سؤال العدالة والحرية – بقلم : سامى شرف
أيهما يجب أن تكون له الأولوية، العدالة أم الحرية؟ هذا السؤال ليس بالجديد، وكثيرا ما واجهته مجتمعاتنا العربية فى لحظات تاريخية حاسمة، مثل تلك التى نواجهها الآن. وهو سؤال أزمة بامتياز. نعم سؤال أزمة؛ فغالبا ما يطرح والمجتمع فى مرحلة تحول دراماتيكى تشوبه كثير من الأزمات، تجعل المفاضلة بين أولوية العدالة والحرية أمرا ضروريا.
الحقيقة، العدالة والحرية قيمتان مهمتان لا يختلف على ضرورتهما للمجتمعات البشرية أحد؛ كما أن النظم الإيديولوجية الكبرى فى العالم الحديث والمعاصر، تقوم على ثلاث قيم حضارية كبري؛ (العدل والمساواة والحرية)، وتختلف فيما بينها وفقا لأولوية وتراتبية هذه القيم فى منظومتها القيمية؛ فهى فى المنظومة الحضارية الإسلامية مرتبة كالآتى (العدل ـ المساواة الحرية)، وفى المنظومة الحضارية الاشتراكية/الشيوعية (المساواة العدل ـ الحرية)، وفى المنظومة الحضارية الغربية (الحرية ـ المساواة ـ العدل)، وفى إطار هذه التراتبية وتحديد الأولويات تشهد المجتمعات اختلافا فى بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، كما يثور الجدل الفكرى والفلسفى حول ذلك بين أنصار كل نموذج حضاري.
من هذا المنطلق، ندرك أن القيم الثلاث هى التى تشكل المنظومة الحضارية لعالمنا الحديث والمعاصر، ولكن الاختلاف حول أولوية التطبيق لأى منها يختلف من منظومة لأخري، ومن ثقافة لأخري، ووفقا لتطور كل مجتمع وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما تواجهه من أزمات.
ولعل هذا الوضع هو ما يواجهه المجتمع المصرى حاليا؛ فعقب ثورة 25 يناير 2011 طل السؤال برأسه جليا .. العدل أم الحرية أولا؟ وثار الجدل بين ما يطلق عليهم النخبة من جهة. والشباب الثائر، وعموم الجماهير من جهة أخري. وأزعم أنه من رحم الإجابة عن هذا السؤال ولدت الأزمة التى تعيشها مصر حتى الآن، كيف ذلك؟
كان الشباب النقى الذى خرج ثائرا على الممارسات الشرطية الجائرة، وغياب منظومة العدالة الاجتماعية، وانتشار الفقر لمصلحة طبقة صغيرة من أصحاب المال والنفوذ السياسى يرى أن لقيمة العدل الأولوية فى هذه المرحلة، فالحرية كانت نسبيا متحققة فى فضاء إعلامى والكترونى لكن دون مردود، وهو ما جسدته مقولة الرئيس الأسبق مبارك فى آخر مجلس شعب حين سخر من المعارضة وقال »خلوهم يتسلوا« .. أى دعهم يفعلوا ما يشاءون، ونحن نفعل ما نشاء، فنحن مجتمع حر، ولكن ليس عادلا، فالحرية دون عدل ضجيج بلا طحين، الحرية بلا عدل عبث لا معنى له؛ هذا العدل الاجتماعى هو حلم المصريين وأملهم المرتجى منذ رحل عبد الناصر.
