت على هَامِ الدُّنَا
والعِزُّ فِي يَدِهِ سَقَى الذُّلَّ الرَّدَى
.
جمع دنيا : (دُنى) بالألف المقصورة . وليس الممدودة .
وليته - عليه الصلاة والسلام -كان قد أزهق حقا فوق الأرض كل جهالة ، إذن لانمحى الكفر من فوق الأرض . ولكن الجهالة بقيت و الكفر بقي في أصقاع الأرض ولم يزهقا .
.
لَكِنَّ طَودَ المَجدِ نَكَّسَ رَأسَهُ
في أُمَّتَينا - اليوم - قَزمُ بَنِي العِدَى
.
فَجَثَت عَلَى طُهرِ الثَّرَى أَورَامُهُ
غَرَزَت عَلَى مَسرَاكَ _طَهَ _ غَرقَدَا
.
ليس (طه) من أسماء الرسول -صلى الله عليه وسلم -وهذا خطأ شائع ينبغي الانتباه إليه . إنما هو اسم سورة من سور القرآن الكريم فقط. .
.
فَمَتَى سَيبزُغُ فَجرُنا بِكَ مَرَّةً
-أُخرَى - ويُشرِقُ نَصرُنا الآتِي غَدَا
.
نص من النظم البارد المكتوب دون انفعال شعري حقيقي، لم يقترب من الشعر في بنائه اللغوي وفي خياله وتصويره وإدهاشه وإمتاعه. ولم يعطِ مقام الرسول الأعظم حقه من محاولة المديح.
.
ثناء حاج صالح