صالون نون الأدبي وعائشة عودة ثمنا للشمس
عند الثالثة والنصف من بعد عصر الثلاثاء الموافق السادس من فبراير التأم جمع صالون نون الأدبي في لقاء جديد
افتتحت الأستاذة فتحية إبراهيم صرصور اللقاء مرحبة بالضيوف والضيفة فقالت
الحضور الكريم... رواد صالون نون الأدبي أهلا بكم ومرحبا، أهلا بكم وقد جئتم
احتفاء بكتاب، وتكريما لكاتبة
لكن اسمحوا لي بالأصالة عن صالون نون الأدبي وبالنيابة عنكم أن نستمطر الرحمات على روح الشهيد البطل أحمد ناصر جرار الذي ارتقى إلى العلى في هذا اليوم، تقبله المولى شهيدا، وجعلنا على دربه مقبلين غير مدبرين
ثم قالت: كتابنا لهذا اليوم ليس كأي كتاب، إنه زاد معرفة وبيان وتوضيح لحياة لم يعشها الكثيرون منّا،
وكاتبة ليست كأي كاتبة، إنها أسيرة محررة، سكبت لنا آهات السجينات مدرارة، وأطلعتنا على معاناتهن
لكنها لم تقف عند هذا الحدّ، لقد أيقظت فينا الأمل، فالسجن مدرسة وثبات وصمود، به تتحول المعاناة لمقاومة، لكنها مقاومة من نوع آخر، فضحكات الأسيرات تزعج العدو، وثقافتهن تؤرق مضجعه
كتابنا لهذا اليوم بعنوان (ثمنا للشمس) وكاتبتنا هي عائشة عودة
بعد مرور ثلاثين عاما على تنسمها عبير الحرية انكبت عائشة على الكتابة، تفرغ بها من معين ذكرياتها الزاخر بالمواقف والأحداث؛ فمن لحظة انكسار، ولحظات قوة وصمود وتحدي
في العام 2004م صدر كتابها الأول (أحلام بالحرية) وناقشناه هنا في صالون نون الأدبي في العام 2008م-
ولما لم يتسع الكتاب لجُل ما رأته وعاشته هي والأسيرات في السجن، كان كتابها الثاني استكمالا لم لم يتسع له الكتاب الأول، وقبل أن نفتح صفحات كتابها الثاني نعرج للتعريف بعائشة عودة لمن لا يعرفها
ولدت عائشة في العام 1944م في قرية دير جرير بمحافظة رام الله، توفي والدها وهاجر أخوها لأمريكا، فكانت هي السند والعون للأسرة، عملت كمدرسة لمادتي العلوم والرياضيات، وكانت تغرس في نفوس طالباتها الثورة والقضية فكانت عبارة (صباح الخير يا فاطمة!) هي مفتتح الحصة لديها عقب اعتقال فاطمة البرناوي وسجنها، سنة 1967، والحكم عليها بالمؤبد.
بعد حرب العام 1967م انضمت عائشة لصفوف المقاومة، وعلى خلفية نضالية اعتقلت في مطلع شهر مارس من العام 1969م، وحكم عليها بمؤبدين وعشر سنوات، أمضت في السجن عشر سنوات، إلى أن كانت صفقة النورس - أول عملية تبادل للأسرى بين منظمة التحرير ممثلة بالجبهة الشعبية – القيادة العامة” ودولة الاحتلال
بعد عشر سنوات من اعتقالها، سطعت الشمس، وأفرج عن فاطمة وأكثر من سبعين أسير وأسيرة من بينهم عائشة
فكانت الحرية لعائشة لكنها حرية مشروطة بالإبعاد، حيث أبعدت في مارس من العام 1979م للمملكة الأردنية الهاشمية، ويظل الأمل منبعثا في داخلها بأنها حتما ستعود فعادت مع قدوم السلطة الفلسطينية في العام 1994م، وهي عضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1981.
أنجزت عائشة عودة مجموعة من الكتابات التي متحت لها من ذاكرتها، فوثقت لمعلومات وبوصف دقيق لعالم واسع ومليء بالحكايات، أهمها:
أحلام بالحرية 2004، - “تجربة الكتابة” في: نوافذ في جدار الصمت: أصوات نساء في الانتفاضة 2005 - يوم مختلف-قصص قصيرة 2007 - “زمن العودة” في: عادلة العايدي-هنية 2008 - ثمناً للشمس 2013م
وهي تهيب بزملائها على اختلاف جنسهم ممن مروا بتجربة الاعتقال إلى كتابة رواياتهم وتجربتهم كي تكون دليلا على جرائم الاحتلال، فالكتابة عن السجن وجعٌ، لكنّ الصمت وعدم الكتابة سيكون أكثرَ ألمًا.
أما كتابنا لهذا اليوم (ثمنا للشمس) به تتحدث الكاتبة عن معاناة الأسيرات في السجن، فرصدت بعضا مم كن يصادفنه، وكيف كان السجان يعمد لقهرهن وإذلالهن وجعلهن مادة للتندر عليهن
فتحكي لنا في كتابها قصة ذاك الجندي المنزرع كرهنا من رأسه لأخمص قدميه، يأتي بجندب ويطلب من الأسيرة أن تأكله، وعندما رفضت رغم إصراره، يتحول لابنة عمها ويطلب منها ذات الطلب، وإن كانت عائشة رفضت بصوت خفيض، إلا أن رسمية عودة كان رفضها بصوت أعلى وأشد، ليتحول للثالثة عزية وزوز التي صرخت في وجهه صرخة مدوية نشرت القوة الكامنة في أعماقهن، وعندما حاول الجندي ضربها بالبندقية واجهنه وتصدين له، فكان لتلك الواقعة كبير أثر عليهن، فامتلأن جميعا قوة وإصرار
في مفارقة تشعرنا عائشة أن كل لحظة من اللحظات التي عشنها في السجن تزخر بالمعاناة والقوة، وإن كانت تتحدث عن المعاناة فما هي إلا ممر للحديث وإثبات صمود الأسيرات، فكان الأسر هو الميدان الذي تجلت به بطولات الأسيرات وصمودهن، ليضربن أروع الأمثال
في السجن يَطَلّع الأسير على مجتمع الاحتلال المنحل، وجيشه الهش، الذي لا يمتلك من القوة إلا قوة السلاح
في كتاب عائشة حقائق غفل عنها الساسة والقادة، فحرب أكتوبر عام 1973م جعلت الصهاينة ينتظرون قدوم جحافل العرب، لينقلب السجين لسجان، لكن التخاذل جذبهم للخلف، فامتطت إسرائيل صهوة القوة، وركع المتخاذلون، فسخروا أنفسهم لخدمتها
وفي واحدة من لقطاتها تقول: “أطل وجه فتاة من كوة الباب .. بصقت علينا وأسمعتنا شتائم رافقتها حركات بذيئة .. وجوه تطل تهدد وتسب “عربيوت ملخلخوت” أي “عربيات قذرات”.
هذه الصهيونية طلبت منهن أن يكن رفيقات بها عندما ينتصر العرب، وتصبح هي السجينة وهن السجانات، لقد انقلبت من وحش كاسر إلى إنسانة وديعة مسالمة، بعد أن شعرت بأن أيام دولتها أصبحت معدودة أثناء حرب أكتوبر 1973م
عائشة لا تحب كلمة «سجينة» أو «أسيرة»، تلفظها وترفضها، كما أرسلت لفدوى طوقان التي بعثت إليها بقصيدة مهداة «إلى السجينة عائشة عودة». تقول عائشة إن سنوات السجن استمرار للنضال لكن بوسائل أخرى، وفي مكان آخر لقد كانوا "يقتلون" جلادّيهم بالصمت والسخرية، أو بإظهار الفرح كما فعلت عائشة ورفيقاتها، كما كان الإضراب عن الطعام أرقى حالات التمرّد، وسلاحًا في معركة الإرادة.
أيضا حولت السجينات السجن لمدرسة، فمن محو للأمية لتعليم اللغة الإنجليزية والعبرية، ثم نجدهن يصدرن مجلّة، إيمانا منهن بـــ "أن البندقية بلا ثقافة، تتحول إلى بندقية مأجورة"
ساهمت عائشة بتثقيف زميلاتها في الأسر فكتبت مجموعة قصص “أرض البرتقال الحزين” لغسان كنفاني فيما كتبت رسمية عودة ملخصا لرواية “الأم” لمكسيم غوركي، وسجلن الكثير من الأشعار والحكم والأقوال التي تحفظها ىإحد عشرة أسيرة.