لذا طالب شباب الثورة الحقيقي؛ وليس شباب الإعلام والمنظمات الحقوقية والصفقات السياسية، أقصد ذلك الشباب الذى خرج بالملايين مضحيا بكل ما يملك من أجل بلاده .. مضحيا بحياته، لكى يطالب بمحاكمات ثورية سياسية تقتص من كل من أساء لهذا الوطن، ونهب ثرواته، ثم يتم وضع دستور للبلاد يتفق عليه جميع القوى السياسية والمجتمعية يحقق مطالب وأهداف الثورة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
ولكن لأسباب عدة، كان أبرزها غياب الثقافة السياسية، وتجريف الحياة السياسية والحزبية لعقود طويلة، استطاع أعداء الثورة ولصوص الأوطان، من تيارات الإسلام السياسي، وحملة المباخر، ومحترفى السياسة، وبنفس آليات التزييف والتغييب التى اتبعها نظام مبارك ورجال الحزب الوطني، من قبيل القرار للصندوق، وحرية الاختيار مدعمة بدعاية دينية مشوهة أن يجهضوا أحلام الشباب الثائر النقي، وروجوا وقننوا لوضع سياسى جديد يقوم على ذات الآليات والأسس التى كان عليها الوضع السياسى القديم، بقوانينه، وآلياته، وقواعده، فخرج المنتج النهائي؛ نظاما سياسيا مسخا ونسخة من نظام مبارك الفاسد الذى قامت الثورة عليه، والجديد فيه أنه صار بلحية ظاهرة بعد أن كانت خفية، وكان الحصاد الطبيعى لهذا النظام، أن ضاعت دماء الثوار هدرا، وأموال الوطن هباء فى محاكمات تبدو عادلة، ولكنها افتقدت كل قواعد العدالة؛ لأن الجانى تمت محاكمته و فق قوانينه وقواعده، التى أعدت خصيصا لمثل هذا اليوم.
وفى غفوة من الزمن، وسقطة تاريخية غير مسبوقة سطت جماعة فاشية على قمة السلطة فى مصر، حاولوا فيها طمس الهوية المصرية، ورب ضارة نافعة؛ فبعد شهور قليلة من حكم هذه الجماعة، أدرك المصريون أنهم تعرضوا لأكبر عملية تزييف وعي، وتشويه لإرادتهم فى التاريخ، ومن ثم سرعان ما استفاقوا وقاوموا نظام حكم جماعة الإخوان المتأسلمين، وفى سبيل ذلك رفضوا كل الدعاية التى تروج -زورا- لاحترام الشرعية، وكلمة الصندوق، وحرية الاختيار، وأن قواعد الديمقراطية تقضى بأن يكمل محمد مرسى العياط، مندوب المرشد فى الاتحادية مدة ولايته، وكان الهدف ليس استكمال مدة الولاية، بل استكمال مخطط هدم الدولة المصرية، وكان يساندهم فى هذا بعض التيارات السياسية التى لا تؤمن بفكرة الوطن، أرادت هدم الدولة المصرية من أمثال الاشتراكيين الثوريين و6 أبريل، وعدد من عملاء منظمات ما يسمى المجتمع التى يمولها الخارج بالملايين .. ليس من أجل الله والوطن بالطبع.
ومرة أخري، بعد عامين ينتفض المصريون فى 30 يونيو 2013 ويسقطون نظام حكم الجماعة المرشد، ويحمون وجود الدولة المصرية ذاته، والهوية المصرية ذاتها.
ومرة أخرى .. يتصور الثوار أن مطالب ثورة 25 يناير 2011 صارت قابلة للتحقيق، ولكن الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى تعيشه مصر منذ عصور كان حائلا دون تحقيق ذلك، فحالة الفقر والتجريف السياسى والنخبوي، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تواجهها البلاد وقفت ـ ومازالت ـ حائلا دون تحقيق الكثير من الأهداف والطموحات، حتى لو تحققت الإرادة السياسية، فقوى الممانعة لأى تحولات جذرية ثورية فى المجتمع المصرى استفحلت وترسخت عبر عقود طويلة من الفساد، حتى صارت قادرة على تحدى إرادة القيادة السياسية، دعمها فى ذلك هيمنتها على مقدرات الدولة الاقتصادية، وتخلى الدولة عن دورها الاقتصادى والاجتماعى لعقود طويلة، فكيف لآلة الثورة أن تعمل على تحقيق أهدافها ولا تتوافر لها طاقة العمل.