**
وهي تتصدى لإشاعات المحتل، لقد كتبت فدوى طوقان في عائشة عودة، وفي إشارة إلى حرب الإشاعات التي ينشرها الاحتلال كي يحد من النشاط المقاوم خاصة من النساء فقالت: من قصيدة في المدينة الهرمة
رسالة عائشة تستريح على مكتبي* ونابلس ذاهلة والحياة كليلة
يبادلني خاتم السجن صمتاً فصيحاً (يقول لها حارس السجن إنّ الشجر
تساقط والغابة اليوم لا تشتعل/ ولكنّ عائشة ما تزال تصرّ على القول
إن الشجر كثيف ومنتصب كالقلاع، وتحلم بالغابة التي تركتها تؤجّ بنيرانها
قبل خمس سنين/ وتسمع في الحلم زمجرة الريح بين المعابر
تقول لسجّانها: لا أصدق، كيف اصدّق من جاء من صُلبهم؟
تظلّون يا حارسي أنبياء الكذب
وتقبع في ظلمة السجن تحلم يظلّها الشجر المنتصب
وتفرحها غابةٌ في البعيد تصلصل فيها سيوف اللهب
فيها سيوف اللهب/ وتحلم عائشة ثم تحلم
كما تتجلى لنا ثورة عائشة الثائرة التي تسعى لتحرير الإنسان والأرض، في موقفها من المحامي الذي يلومها على نضالها، فتعجب كيف يجرؤ على مخاطبتها قائلاً: “ما كان لك أن تزجي بنفسك في السياسة وتدخلي السجن، كان من الأفضل لك البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات فذلك خير من أن تكوني سجينة”.
فردت قائلة: هذا ما يريده المحتل، لست سجينة، انأ أكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم، هم السجناء لا أنا، كان من الأجدى أن تدعو هؤلاء كي يتحرروا من خوفهم مثلي لا أن تدعوني كي أصير مثلهم.
فهي تقاوم المحتل، والمتخاذل في آن واحد
عائشة لا تنسب كتابها لجنس أدبي، فلا تصفه برواية أو نص، وتركت الأمر للمتلقي، لأن ما يعنيها هو أن تنقل تجربتها، وتفرغ معين ذكرياتها من ناحية، وتزيل القناع الذي يربض خلفه محتل ضعيف، لا يمتلك شجاعة ولا أخلاقا، من ناحية أخرى
أخيرا أقول: إن اهتمامنا في صالون نون الأدبي بالأسرى والأسيرات وتكريمهم لم يكن موقفا عابرا، لقد استضفنا العديد من الأسرى وتحدثنا عن ابداعاتهم: فكان لنا لقاء بالأسير المحرر الدكتور معاذ الحنفي، ووضعنا كتاب أحلام بالحرية لعائشة عودة على منصة الصالون، واحتفينا برواية الأسير رقم الذي لازال قابعا في أقبية السجون، وفتحنا ملفا كاملا بجلسات ثمان، استضفنا من خلاله الأسيرات المحررات وسجلت كل منهن تجربتها مع السجن وذكرياتها فيه
فلهم في أعناقنا دين، وفي قلوبنا محبة، وهم تيجان على رؤوسنا
بعد أن أنهت الأستاذة فتحية حديثها قالت: نستضيف اليوم ناقدة أثرت جلسات صالون نون الأدبي بالنقد الأدبي الواعي والمميز، فلها كل الشكر والتقدير، وشكر آخر لالتزامها بموعد جلستنا رغم ما تعانيه من ألم تعالت عليه لتفي لصالون نون الأدبي ورواده بموعد ثقافي
ثم تمنياتي لها بالشفاء العاجل والمعافاة من كل ما يؤذيها
والآن قبل أن أحيل الكلمة للدكتورة سهام اسمحوا لي أن أقرأ رسالة أرسلتها لكم الأستاذة عائشة، وكانت خطتنا أن نفتح معها خطا هاتفيا لتستمعوا لها، إلا أن ظروفها لم تسمح بذلك فأرسلت لكم كلماتها مكتوبة
الأخت العزيزة الأستاذة فتحية صرصور المحترمة،
الإخوة والأخوات الحضور الكريم،
مع انبلاج خيوط هذا الصباح، كانت تنبلج إضاءات تنبعث من دماء أحمد (العربي) المتفجرة كينابيع الأرض جميعا من على أرض اليامون، من على أرض فلسطين، معلنة هذه الدماء كما دماء جميع الشهداء؛ أن الحق في فلسطين باق ما دامت فينا دماء، وستزهر عاجلا أم آجلا حرية وكرامة وعزة وسلاما قواعده العدالة.
ومع تحية دماء الشهداء، أرسل لكم تحية معطرة بعبير أكناف بيت المقدس، سلاما عزيزا لغزة هاشم، لغزة الأبية. أنتم يا من تقهرون المستحيل، وتحيلون الركام إلى إضاءات ثقافية، تضيء الوعي المقاوم، وتبني روح الصمود والمقاومة.
الإخوة والأخوات
كنت أتمنى أن أكون اليوم معكم بكينونتي الكاملة. لكني معكم بروحي. ويسعدني تناولكم كتاب "ثمنا للشمس". أتمنى لكم معه صحبة ممتعة ومضيئة، وحوارات تنتج المزيد من الإضاءات للروح والوعي. فثمنا للشمس ليس كتاب بكائيات، لكنه رصد تلألؤات روح طليعة من نساء فلسطين، رفضن الهزائم، وامتشقن إرادة الفعل التي لا تهن أمام التحديات والسجون والسجان، لكنها تستمر في امتشاق إرادة المقاومة والفعل. فتؤسس نواة دولة فلسطين من داخل السجن، من على أرض الرملة، من قلب فلسطين، وتهزم السجان بروحه وتحوله إلى سجين يحمل الأصفاد في قلبه وروحه. وتبقي المعادلة بأن الحق الذي يتمسك أصحابه به هو أقوى من كل أسلحة الظلم والعدوان.
عاشت إرادة شعبنا في المقاومة والحرية، حتى تنتصر إرادة حقنا وحريتنا فوق أرضنا
ودامت مساهماتكم الواعية في ثقافة ووعي أجيالنا.
عائشة عودة.
6. 2. 018
هنا بدأت الدكتورة سهام مقدمة الشكر والتحية لصالون نون الأدبي الذي يحرك الماء الراكد في الثقافة في قطاع غزة، فتحية للصالون ممثلا برائدتيه الأستاذة فتحية والدكتورة مي
ثم قالت: يعد كتاب "ثمنًا للشمس" الذي صدر في طبعته الأولى عام 2012 الجزء الثاني من السيرة الذاتية للكاتبة "عائشة عودة" التي عنونت بأحلام للحرية" والتي سجلت فيه تجربة التحقيق والاعتقال، وقد فاز الكتابان بجائزة مؤسسة ابن رشد ابن رشد للفكر الحر عام 2015 عن فئة أدب السجون. وللكاتبة تجربة قصصية سابقة إذ أصدرت المجموعة القصصية "يوم مختلف" عام 2007..
قدمت الكاتبة سيرتها النضالية في سجون الاحتلال الإسرائيلي بوعي نافذ وقدرة مدهشة على الإمساك بتلابيب اللحظة المنقضية والقبض على التفصيلات في سرد متماسك، لم تعتمد الكاتبة على رصد الوقائع الخارجية وتوثيق تجربتها النضالية داخل الأسر فحسب بلغة تقريرية كما نعهد في فن كتابة السير الذاتية المعتادة، بل قدمت محكيها في ثوب روائي جاذب، ولغة أدبية رشيقة، تقول في مقدمة كتابها: :"مادة هذا الكتاب، ومادة الكتاب الأول كانت مسجلة في دفاتري بخط يدي منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، لكني لم أشأ إخراجها بلغتها الجافة التقريرية والتوثيقية، بل حلمت بكتابتها بلغة حية، كما التجربة ذاتها، يكون فيها صراع وانتصار وانكسار وذبول وتلألؤ وغوص في العمق، لا مجرد أحداث تسجل" .
مساهمة عائشة عودة بكتابيها قد أثرى نمط أدب الأسرى الذي يعد رافدًا أساسًّيا من روافد الأدب المقاوم، وقد تقاطعت كتابة عائشة عودة مع المنظور النسوي حيث توافقت شخصية الساردة والشخصيات النسوية الأخريات في نص "ثمنًا للشمس" مع المنظور النسوي الذي يرى في المرأة كائنا واعيا وفاعلا، وقد ناقشت د. سهام مستويات العلاقة بين المنظور النسوي وما طرحته عائشة عودة في النص حيث إرادة التحدي والقوة والفاعلية للمرأة الأسيرة التي غيرت المعادلة وانتقلت من بؤرة الضعف والاستكانة التي يفترضها السجان على جسد وروح السجين إلى روح القوة وعدم الرضوخ، حتى أن الساردة لم تقيدها جدران الأسر بل حولت ساحة السجن لمعترك فكري بالنقاش الثقافي مع قريناتها الأسيرات وبالكتابة والتمثيل المسرحي والقراءة المستمرة حتى أن مفهوهها للحرية قد اختلف كما أن رؤيتها ووعيها قد تغير وتشكل داخل جدران السجن ولا سيما بعد قراءتها لكتاب "العلم والناس والمجتمع" لمجموعة من الكتاب السوفييت والذي يتناول مفهومي الجدلية المادية والجدلية التاريخية، ليتشكل لديها وعي جديد في رؤيتها للعالم والوجود جعلتها تساءل أفكارها السابقة. لقد كان الأسر محفزا للذات وعنصر بناء لا هدم للذات الساردة التي بدت شامخة قوية ترفض الانصياع لأي أمر يناهض مبادئها وأفكارها، تناقش السجان الذي عجز عن "تحويلها إلى متصهينة"، تقول الساردة إثر مقابلتها لإحدى الضيفات البريطانيات التي تعجبت من دخولها السجن رغم أن "إسرائيل" توفر للجميع كل المتطلبات الغذائية لتصفعها الساردة وتقحمها بالرد على أنها تناضل من أجل جرية الوطن:
"استشاط غضبها (أي الضيفة) وتوجهت إلى "المديرة" تحدثها بعصبية، معتبرة أن ذلك دليل تقصيرها، فكيف لم تنجح بعد في تحويلي إلى صهيونية رغم وجودي عندها على مدى أكثر من سنتين؟".
رفضت الساردة لقب سجينة لأنها تصر أنها مناضلة سياسية وليست "سجينة" ولعل القصيدة التي أرسلتها "فدوى طوقان" إليها وأهدتها "للسجينة عائشة عودة" ما أثار حزنها، وبعد ذلك عقبت د. سهام وناقشت إشكالية المصطلح " أدب السجون" و "أدب الأسرى" والفرق بينهما، وقد حصرت مفهوم أدب الأسرى بالأدب الذي يصدره الفلسطيني من داخل الأرض المحتلة.
تكون النص من اثنتي وثلاثين عنوانا أساسيّا وعشرات العناوين الفرعية وعبر هذه العناوين انتظم المحكي وتنقلت الساردة بسلاسة من حدث لآخر ساردة ًأهم المواقف المؤثرة في تاريخ تجربتها الأسيرة.
عتبات النص:
عتبات النص والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الذيول، الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، والكلمات الموجودة على الغلاف، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقا لها من الأهمية ما يضفي المعنى والدلالة على النص فلا يصح القفز عنها فهي إشارات دالة تكاد توازي من حيث القيمة البلاغية والإبلاغية، قيمة المتن نفسه
1- سيميائية العنوان - ثمنًا للشمس:
عنوانُ أي نص أدبي بنيةٌ سيميائية لها من الدلالة ما يضيء جنبات النص بما ينسجه من علاقات تناصية مع بنية النص العميقة، هو خطاب موجز مشحون بطاقات تعبيرية وجمالية ورمزية لا يمكن القفز عنها، فهو ليس معطى سلبيًّا مفرغًا من الدلالة بل مفتاحًا أوليًّا وأول العتبات المعمارية التي يدلف منها القارئ للنص لكشف كنهه واستجلاء دلالته.
"ثمنًا للشمس" جملة مكونة من مفعول لأجله "ثمنًا" والجار والمجرور "للشمس/ الحرية" لفعل وفاعل ومفعول به محذوفين يمكن تقديرهم بـ "ندفع أرواحنا ثمنًا للشمس"، ليؤسس العنوان لدلالة مبدئية وهي الإصرار على المقاومة والنضال والتحدي في سبيل الحرية مهما كلف الأمر. وقد ورد العنوان بصيغته في متن النص في عنوان فرعي معنون بـ "ندفع ثمنًا للشمس".
2- لوحة الغلاف:
هي علامة غير لغوية تتضمن رسالة بصرية تنقل للمتلقي الأفكار والانفعالات بلغة الشكل، واللون، والخط، والظل، ف"الصورة من شأنها أن تضيف شيئًا إلى النص" كما يقول " عبد الفتاح كليطو"، ولكي تحقق لوحة الغلاف وظيفتها الناجعة في نقل الدلالة لابد أن تكون جاذبة للانتباه ومثيرة لخيال المتلقي الذي لا يلبث أن ينتقل من تلك العلامة البصرية إلى العلامة اللغوية لينسج الخيوط الدلالية بين كل عناصر النص.
ولوحة الغلاف من رسم المؤلفة ذاتها "عائشة عودة" التي رسمت صور أغلفة نصوصها الثلاثة: "يوم مختلف"، و"أحلام بالحرية"، و"ثمنًا للشمس" وتشترك أغلفتها الثلاث في استلهام عالم الزهور كمادة للوحاتها، وزهور غلاف نص "ثمنًا للشمس" باسقات مصطفات بجانب بعضها البعض يغلب عليها اللون الأقحواني بتدرجاته واللون الزيتي لأوراقها، ولكن يلحظ أن هذه الزهرات غير متفتحة.
وقد ورد دال الزهرة أو الوردة في المتن النصي مرتين، الأولى عندما انتقلت الأسيرات من القسم (أ) بألوانه الخضراء المضيئة إلى قسم (ب) حيث اللون الرمادي الذي يثير الكآبة، لتقول الساردة: "لقد اكتشفنا أن اللون يمكن أن يكون أداة عدوان!" (النص ص154)، لتقول بعد دخولها وزميلاتها الأسيرات الغرف الباردة: "قبل أن نرتب أغراضنا، التففنا حول بعضنا كما تفعل وريقات وردة، وانطلقت حناجرنا بأغانينا الثورية إلى أن تحررنا من أسر الكآبة، وفاضت حماستنا وأعلنا: نعمر المكان بإرادتنا" (النص ص 154).
ودال الوردة كما هو في المرويات العربية اقترن بالمرأة إذ يشتركان في الرقة والجمال، وهذه من التشبيهات الأثيرة عند الشعراء العرب قديمًا وحديثًا، ولكن هذا الاقتران لا يستدعي معنى الضعف بل وظف في سياق القوة والتآزز واستبقاء الحلم بالأمل، فالأسيرات "التففن حول بعضهن كما تفعل وريقات وردة" وهذا يستدعي معنى الألفة والتعاضد والرغبة في استزراع الأمل تحديًّا للموت لذلك أعلنت الساردة: ""لابد لي أن أرفض الموت"، وتأكيدًا على ذلك أعلنت "رسمية" أنها ستزرع أزهارًا في الساحة لمواجهة الموت الذي تفترضه قتامة الألوان ، لتقول الساردة:
"أصبح لدينا بعض الأزهار، وتميزت إحدى النباتات المتسلقة التي راحت تتسلق الجدار وتغطي أجزاء منه بخضرة يانعة، فأصبحت درة الساحة، نقف أمامها ونتأملها ونتشرب خضرتها ويناعتها" (النص ص 154).
والمرة الثانية التي تردد فيها دال الوردة جاء في سياق حديث الساردة عن "باولا" إحدى الأسيرات الهولنديات المناضلات التي دخلت السجن عام 1972 برفقة صديقها "ماركوت" بتهمة حمل رسائل لأحد فصائل منظمة التحرير. وقبل إطلاق سراحهما بيوم، قدمت باولا للأسيرات دفترًا به مذكراتها داخل السجن: "سمت مذكراتها أو لنقل رسائلها لنا "ثورة" بالأحرف العربية. وللتمويه على المراقبة، حولت كلمة "ثورة" إلى شكل وردة تخبئ بين بتلاتها الأحرف العربية" (النص ص171)
لتقترن دلالة الوردة هنا بالثورة / ثورة المرأة ضد السجان المغتصب، كما اقترنت سلفًا بدلالة التآزر، وهذا ما يتسق دلاليًا مع لوحة الغلاف حيث الزهرات المصطفات والباسقات ولعل عدم تفتح الزهرات يتسق مع دلالة الأسر والقيد.