ومن هنا، أدرك جيدا طموحات الشعب المصرى المشروعة التى وصلت لعنان السماء، فى تحقيق انجازات ثورية وطنية تضاهى ما حققته ثورة 23 يوليو 1952، خاصة أن على رأس السلطة فى مصر رجلا وطنيا من الطراز الأول ينتمى للمؤسسة العسكرية المصرية العظيمة، يذكرنا بزعيم وطنى من طراز فريد ينتمى للمؤسسة العسكرية أيضا، هو الرئيس جمال عبد الناصر، الذى مازالت جموع المصريين يزينون بيوتهم بصوره، ويرفعونها فى أوقات المحن والأزمات، وكأنهم يلوذون به، ويرددون كلماته، ويحلمون بتحقيق مبادئه ومشروعه الوطني، ويتوقون لانجازات تصل لمستوى الانجازات التى تحققت فى عصره، ومازلنا نجنى ثمارها.
كما أدرك أيضا، أن ما كان للرئيس جمال عبد الناصر أن يسطر إنجازاته الوطنية والقومية فى تاريخ العزة والكرامة الوطنى دون أن تتوافر لديه البيئة المناسبة لذلك، وفى المقدمة من ذلك مجتمع الكفاية والعدل، مجتمع العدالة الاجتماعية، كان عبد الناصر يدرك أن من لا يملك قوته لا يملك حريته، كان يدرك أن العدالة هى السبيل للحرية، وليس العكس.
فقد استطاع الرئيس عبد الناصر من خلال منظومة قوية للعدالة الاجتماعية أن يخلق طبقة وسطى كبيرة واعية، حملت على أكتافها عبء تنفيذ مشروعه الوطني، وحققت انجازات ملموسة امتد تأثيرها لكل طبقات المجتمع.
لذا، حين أتأمل الوضع الحالى فى مصر، وأرصد حالة الإحباط والغضب التى تصيب قطاعا كبيرا من المصريين، خاصة فئة الشباب، الذين يلقون المسئولية على القيادة السياسية ألتمس العذر لهم، بقدر ما أتعاطف مع القيادة السياسية التى أثق فى صدق إرادتها، وأعرف أن الوضع الداخلى والخارجى شديد الصعوبة، خاصة الوضع الاقتصادى والأمني، والذى يشكل عائقا ضخما أمام تحقيق المشروع الوطني، الذى يرمى لاستقلال الإرادة الوطنية المصرية، والارتقاء بمستوى معيشة المصريين على كل مستوياتها.
وهنا أوجه رسالتى لطرفى المعادلة (السلطة الحاكمة x الشعب)؛ على السلطة الحاكمة أن تضع من الخطط والسياسات العامة، وتتخذ من القرارات ما من شأنه الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للمواطن، ومواجهة جادة وحقيقية للفساد بشتى صوره، على أن تكون بوصلتها فى ذلك تحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية الطبقة الوسطي، والأخذ بيد من حديد على كل من يحاول أن يجهض هذا العمل.
وعلى طرف المعادلة الآخر؛ الشعب، أؤكد أنه دون مساندة شعبية للسلطة الحاكمة لن نستطيع أن نحقق أى شئ مما نصبو إليه، وسوف يفتقد الوطن البوصلة، لذا على الشعب أن يثق فى قيادته، وأن يؤدى ما عليه من دور، فى العمل الجاد، والتصدى لكل محاولات الفساد، وعدم الالتفات إلى ما يروجه أعداء الوطن من رؤى هدامة، ومزايدات مغرضة تروج لحق يراد به باطل من قبيل أن هناك قمع للحريات وانتهاكا لحقوق الإنسان، ليس دفاعا عن الحريات وحقوق الإنسان بقدر ما هو توفير مناخ لانتهاك القانون والأمن القومى للبلاد، وخرق قيم المجتمع وقواعده، وتمرير أجندات خارجية وداخلية لا تتوافق ومصلحة الوطن، ولا يعنى رفض الشعب لهذه الممارسات ألا يمارس كامل حقه فى النقد البناء وتصحيح المسار، فأنا ضد سياسة أن »كله تمام يا فندم« و«ليس فى الإمكان أفضل مما كان«. هناك قصور. نعم، هناك الأفضل .. نعم، هناك أخطاء .. نعم.