الجنس الأدبي:
إذا كانت المؤلفة في مؤلفها "أحلام بالحرية" قد دونت على غلاف الكتاب كلمة "سيرة" والتي تعد ميثاقًا سرديًّا يتعرف من خلاله المتلقي جنس العمل الأدبي الذي بصدده، فإنه في كتابها الثاني لم تدون جنس كتابها على الغلاف الخارجي أو الداخلي، لكن الكاتبة في تنويه لها في مقدمة النص، تقول: بعد صدور كتابي "أحلام بالحرية"، تكررت إشارات الأصدقاء إلى أن الكتاب ظل دون نهاية، مما يعني ضرورة الاستمرار في سرد التجربة. ومنذ البداية شعرت بأن الملاحظة محقة، لذلك جاء هذا الكتاب استمرارًا لسرد الحكاية" .
الأمر الذي يقود المتلقي إلى تبيان جنس النص الأدبي باعتباره سيرة، وليس رواية أو أي جنس آخر، من خلال تلك الإشارة التي عدت نص "ثمنًا للشمس" بمثابة الجزء الثاني للسيرة الذاتية للكاتبة "أحلام بالحرية".
كما ناقشت د. سهام أبو العمرين أهم السمات التي تميز نص "ثمنًا للشمس" كما توقفت عن دلالة بعض المصطلحات الإشكالية، كالأدب النسوي، وأدب السجون وأدب الأسرى. وستصدر قريبًا دراسة وافية عن هذا العمل للكاتبة.
بعد أن أنهت الدكتورة سهام مداخلتها فتحت الأستاذة فتحية المجال لمداخلات الجمهور فكانت المداخلة الأولى من السيدة منال الزعانين قالت فيها: إن أدب السجون موجود من زمن قديم، فهو قديم قدم الحركة السجينة من الثورة البلشيفية وما قبلها، فكان أدبهم تعبيرا عن كونهم أصحاب رأي وقضية
أما عن كون الوردة ترمز للمرأة فهذا من أيام الإغريق، فتجد الوردة مرسومة في معابد أثينا كرمز للمرأة، أما العرب فأعتقد أنهم لا يتعاملون بهذا المنطق.
المداخلة الثانية كانت من الأستاذ محمود روقة قال فيها: التحية والتقدير لصالون نون الأدبي وكل الشكر للدكتورة سهام التي جاءت رغم مرضها
أما فيما يخص المناضلة عائشة عودة فهي فنانة تشكيلية وتتعامل مع الزهور المجففة، وتهتم بتنسيق الزهور كشكل من أشكال الحرية
ثم قال: إن القراءة السيميائية التي قدمتها الدكتورة سهام أعطتنا إضاءة لهذا العمل
ومن منظوري الشخصي أرى أن أدب الأسرى ينضوي تحت أدب السجون، فالسجين هو أسير سواء أكان أسير رأي أو حركة ثورية
وأضاف أن أدب السجون يطلق أيضا على غير الأسرى، فلو كان سجين جنائي ويمتلك ملكة ويكتب اجتماعيا أو عاطفيا فهو أدب
الأديب غريب عسقلاني كانت له مداخلة قال فيها: سأتكلم من زاوية أخرى: ألا يحق للسجين أن يخرج ولو بخياله من عتمة السجن ليعيش بخياله في فضاء الخارج، مع أهله وأحبته، يحضرني على هذا القول واقعة لأسير لازال في السجن ومحكوما عليه ثلاثين عاما أرسل لنا مجموعة قصصية وطلب مني مراجعتها، فاقترحت على الناشر أن ينشرها في سلسلة لأدب السجون، فاعترض الأسير وقال: أنا حزين لذلك، فنحن نعيش بخيالنا مع الأهل والمجتمع، لذا أكتب في الحب، وأقدم في كتاباتي نماذج إنسانية، ولا أريد أن تحشروني في زاوية أدب السجون، فهو جزء من الأدب الإنساني بكليته، فالأسير أسير حرية
الأستاذ عبد الكريم عليان قال في مداخلته: بداية فإن عدم توفر الكتاب بين أيدينا جعلنا نكتفي بالاستماع
لكنني أتساءل عن جندرية العمل الأدبي، لماذا نصف كتابات المرأة بأنها أدب نسوي، وكتابات الرجل بأنها أدب ذكوري، فهل هذا يعني أن الرجل لا يقرأ ما كتبته المرأة، وبالعكس؟ أرى أن جندرة الأدب يثير العنصرية
ثم عما أوردته الدكتورة من قول لطيفة الزيات بأن تحرير الوطن يؤدي لتحرير المرأة، فهل هذا القول ينطبق على كل الدول، فها هي السعودية تتمتع بالحرية، فهل تعتبر المرأة السعودية حرة؟
ثم الدنمارك التي لم تمنح المرأة حقوقها إلا منذ ثلاثين عاما رغم أنها حرة وليست محتلة
وعن أدب الأسرى وأدب السجون قال: لابد أن نتعرف للنص،ـ فإن كان النص عبارة عن تجارب من السجن نقلتها لنا المناضلة عائشة عودة، فالتجارب المنقولة من السجون طالما أنها قدمت لنا تجربة إنسانية تنطبق على الكثيرين تكون أدب سجون، أما لو هي تجربة خاصة بها فهو من باب السيرة الذاتية
أما المهندس سعدي أبو عابد فقال: لن أتناول موضوع عائشة ككاتبة، أنا فخور ولي الشرف بأني أعرف عائشة المناضلة من قبل عودتها لأرض الوطن
أرى أن عائشة في كتابها هذا أبرزت عناصر القوة ولم تأتي على عناصر الضعف، ليس تحيزا للرجل، لكن هذه من سماته
وكما قالت الأستاذة فتحية فإن من يرى عائشة يرى ابتسامتها، بينما بداخلها بركان
أعتقد أن رسالة من مناضلة بمستوى عائشة عودة عندما تقدم تجربة للأجيال القادمة هو من الأهمية بمكان
وأضاف: عاصرت عائشة مجموعة من المناضلات لا يقل صمودهن عن عائشة، لكن ما يميز عائشة هو تمردها، أنا عايشت عائشة ورأيت أن هناك هامشا من التمرد على الواقع عايشته عائشة
أخيرا أقول: إن عائشة مصدر فخر واحتفاء من جميع أهالي دير جرير، فلو عرفوا أنك قاصدا عائشة يصرون على استضافتك عندهم
المهندس عمر الهباش قال: أنا عاتب لعدم تزويدنا بنسخة من الرواية لنأتي ونحن على دراية بمحتواها
ثم قال: كل التحية والتقدير لجميع الأسيرات بدءا بأولهن وانتهاء بعهد التميمي، وتحية أخرى لجميع الشهداء بدءا بأول شهيد وانتهاء بالشهيد أحمد جرار
أما الدكتورة مي فقالت في مداخلة أخيرة، شكرا للدكتورة سهام، ونحن سعداء بعرض هذا الكتاب للأسيرة عائشة، ثم قالت: أود أن أتكلم عن تجربة نجريها في التدريب، عندما أطلب من المتدربين وضع رمزا بدلا من الاسم، أجد الرجال يضعون الثعلب والذئب، فيما تضع النساء الوردة رمزا لها
ثم قالت: في رسالتي عن الشاعرات الفلسطينيات لاحظت أن هناك لغة للمرأة تختلف عن لغة الرجل، لذا أسأل الدكتورة سهام: هل كتابة عائشة تختلف عن كتابة الأسير الرجل؟
هنا جاء دور الدكتورة سهام لتجمل ردودها فقالت: بالنسبة لمصطلح أدب السجون، أرى من منظوري الشخصي أنه من غير اللائق أن نطلق على ما يكتبه الأسير مسمى أدب السجون لأننا محتلون، وأسرانا أسرى نضال
ثم إن أدب السجون أدب متعارف عليه في الوطن العربي وله قواعده ويمارسه الكتاب السياسيون الذين خاضوا نضالاتهم ضد الحكام
أما بما يخص مصطلح النسوية أو أدب المرأة، ومصطلح النسوية من أكثر المصطلحات إشكالية، فحتى الآن لازال الالتباس قائما في تعاطيه لمصطلح النسوية، ثم إن الكتابة النسوية تختلف عن الكتابة الذكورية، فالأستاذ عبد الكريم لا يعرف لأنه ليس متخصصا، وأنا أتكلم عن علم لأني متخصصة، لست مع أدب رجالي وأدب نسائي، لكن مصطلح أدب نسوي هو مصطلح فكري أيديولوجي، فقد يكون الرجل مؤيدا للمرأة ومنصفا لها، فنصف كتابته بأنها نسوية، فالكتابة النسوية هي التي تحترم المرأة وتعتبر أنها لها كينونة مستقلة.
لقد ظهر الفكر النسوي في عالم ظنوا أنه حكر على الرجال، حتى في صياغة بعض العبارات
صحيح أن هناك بعض الكاتبات تكلمن عن لغة الجسد، وهناك بعض العبارات التي كانت صارخة، لكن ليس هذا ما نقصده ونطلق عليه الأدب النسوي.
إلى هنا اختتمت الأستاذة فتحية بشكر للكاتبة وآخر للناقدة، ثم شكر للحضور، وقالت: أختتم لقاءنا بقولي: إن عائشة عودة وزميلاتها دفعن في سجنهن الصغير سنوات من زهرة الشباب ثمنا لشمس الحرية، ونحن أيضا دفعنا ولازلنا ندفع ونحن في سجننا الكبير ثمنا باهظا ليوم تشرق به شمسنا، لكننا لمّا نحصل عليها بعد.
عند الثالثة والنصف من بعد عصر الثلاثاء الموافق السادس من فبراير التأم جمع صالون نون الأدبي في لقاء جديد
افتتحت الأستاذة فتحية إبراهيم صرصور اللقاء مرحبة بالضيوف والضيفة فقالت
الحضور الكريم... رواد صالون نون الأدبي أهلا بكم ومرحبا، أهلا بكم وقد جئتم
احتفاء بكتاب، وتكريما لكاتبة
لكن اسمحوا لي بالأصالة عن صالون نون الأدبي وبالنيابة عنكم أن نستمطر الرحمات على روح الشهيد البطل أحمد ناصر جرار الذي ارتقى إلى العلى في هذا اليوم، تقبله المولى شهيدا، وجعلنا على دربه مقبلين غير مدبرين
ثم قالت: كتابنا لهذا اليوم ليس كأي كتاب، إنه زاد معرفة وبيان وتوضيح لحياة لم يعشها الكثيرون منّا،
وكاتبة ليست كأي كاتبة، إنها أسيرة محررة، سكبت لنا آهات السجينات مدرارة، وأطلعتنا على معاناتهن
لكنها لم تقف عند هذا الحدّ، لقد أيقظت فينا الأمل، فالسجن مدرسة وثبات وصمود، به تتحول المعاناة لمقاومة، لكنها مقاومة من نوع آخر، فضحكات الأسيرات تزعج العدو، وثقافتهن تؤرق مضجعه
كتابنا لهذا اليوم بعنوان (ثمنا للشمس) وكاتبتنا هي عائشة عودة
بعد مرور ثلاثين عاما على تنسمها عبير الحرية انكبت عائشة على الكتابة، تفرغ بها من معين ذكرياتها الزاخر بالمواقف والأحداث؛ فمن لحظة انكسار، ولحظات قوة وصمود وتحدي
في العام 2004م صدر كتابها الأول (أحلام بالحرية) وناقشناه هنا في صالون نون الأدبي في العام 2008م-
ولما لم يتسع الكتاب لجُل ما رأته وعاشته هي والأسيرات في السجن، كان كتابها الثاني استكمالا لم لم يتسع له الكتاب الأول، وقبل أن نفتح صفحات كتابها الثاني نعرج للتعريف بعائشة عودة لمن لا يعرفها
ولدت عائشة في العام 1944م في قرية دير جرير بمحافظة رام الله، توفي والدها وهاجر أخوها لأمريكا، فكانت هي السند والعون للأسرة، عملت كمدرسة لمادتي العلوم والرياضيات، وكانت تغرس في نفوس طالباتها الثورة والقضية فكانت عبارة (صباح الخير يا فاطمة!) هي مفتتح الحصة لديها عقب اعتقال فاطمة البرناوي وسجنها، سنة 1967، والحكم عليها بالمؤبد.
بعد حرب العام 1967م انضمت عائشة لصفوف المقاومة، وعلى خلفية نضالية اعتقلت في مطلع شهر مارس من العام 1969م، وحكم عليها بمؤبدين وعشر سنوات، أمضت في السجن عشر سنوات، إلى أن كانت صفقة النورس - أول عملية تبادل للأسرى بين منظمة التحرير ممثلة بالجبهة الشعبية – القيادة العامة” ودولة الاحتلال
بعد عشر سنوات من اعتقالها، سطعت الشمس، وأفرج عن فاطمة وأكثر من سبعين أسير وأسيرة من بينهم عائشة
فكانت الحرية لعائشة لكنها حرية مشروطة بالإبعاد، حيث أبعدت في مارس من العام 1979م للمملكة الأردنية الهاشمية، ويظل الأمل منبعثا في داخلها بأنها حتما ستعود فعادت مع قدوم السلطة الفلسطينية في العام 1994م، وهي عضو المجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1981.
أنجزت عائشة عودة مجموعة من الكتابات التي متحت لها من ذاكرتها، فوثقت لمعلومات وبوصف دقيق لعالم واسع ومليء بالحكايات، أهمها:
أحلام بالحرية 2004، - “تجربة الكتابة” في: نوافذ في جدار الصمت: أصوات نساء في الانتفاضة 2005 - يوم مختلف-قصص قصيرة 2007 - “زمن العودة” في: عادلة العايدي-هنية 2008 - ثمناً للشمس 2013م
وهي تهيب بزملائها على اختلاف جنسهم ممن مروا بتجربة الاعتقال إلى كتابة رواياتهم وتجربتهم كي تكون دليلا على جرائم الاحتلال، فالكتابة عن السجن وجعٌ، لكنّ الصمت وعدم الكتابة سيكون أكثرَ ألمًا.
أما كتابنا لهذا اليوم (ثمنا للشمس) به تتحدث الكاتبة عن معاناة الأسيرات في السجن، فرصدت بعضا مم كن يصادفنه، وكيف كان السجان يعمد لقهرهن وإذلالهن وجعلهن مادة للتندر عليهن
فتحكي لنا في كتابها قصة ذاك الجندي المنزرع كرهنا من رأسه لأخمص قدميه، يأتي بجندب ويطلب من الأسيرة أن تأكله، وعندما رفضت رغم إصراره، يتحول لابنة عمها ويطلب منها ذات الطلب، وإن كانت عائشة رفضت بصوت خفيض، إلا أن رسمية عودة كان رفضها بصوت أعلى وأشد، ليتحول للثالثة عزية وزوز التي صرخت في وجهه صرخة مدوية نشرت القوة الكامنة في أعماقهن، وعندما حاول الجندي ضربها بالبندقية واجهنه وتصدين له، فكان لتلك الواقعة كبير أثر عليهن، فامتلأن جميعا قوة وإصرار
في مفارقة تشعرنا عائشة أن كل لحظة من اللحظات التي عشنها في السجن تزخر بالمعاناة والقوة، وإن كانت تتحدث عن المعاناة فما هي إلا ممر للحديث وإثبات صمود الأسيرات، فكان الأسر هو الميدان الذي تجلت به بطولات الأسيرات وصمودهن، ليضربن أروع الأمثال
في السجن يَطَلّع الأسير على مجتمع الاحتلال المنحل، وجيشه الهش، الذي لا يمتلك من القوة إلا قوة السلاح
في كتاب عائشة حقائق غفل عنها الساسة والقادة، فحرب أكتوبر عام 1973م جعلت الصهاينة ينتظرون قدوم جحافل العرب، لينقلب السجين لسجان، لكن التخاذل جذبهم للخلف، فامتطت إسرائيل صهوة القوة، وركع المتخاذلون، فسخروا أنفسهم لخدمتها
وفي واحدة من لقطاتها تقول: “أطل وجه فتاة من كوة الباب .. بصقت علينا وأسمعتنا شتائم رافقتها حركات بذيئة .. وجوه تطل تهدد وتسب “عربيوت ملخلخوت” أي “عربيات قذرات”.
هذه الصهيونية طلبت منهن أن يكن رفيقات بها عندما ينتصر العرب، وتصبح هي السجينة وهن السجانات، لقد انقلبت من وحش كاسر إلى إنسانة وديعة مسالمة، بعد أن شعرت بأن أيام دولتها أصبحت معدودة أثناء حرب أكتوبر 1973م
عائشة لا تحب كلمة «سجينة» أو «أسيرة»، تلفظها وترفضها، كما أرسلت لفدوى طوقان التي بعثت إليها بقصيدة مهداة «إلى السجينة عائشة عودة». تقول عائشة إن سنوات السجن استمرار للنضال لكن بوسائل أخرى، وفي مكان آخر لقد كانوا "يقتلون" جلادّيهم بالصمت والسخرية، أو بإظهار الفرح كما فعلت عائشة ورفيقاتها، كما كان الإضراب عن الطعام أرقى حالات التمرّد، وسلاحًا في معركة الإرادة.