ولكن حين أمارس حقى فى النقد لابد أن أنطلق من فهم عميق لمقتضيات المرحلة وضروراتها، وكما قال الرئيس السيسي«حاسب وانت بتطالب بحقوقك .. اوعى تضيعنا معاك«، لابد أن أدرك أن هناك أولويات لابد من مراعاتها. ورسالتى إلى طرفى المعادلة، أن أولويات المجتمع المصرى حاليا، والتى يجب أن يراعيها الجميع؛ حاكما ومحكوما، هى تحقيق العدالة الاجتماعية، لأنها صمام الأمان لنجاح أى تجربة ومشروع وطني؛ فالمجتمع العادل يلتزم بالأمن الإنسانى والتطوير الإنسانى لإنجاز التقدم السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافي، ويسعى لتعزيز أنظمته الديمقراطية، ويعلم أعضاؤه حقوقهم الديمقراطية وحرياتهم، و يضمن اشتراك جميع مواطنيه فى عملية اتخاذ القرارات فى المستويات المحليّة والوطنية، وتقوية الهوية الوطنية ضمن كل شرائح المجتمع من خلال رصد ومحاربة حالات خرق الحقوقِ وإساءة استخدام السلطة.
والأهم، أن المجتمع العادل يروج للنمو الاقتصادى العادل، ويسعى لإعادة مهارة العمال .. مجتمع لا يستطيع تحمل الفقر؛ لذا سيعمل على إزالة عدم المساواة، ويروج لمساواة الفرص فى مجتمعاتنا، ويحمى الضعيف، ويمد شباك الأمان إلى الفئات التى همّشتْ فى المجتمع مثل القرى والنجوع، ويوجه جميع أعماله لخدمة مصالح أفراد المجتمع وطبقاته.
أيهما يجب أن تكون له الأولوية، العدالة أم الحرية؟ هذا السؤال ليس بالجديد، وكثيرا ما واجهته مجتمعاتنا العربية فى لحظات تاريخية حاسمة، مثل تلك التى نواجهها الآن. وهو سؤال أزمة بامتياز. نعم سؤال أزمة؛ فغالبا ما يطرح والمجتمع فى مرحلة تحول دراماتيكى تشوبه كثير من الأزمات، تجعل المفاضلة بين أولوية العدالة والحرية أمرا ضروريا.
الحقيقة، العدالة والحرية قيمتان مهمتان لا يختلف على ضرورتهما للمجتمعات البشرية أحد؛ كما أن النظم الإيديولوجية الكبرى فى العالم الحديث والمعاصر، تقوم على ثلاث قيم حضارية كبري؛ (العدل والمساواة والحرية)، وتختلف فيما بينها وفقا لأولوية وتراتبية هذه القيم فى منظومتها القيمية؛ فهى فى المنظومة الحضارية الإسلامية مرتبة كالآتى (العدل ـ المساواة الحرية)، وفى المنظومة الحضارية الاشتراكية/الشيوعية (المساواة العدل ـ الحرية)، وفى المنظومة الحضارية الغربية (الحرية ـ المساواة ـ العدل)، وفى إطار هذه التراتبية وتحديد الأولويات تشهد المجتمعات اختلافا فى بنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، كما يثور الجدل الفكرى والفلسفى حول ذلك بين أنصار كل نموذج حضاري.
من هذا المنطلق، ندرك أن القيم الثلاث هى التى تشكل المنظومة الحضارية لعالمنا الحديث والمعاصر، ولكن الاختلاف حول أولوية التطبيق لأى منها يختلف من منظومة لأخري، ومن ثقافة لأخري، ووفقا لتطور كل مجتمع وأوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما تواجهه من أزمات.