أيضا حولت السجينات السجن لمدرسة، فمن محو للأمية لتعليم اللغة الإنجليزية والعبرية، ثم نجدهن يصدرن مجلّة، إيمانا منهن بـــ "أن البندقية بلا ثقافة، تتحول إلى بندقية مأجورة"
ساهمت عائشة بتثقيف زميلاتها في الأسر فكتبت مجموعة قصص “أرض البرتقال الحزين” لغسان كنفاني فيما كتبت رسمية عودة ملخصا لرواية “الأم” لمكسيم غوركي، وسجلن الكثير من الأشعار والحكم والأقوال التي تحفظها ىإحد عشرة أسيرة.
**
وهي تتصدى لإشاعات المحتل، لقد كتبت فدوى طوقان في عائشة عودة، وفي إشارة إلى حرب الإشاعات التي ينشرها الاحتلال كي يحد من النشاط المقاوم خاصة من النساء فقالت: من قصيدة في المدينة الهرمة
رسالة عائشة تستريح على مكتبي* ونابلس ذاهلة والحياة كليلة
يبادلني خاتم السجن صمتاً فصيحاً (يقول لها حارس السجن إنّ الشجر
تساقط والغابة اليوم لا تشتعل/ ولكنّ عائشة ما تزال تصرّ على القول
إن الشجر كثيف ومنتصب كالقلاع، وتحلم بالغابة التي تركتها تؤجّ بنيرانها
قبل خمس سنين/ وتسمع في الحلم زمجرة الريح بين المعابر
تقول لسجّانها: لا أصدق، كيف اصدّق من جاء من صُلبهم؟
تظلّون يا حارسي أنبياء الكذب
وتقبع في ظلمة السجن تحلم يظلّها الشجر المنتصب
وتفرحها غابةٌ في البعيد تصلصل فيها سيوف اللهب
فيها سيوف اللهب/ وتحلم عائشة ثم تحلم
كما تتجلى لنا ثورة عائشة الثائرة التي تسعى لتحرير الإنسان والأرض، في موقفها من المحامي الذي يلومها على نضالها، فتعجب كيف يجرؤ على مخاطبتها قائلاً: “ما كان لك أن تزجي بنفسك في السياسة وتدخلي السجن، كان من الأفضل لك البقاء في بيتك لتعيشي حياتك مثل باقي الفتيات فذلك خير من أن تكوني سجينة”.
فردت قائلة: هذا ما يريده المحتل، لست سجينة، انأ أكثر حرية من عشرات الملايين من نساء ورجال أمتك العربية الذين يقبعون في بيوتهم مكبلين بخوفهم، هم السجناء لا أنا، كان من الأجدى أن تدعو هؤلاء كي يتحرروا من خوفهم مثلي لا أن تدعوني كي أصير مثلهم.
فهي تقاوم المحتل، والمتخاذل في آن واحد
عائشة لا تنسب كتابها لجنس أدبي، فلا تصفه برواية أو نص، وتركت الأمر للمتلقي، لأن ما يعنيها هو أن تنقل تجربتها، وتفرغ معين ذكرياتها من ناحية، وتزيل القناع الذي يربض خلفه محتل ضعيف، لا يمتلك شجاعة ولا أخلاقا، من ناحية أخرى
أخيرا أقول: إن اهتمامنا في صالون نون الأدبي بالأسرى والأسيرات وتكريمهم لم يكن موقفا عابرا، لقد استضفنا العديد من الأسرى وتحدثنا عن ابداعاتهم: فكان لنا لقاء بالأسير المحرر الدكتور معاذ الحنفي، ووضعنا كتاب أحلام بالحرية لعائشة عودة على منصة الصالون، واحتفينا برواية الأسير رقم الذي لازال قابعا في أقبية السجون، وفتحنا ملفا كاملا بجلسات ثمان، استضفنا من خلاله الأسيرات المحررات وسجلت كل منهن تجربتها مع السجن وذكرياتها فيه
فلهم في أعناقنا دين، وفي قلوبنا محبة، وهم تيجان على رؤوسنا
بعد أن أنهت الأستاذة فتحية حديثها قالت: نستضيف اليوم ناقدة أثرت جلسات صالون نون الأدبي بالنقد الأدبي الواعي والمميز، فلها كل الشكر والتقدير، وشكر آخر لالتزامها بموعد جلستنا رغم ما تعانيه من ألم تعالت عليه لتفي لصالون نون الأدبي ورواده بموعد ثقافي
ثم تمنياتي لها بالشفاء العاجل والمعافاة من كل ما يؤذيها
والآن قبل أن أحيل الكلمة للدكتورة سهام اسمحوا لي أن أقرأ رسالة أرسلتها لكم الأستاذة عائشة، وكانت خطتنا أن نفتح معها خطا هاتفيا لتستمعوا لها، إلا أن ظروفها لم تسمح بذلك فأرسلت لكم كلماتها مكتوبة
الأخت العزيزة الأستاذة فتحية صرصور المحترمة،
الإخوة والأخوات الحضور الكريم،
مع انبلاج خيوط هذا الصباح، كانت تنبلج إضاءات تنبعث من دماء أحمد (العربي) المتفجرة كينابيع الأرض جميعا من على أرض اليامون، من على أرض فلسطين، معلنة هذه الدماء كما دماء جميع الشهداء؛ أن الحق في فلسطين باق ما دامت فينا دماء، وستزهر عاجلا أم آجلا حرية وكرامة وعزة وسلاما قواعده العدالة.
ومع تحية دماء الشهداء، أرسل لكم تحية معطرة بعبير أكناف بيت المقدس، سلاما عزيزا لغزة هاشم، لغزة الأبية. أنتم يا من تقهرون المستحيل، وتحيلون الركام إلى إضاءات ثقافية، تضيء الوعي المقاوم، وتبني روح الصمود والمقاومة.
الإخوة والأخوات
كنت أتمنى أن أكون اليوم معكم بكينونتي الكاملة. لكني معكم بروحي. ويسعدني تناولكم كتاب "ثمنا للشمس". أتمنى لكم معه صحبة ممتعة ومضيئة، وحوارات تنتج المزيد من الإضاءات للروح والوعي. فثمنا للشمس ليس كتاب بكائيات، لكنه رصد تلألؤات روح طليعة من نساء فلسطين، رفضن الهزائم، وامتشقن إرادة الفعل التي لا تهن أمام التحديات والسجون والسجان، لكنها تستمر في امتشاق إرادة المقاومة والفعل. فتؤسس نواة دولة فلسطين من داخل السجن، من على أرض الرملة، من قلب فلسطين، وتهزم السجان بروحه وتحوله إلى سجين يحمل الأصفاد في قلبه وروحه. وتبقي المعادلة بأن الحق الذي يتمسك أصحابه به هو أقوى من كل أسلحة الظلم والعدوان.
عاشت إرادة شعبنا في المقاومة والحرية، حتى تنتصر إرادة حقنا وحريتنا فوق أرضنا
ودامت مساهماتكم الواعية في ثقافة ووعي أجيالنا.
عائشة عودة.
6. 2. 018
هنا بدأت الدكتورة سهام مقدمة الشكر والتحية لصالون نون الأدبي الذي يحرك الماء الراكد في الثقافة في قطاع غزة، فتحية للصالون ممثلا برائدتيه الأستاذة فتحية والدكتورة مي
ثم قالت: يعد كتاب "ثمنًا للشمس" الذي صدر في طبعته الأولى عام 2012 الجزء الثاني من السيرة الذاتية للكاتبة "عائشة عودة" التي عنونت بأحلام للحرية" والتي سجلت فيه تجربة التحقيق والاعتقال، وقد فاز الكتابان بجائزة مؤسسة ابن رشد ابن رشد للفكر الحر عام 2015 عن فئة أدب السجون. وللكاتبة تجربة قصصية سابقة إذ أصدرت المجموعة القصصية "يوم مختلف" عام 2007..
قدمت الكاتبة سيرتها النضالية في سجون الاحتلال الإسرائيلي بوعي نافذ وقدرة مدهشة على الإمساك بتلابيب اللحظة المنقضية والقبض على التفصيلات في سرد متماسك، لم تعتمد الكاتبة على رصد الوقائع الخارجية وتوثيق تجربتها النضالية داخل الأسر فحسب بلغة تقريرية كما نعهد في فن كتابة السير الذاتية المعتادة، بل قدمت محكيها في ثوب روائي جاذب، ولغة أدبية رشيقة، تقول في مقدمة كتابها: :"مادة هذا الكتاب، ومادة الكتاب الأول كانت مسجلة في دفاتري بخط يدي منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي، لكني لم أشأ إخراجها بلغتها الجافة التقريرية والتوثيقية، بل حلمت بكتابتها بلغة حية، كما التجربة ذاتها، يكون فيها صراع وانتصار وانكسار وذبول وتلألؤ وغوص في العمق، لا مجرد أحداث تسجل" .
مساهمة عائشة عودة بكتابيها قد أثرى نمط أدب الأسرى الذي يعد رافدًا أساسًّيا من روافد الأدب المقاوم، وقد تقاطعت كتابة عائشة عودة مع المنظور النسوي حيث توافقت شخصية الساردة والشخصيات النسوية الأخريات في نص "ثمنًا للشمس" مع المنظور النسوي الذي يرى في المرأة كائنا واعيا وفاعلا، وقد ناقشت د. سهام مستويات العلاقة بين المنظور النسوي وما طرحته عائشة عودة في النص حيث إرادة التحدي والقوة والفاعلية للمرأة الأسيرة التي غيرت المعادلة وانتقلت من بؤرة الضعف والاستكانة التي يفترضها السجان على جسد وروح السجين إلى روح القوة وعدم الرضوخ، حتى أن الساردة لم تقيدها جدران الأسر بل حولت ساحة السجن لمعترك فكري بالنقاش الثقافي مع قريناتها الأسيرات وبالكتابة والتمثيل المسرحي والقراءة المستمرة حتى أن مفهوهها للحرية قد اختلف كما أن رؤيتها ووعيها قد تغير وتشكل داخل جدران السجن ولا سيما بعد قراءتها لكتاب "العلم والناس والمجتمع" لمجموعة من الكتاب السوفييت والذي يتناول مفهومي الجدلية المادية والجدلية التاريخية، ليتشكل لديها وعي جديد في رؤيتها للعالم والوجود جعلتها تساءل أفكارها السابقة. لقد كان الأسر محفزا للذات وعنصر بناء لا هدم للذات الساردة التي بدت شامخة قوية ترفض الانصياع لأي أمر يناهض مبادئها وأفكارها، تناقش السجان الذي عجز عن "تحويلها إلى متصهينة"، تقول الساردة إثر مقابلتها لإحدى الضيفات البريطانيات التي تعجبت من دخولها السجن رغم أن "إسرائيل" توفر للجميع كل المتطلبات الغذائية لتصفعها الساردة وتقحمها بالرد على أنها تناضل من أجل جرية الوطن:
"استشاط غضبها (أي الضيفة) وتوجهت إلى "المديرة" تحدثها بعصبية، معتبرة أن ذلك دليل تقصيرها، فكيف لم تنجح بعد في تحويلي إلى صهيونية رغم وجودي عندها على مدى أكثر من سنتين؟".
رفضت الساردة لقب سجينة لأنها تصر أنها مناضلة سياسية وليست "سجينة" ولعل القصيدة التي أرسلتها "فدوى طوقان" إليها وأهدتها "للسجينة عائشة عودة" ما أثار حزنها، وبعد ذلك عقبت د. سهام وناقشت إشكالية المصطلح " أدب السجون" و "أدب الأسرى" والفرق بينهما، وقد حصرت مفهوم أدب الأسرى بالأدب الذي يصدره الفلسطيني من داخل الأرض المحتلة.
تكون النص من اثنتي وثلاثين عنوانا أساسيّا وعشرات العناوين الفرعية وعبر هذه العناوين انتظم المحكي وتنقلت الساردة بسلاسة من حدث لآخر ساردة ًأهم المواقف المؤثرة في تاريخ تجربتها الأسيرة.
عتبات النص:
عتبات النص والتي تتمظهر في العناوين، المقدمات، الذيول، الملاحق، كلمات الناشر، دور النشر، والكلمات الموجودة على الغلاف، إلى جانب الهوامش والشروح والتعليقا لها من الأهمية ما يضفي المعنى والدلالة على النص فلا يصح القفز عنها فهي إشارات دالة تكاد توازي من حيث القيمة البلاغية والإبلاغية، قيمة المتن نفسه
1- سيميائية العنوان - ثمنًا للشمس:
عنوانُ أي نص أدبي بنيةٌ سيميائية لها من الدلالة ما يضيء جنبات النص بما ينسجه من علاقات تناصية مع بنية النص العميقة، هو خطاب موجز مشحون بطاقات تعبيرية وجمالية ورمزية لا يمكن القفز عنها، فهو ليس معطى سلبيًّا مفرغًا من الدلالة بل مفتاحًا أوليًّا وأول العتبات المعمارية التي يدلف منها القارئ للنص لكشف كنهه واستجلاء دلالته.
"ثمنًا للشمس" جملة مكونة من مفعول لأجله "ثمنًا" والجار والمجرور "للشمس/ الحرية" لفعل وفاعل ومفعول به محذوفين يمكن تقديرهم بـ "ندفع أرواحنا ثمنًا للشمس"، ليؤسس العنوان لدلالة مبدئية وهي الإصرار على المقاومة والنضال والتحدي في سبيل الحرية مهما كلف الأمر. وقد ورد العنوان بصيغته في متن النص في عنوان فرعي معنون بـ "ندفع ثمنًا للشمس".
2- لوحة الغلاف:
هي علامة غير لغوية تتضمن رسالة بصرية تنقل للمتلقي الأفكار والانفعالات بلغة الشكل، واللون، والخط، والظل، ف"الصورة من شأنها أن تضيف شيئًا إلى النص" كما يقول " عبد الفتاح كليطو"، ولكي تحقق لوحة الغلاف وظيفتها الناجعة في نقل الدلالة لابد أن تكون جاذبة للانتباه ومثيرة لخيال المتلقي الذي لا يلبث أن ينتقل من تلك العلامة البصرية إلى العلامة اللغوية لينسج الخيوط الدلالية بين كل عناصر النص.
ولوحة الغلاف من رسم المؤلفة ذاتها "عائشة عودة" التي رسمت صور أغلفة نصوصها الثلاثة: "يوم مختلف"، و"أحلام بالحرية"، و"ثمنًا للشمس" وتشترك أغلفتها الثلاث في استلهام عالم الزهور كمادة للوحاتها، وزهور غلاف نص "ثمنًا للشمس" باسقات مصطفات بجانب بعضها البعض يغلب عليها اللون الأقحواني بتدرجاته واللون الزيتي لأوراقها، ولكن يلحظ أن هذه الزهرات غير متفتحة.
وقد ورد دال الزهرة أو الوردة في المتن النصي مرتين، الأولى عندما انتقلت الأسيرات من القسم (أ) بألوانه الخضراء المضيئة إلى قسم (ب) حيث اللون الرمادي الذي يثير الكآبة، لتقول الساردة: "لقد اكتشفنا أن اللون يمكن أن يكون أداة عدوان!" (النص ص154)، لتقول بعد دخولها وزميلاتها الأسيرات الغرف الباردة: "قبل أن نرتب أغراضنا، التففنا حول بعضنا كما تفعل وريقات وردة، وانطلقت حناجرنا بأغانينا الثورية إلى أن تحررنا من أسر الكآبة، وفاضت حماستنا وأعلنا: نعمر المكان بإرادتنا" (النص ص 154).
ودال الوردة كما هو في المرويات العربية اقترن بالمرأة إذ يشتركان في الرقة والجمال، وهذه من التشبيهات الأثيرة عند الشعراء العرب قديمًا وحديثًا، ولكن هذا الاقتران لا يستدعي معنى الضعف بل وظف في سياق القوة والتآزز واستبقاء الحلم بالأمل، فالأسيرات "التففن حول بعضهن كما تفعل وريقات وردة" وهذا يستدعي معنى الألفة والتعاضد والرغبة في استزراع الأمل تحديًّا للموت لذلك أعلنت الساردة: ""لابد لي أن أرفض الموت"، وتأكيدًا على ذلك أعلنت "رسمية" أنها ستزرع أزهارًا في الساحة لمواجهة الموت الذي تفترضه قتامة الألوان ، لتقول الساردة:
"أصبح لدينا بعض الأزهار، وتميزت إحدى النباتات المتسلقة التي راحت تتسلق الجدار وتغطي أجزاء منه بخضرة يانعة، فأصبحت درة الساحة، نقف أمامها ونتأملها ونتشرب خضرتها ويناعتها" (النص ص 154).