ولعل هذا الوضع هو ما يواجهه المجتمع المصرى حاليا؛ فعقب ثورة 25 يناير 2011 طل السؤال برأسه جليا .. العدل أم الحرية أولا؟ وثار الجدل بين ما يطلق عليهم النخبة من جهة. والشباب الثائر، وعموم الجماهير من جهة أخري. وأزعم أنه من رحم الإجابة عن هذا السؤال ولدت الأزمة التى تعيشها مصر حتى الآن، كيف ذلك؟
كان الشباب النقى الذى خرج ثائرا على الممارسات الشرطية الجائرة، وغياب منظومة العدالة الاجتماعية، وانتشار الفقر لمصلحة طبقة صغيرة من أصحاب المال والنفوذ السياسى يرى أن لقيمة العدل الأولوية فى هذه المرحلة، فالحرية كانت نسبيا متحققة فى فضاء إعلامى والكترونى لكن دون مردود، وهو ما جسدته مقولة الرئيس الأسبق مبارك فى آخر مجلس شعب حين سخر من المعارضة وقال »خلوهم يتسلوا« .. أى دعهم يفعلوا ما يشاءون، ونحن نفعل ما نشاء، فنحن مجتمع حر، ولكن ليس عادلا، فالحرية دون عدل ضجيج بلا طحين، الحرية بلا عدل عبث لا معنى له؛ هذا العدل الاجتماعى هو حلم المصريين وأملهم المرتجى منذ رحل عبد الناصر.
لذا طالب شباب الثورة الحقيقي؛ وليس شباب الإعلام والمنظمات الحقوقية والصفقات السياسية، أقصد ذلك الشباب الذى خرج بالملايين مضحيا بكل ما يملك من أجل بلاده .. مضحيا بحياته، لكى يطالب بمحاكمات ثورية سياسية تقتص من كل من أساء لهذا الوطن، ونهب ثرواته، ثم يتم وضع دستور للبلاد يتفق عليه جميع القوى السياسية والمجتمعية يحقق مطالب وأهداف الثورة فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.
ولكن لأسباب عدة، كان أبرزها غياب الثقافة السياسية، وتجريف الحياة السياسية والحزبية لعقود طويلة، استطاع أعداء الثورة ولصوص الأوطان، من تيارات الإسلام السياسي، وحملة المباخر، ومحترفى السياسة، وبنفس آليات التزييف والتغييب التى اتبعها نظام مبارك ورجال الحزب الوطني، من قبيل القرار للصندوق، وحرية الاختيار مدعمة بدعاية دينية مشوهة أن يجهضوا أحلام الشباب الثائر النقي، وروجوا وقننوا لوضع سياسى جديد يقوم على ذات الآليات والأسس التى كان عليها الوضع السياسى القديم، بقوانينه، وآلياته، وقواعده، فخرج المنتج النهائي؛ نظاما سياسيا مسخا ونسخة من نظام مبارك الفاسد الذى قامت الثورة عليه، والجديد فيه أنه صار بلحية ظاهرة بعد أن كانت خفية، وكان الحصاد الطبيعى لهذا النظام، أن ضاعت دماء الثوار هدرا، وأموال الوطن هباء فى محاكمات تبدو عادلة، ولكنها افتقدت كل قواعد العدالة؛ لأن الجانى تمت محاكمته و فق قوانينه وقواعده، التى أعدت خصيصا لمثل هذا اليوم.
وفى غفوة من الزمن، وسقطة تاريخية غير مسبوقة سطت جماعة فاشية على قمة السلطة فى مصر، حاولوا فيها طمس الهوية المصرية، ورب ضارة نافعة؛ فبعد شهور قليلة من حكم هذه الجماعة، أدرك المصريون أنهم تعرضوا لأكبر عملية تزييف وعي، وتشويه لإرادتهم فى التاريخ، ومن ثم سرعان ما استفاقوا وقاوموا نظام حكم جماعة الإخوان المتأسلمين، وفى سبيل ذلك رفضوا كل الدعاية التى تروج -زورا- لاحترام الشرعية، وكلمة الصندوق، وحرية الاختيار، وأن قواعد الديمقراطية تقضى بأن يكمل محمد مرسى العياط، مندوب المرشد فى الاتحادية مدة ولايته، وكان الهدف ليس استكمال مدة الولاية، بل استكمال مخطط هدم الدولة المصرية، وكان يساندهم فى هذا بعض التيارات السياسية التى لا تؤمن بفكرة الوطن، أرادت هدم الدولة المصرية من أمثال الاشتراكيين الثوريين و6 أبريل، وعدد من عملاء منظمات ما يسمى المجتمع التى يمولها الخارج بالملايين .. ليس من أجل الله والوطن بالطبع.
ومرة أخري، بعد عامين ينتفض المصريون فى 30 يونيو 2013 ويسقطون نظام حكم الجماعة المرشد، ويحمون وجود الدولة المصرية ذاته، والهوية المصرية ذاتها.
ومرة أخرى .. يتصور الثوار أن مطالب ثورة 25 يناير 2011 صارت قابلة للتحقيق، ولكن الواقع السياسى والاقتصادى والاجتماعى الذى تعيشه مصر منذ عصور كان حائلا دون تحقيق ذلك، فحالة الفقر والتجريف السياسى والنخبوي، والأزمة الاقتصادية الطاحنة التى تواجهها البلاد وقفت ـ ومازالت ـ حائلا دون تحقيق الكثير من الأهداف والطموحات، حتى لو تحققت الإرادة السياسية، فقوى الممانعة لأى تحولات جذرية ثورية فى المجتمع المصرى استفحلت وترسخت عبر عقود طويلة من الفساد، حتى صارت قادرة على تحدى إرادة القيادة السياسية، دعمها فى ذلك هيمنتها على مقدرات الدولة الاقتصادية، وتخلى الدولة عن دورها الاقتصادى والاجتماعى لعقود طويلة، فكيف لآلة الثورة أن تعمل على تحقيق أهدافها ولا تتوافر لها طاقة العمل.
ومن هنا، أدرك جيدا طموحات الشعب المصرى المشروعة التى وصلت لعنان السماء، فى تحقيق انجازات ثورية وطنية تضاهى ما حققته ثورة 23 يوليو 1952، خاصة أن على رأس السلطة فى مصر رجلا وطنيا من الطراز الأول ينتمى للمؤسسة العسكرية المصرية العظيمة، يذكرنا بزعيم وطنى من طراز فريد ينتمى للمؤسسة العسكرية أيضا، هو الرئيس جمال عبد الناصر، الذى مازالت جموع المصريين يزينون بيوتهم بصوره، ويرفعونها فى أوقات المحن والأزمات، وكأنهم يلوذون به، ويرددون كلماته، ويحلمون بتحقيق مبادئه ومشروعه الوطني، ويتوقون لانجازات تصل لمستوى الانجازات التى تحققت فى عصره، ومازلنا نجنى ثمارها.
كما أدرك أيضا، أن ما كان للرئيس جمال عبد الناصر أن يسطر إنجازاته الوطنية والقومية فى تاريخ العزة والكرامة الوطنى دون أن تتوافر لديه البيئة المناسبة لذلك، وفى المقدمة من ذلك مجتمع الكفاية والعدل، مجتمع العدالة الاجتماعية، كان عبد الناصر يدرك أن من لا يملك قوته لا يملك حريته، كان يدرك أن العدالة هى السبيل للحرية، وليس العكس.
فقد استطاع الرئيس عبد الناصر من خلال منظومة قوية للعدالة الاجتماعية أن يخلق طبقة وسطى كبيرة واعية، حملت على أكتافها عبء تنفيذ مشروعه الوطني، وحققت انجازات ملموسة امتد تأثيرها لكل طبقات المجتمع.
لذا، حين أتأمل الوضع الحالى فى مصر، وأرصد حالة الإحباط والغضب التى تصيب قطاعا كبيرا من المصريين، خاصة فئة الشباب، الذين يلقون المسئولية على القيادة السياسية ألتمس العذر لهم، بقدر ما أتعاطف مع القيادة السياسية التى أثق فى صدق إرادتها، وأعرف أن الوضع الداخلى والخارجى شديد الصعوبة، خاصة الوضع الاقتصادى والأمني، والذى يشكل عائقا ضخما أمام تحقيق المشروع الوطني، الذى يرمى لاستقلال الإرادة الوطنية المصرية، والارتقاء بمستوى معيشة المصريين على كل مستوياتها.
وهنا أوجه رسالتى لطرفى المعادلة (السلطة الحاكمة x الشعب)؛ على السلطة الحاكمة أن تضع من الخطط والسياسات العامة، وتتخذ من القرارات ما من شأنه الخروج من الأزمة الاقتصادية الراهنة، والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للمواطن، ومواجهة جادة وحقيقية للفساد بشتى صوره، على أن تكون بوصلتها فى ذلك تحقيق العدالة الاجتماعية، وحماية الطبقة الوسطي، والأخذ بيد من حديد على كل من يحاول أن يجهض هذا العمل.
وعلى طرف المعادلة الآخر؛ الشعب، أؤكد أنه دون مساندة شعبية للسلطة الحاكمة لن نستطيع أن نحقق أى شئ مما نصبو إليه، وسوف يفتقد الوطن البوصلة، لذا على الشعب أن يثق فى قيادته، وأن يؤدى ما عليه من دور، فى العمل الجاد، والتصدى لكل محاولات الفساد، وعدم الالتفات إلى ما يروجه أعداء الوطن من رؤى هدامة، ومزايدات مغرضة تروج لحق يراد به باطل من قبيل أن هناك قمع للحريات وانتهاكا لحقوق الإنسان، ليس دفاعا عن الحريات وحقوق الإنسان بقدر ما هو توفير مناخ لانتهاك القانون والأمن القومى للبلاد، وخرق قيم المجتمع وقواعده، وتمرير أجندات خارجية وداخلية لا تتوافق ومصلحة الوطن، ولا يعنى رفض الشعب لهذه الممارسات ألا يمارس كامل حقه فى النقد البناء وتصحيح المسار، فأنا ضد سياسة أن »كله تمام يا فندم« و«ليس فى الإمكان أفضل مما كان«. هناك قصور. نعم، هناك الأفضل .. نعم، هناك أخطاء .. نعم.
ولكن حين أمارس حقى فى النقد لابد أن أنطلق من فهم عميق لمقتضيات المرحلة وضروراتها، وكما قال الرئيس السيسي«حاسب وانت بتطالب بحقوقك .. اوعى تضيعنا معاك«، لابد أن أدرك أن هناك أولويات لابد من مراعاتها. ورسالتى إلى طرفى المعادلة، أن أولويات المجتمع المصرى حاليا، والتى يجب أن يراعيها الجميع؛ حاكما ومحكوما، هى تحقيق العدالة الاجتماعية، لأنها صمام الأمان لنجاح أى تجربة ومشروع وطني؛ فالمجتمع العادل يلتزم بالأمن الإنسانى والتطوير الإنسانى لإنجاز التقدم السياسى والاجتماعى والاقتصادى والثقافي، ويسعى لتعزيز أنظمته الديمقراطية، ويعلم أعضاؤه حقوقهم الديمقراطية وحرياتهم، و يضمن اشتراك جميع مواطنيه فى عملية اتخاذ القرارات فى المستويات المحليّة والوطنية، وتقوية الهوية الوطنية ضمن كل شرائح المجتمع من خلال رصد ومحاربة حالات خرق الحقوقِ وإساءة استخدام السلطة.
والأهم، أن المجتمع العادل يروج للنمو الاقتصادى العادل، ويسعى لإعادة مهارة العمال .. مجتمع لا يستطيع تحمل الفقر؛ لذا سيعمل على إزالة عدم المساواة، ويروج لمساواة الفرص فى مجتمعاتنا، ويحمى الضعيف، ويمد شباك الأمان إلى الفئات التى همّشتْ فى المجتمع مثل القرى والنجوع، ويوجه جميع أعماله لخدمة مصالح أفراد المجتمع وطبقاته.