والمرة الثانية التي تردد فيها دال الوردة جاء في سياق حديث الساردة عن "باولا" إحدى الأسيرات الهولنديات المناضلات التي دخلت السجن عام 1972 برفقة صديقها "ماركوت" بتهمة حمل رسائل لأحد فصائل منظمة التحرير. وقبل إطلاق سراحهما بيوم، قدمت باولا للأسيرات دفترًا به مذكراتها داخل السجن: "سمت مذكراتها أو لنقل رسائلها لنا "ثورة" بالأحرف العربية. وللتمويه على المراقبة، حولت كلمة "ثورة" إلى شكل وردة تخبئ بين بتلاتها الأحرف العربية" (النص ص171)
لتقترن دلالة الوردة هنا بالثورة / ثورة المرأة ضد السجان المغتصب، كما اقترنت سلفًا بدلالة التآزر، وهذا ما يتسق دلاليًا مع لوحة الغلاف حيث الزهرات المصطفات والباسقات ولعل عدم تفتح الزهرات يتسق مع دلالة الأسر والقيد.
الجنس الأدبي:
إذا كانت المؤلفة في مؤلفها "أحلام بالحرية" قد دونت على غلاف الكتاب كلمة "سيرة" والتي تعد ميثاقًا سرديًّا يتعرف من خلاله المتلقي جنس العمل الأدبي الذي بصدده، فإنه في كتابها الثاني لم تدون جنس كتابها على الغلاف الخارجي أو الداخلي، لكن الكاتبة في تنويه لها في مقدمة النص، تقول: بعد صدور كتابي "أحلام بالحرية"، تكررت إشارات الأصدقاء إلى أن الكتاب ظل دون نهاية، مما يعني ضرورة الاستمرار في سرد التجربة. ومنذ البداية شعرت بأن الملاحظة محقة، لذلك جاء هذا الكتاب استمرارًا لسرد الحكاية" .
الأمر الذي يقود المتلقي إلى تبيان جنس النص الأدبي باعتباره سيرة، وليس رواية أو أي جنس آخر، من خلال تلك الإشارة التي عدت نص "ثمنًا للشمس" بمثابة الجزء الثاني للسيرة الذاتية للكاتبة "أحلام بالحرية".
كما ناقشت د. سهام أبو العمرين أهم السمات التي تميز نص "ثمنًا للشمس" كما توقفت عن دلالة بعض المصطلحات الإشكالية، كالأدب النسوي، وأدب السجون وأدب الأسرى. وستصدر قريبًا دراسة وافية عن هذا العمل للكاتبة.
بعد أن أنهت الدكتورة سهام مداخلتها فتحت الأستاذة فتحية المجال لمداخلات الجمهور فكانت المداخلة الأولى من السيدة منال الزعانين قالت فيها: إن أدب السجون موجود من زمن قديم، فهو قديم قدم الحركة السجينة من الثورة البلشيفية وما قبلها، فكان أدبهم تعبيرا عن كونهم أصحاب رأي وقضية
أما عن كون الوردة ترمز للمرأة فهذا من أيام الإغريق، فتجد الوردة مرسومة في معابد أثينا كرمز للمرأة، أما العرب فأعتقد أنهم لا يتعاملون بهذا المنطق.
المداخلة الثانية كانت من الأستاذ محمود روقة قال فيها: التحية والتقدير لصالون نون الأدبي وكل الشكر للدكتورة سهام التي جاءت رغم مرضها
أما فيما يخص المناضلة عائشة عودة فهي فنانة تشكيلية وتتعامل مع الزهور المجففة، وتهتم بتنسيق الزهور كشكل من أشكال الحرية
ثم قال: إن القراءة السيميائية التي قدمتها الدكتورة سهام أعطتنا إضاءة لهذا العمل
ومن منظوري الشخصي أرى أن أدب الأسرى ينضوي تحت أدب السجون، فالسجين هو أسير سواء أكان أسير رأي أو حركة ثورية
وأضاف أن أدب السجون يطلق أيضا على غير الأسرى، فلو كان سجين جنائي ويمتلك ملكة ويكتب اجتماعيا أو عاطفيا فهو أدب
الأديب غريب عسقلاني كانت له مداخلة قال فيها: سأتكلم من زاوية أخرى: ألا يحق للسجين أن يخرج ولو بخياله من عتمة السجن ليعيش بخياله في فضاء الخارج، مع أهله وأحبته، يحضرني على هذا القول واقعة لأسير لازال في السجن ومحكوما عليه ثلاثين عاما أرسل لنا مجموعة قصصية وطلب مني مراجعتها، فاقترحت على الناشر أن ينشرها في سلسلة لأدب السجون، فاعترض الأسير وقال: أنا حزين لذلك، فنحن نعيش بخيالنا مع الأهل والمجتمع، لذا أكتب في الحب، وأقدم في كتاباتي نماذج إنسانية، ولا أريد أن تحشروني في زاوية أدب السجون، فهو جزء من الأدب الإنساني بكليته، فالأسير أسير حرية
الأستاذ عبد الكريم عليان قال في مداخلته: بداية فإن عدم توفر الكتاب بين أيدينا جعلنا نكتفي بالاستماع
لكنني أتساءل عن جندرية العمل الأدبي، لماذا نصف كتابات المرأة بأنها أدب نسوي، وكتابات الرجل بأنها أدب ذكوري، فهل هذا يعني أن الرجل لا يقرأ ما كتبته المرأة، وبالعكس؟ أرى أن جندرة الأدب يثير العنصرية
ثم عما أوردته الدكتورة من قول لطيفة الزيات بأن تحرير الوطن يؤدي لتحرير المرأة، فهل هذا القول ينطبق على كل الدول، فها هي السعودية تتمتع بالحرية، فهل تعتبر المرأة السعودية حرة؟
ثم الدنمارك التي لم تمنح المرأة حقوقها إلا منذ ثلاثين عاما رغم أنها حرة وليست محتلة
وعن أدب الأسرى وأدب السجون قال: لابد أن نتعرف للنص،ـ فإن كان النص عبارة عن تجارب من السجن نقلتها لنا المناضلة عائشة عودة، فالتجارب المنقولة من السجون طالما أنها قدمت لنا تجربة إنسانية تنطبق على الكثيرين تكون أدب سجون، أما لو هي تجربة خاصة بها فهو من باب السيرة الذاتية
أما المهندس سعدي أبو عابد فقال: لن أتناول موضوع عائشة ككاتبة، أنا فخور ولي الشرف بأني أعرف عائشة المناضلة من قبل عودتها لأرض الوطن
أرى أن عائشة في كتابها هذا أبرزت عناصر القوة ولم تأتي على عناصر الضعف، ليس تحيزا للرجل، لكن هذه من سماته
وكما قالت الأستاذة فتحية فإن من يرى عائشة يرى ابتسامتها، بينما بداخلها بركان
أعتقد أن رسالة من مناضلة بمستوى عائشة عودة عندما تقدم تجربة للأجيال القادمة هو من الأهمية بمكان
وأضاف: عاصرت عائشة مجموعة من المناضلات لا يقل صمودهن عن عائشة، لكن ما يميز عائشة هو تمردها، أنا عايشت عائشة ورأيت أن هناك هامشا من التمرد على الواقع عايشته عائشة
أخيرا أقول: إن عائشة مصدر فخر واحتفاء من جميع أهالي دير جرير، فلو عرفوا أنك قاصدا عائشة يصرون على استضافتك عندهم
المهندس عمر الهباش قال: أنا عاتب لعدم تزويدنا بنسخة من الرواية لنأتي ونحن على دراية بمحتواها
ثم قال: كل التحية والتقدير لجميع الأسيرات بدءا بأولهن وانتهاء بعهد التميمي، وتحية أخرى لجميع الشهداء بدءا بأول شهيد وانتهاء بالشهيد أحمد جرار
أما الدكتورة مي فقالت في مداخلة أخيرة، شكرا للدكتورة سهام، ونحن سعداء بعرض هذا الكتاب للأسيرة عائشة، ثم قالت: أود أن أتكلم عن تجربة نجريها في التدريب، عندما أطلب من المتدربين وضع رمزا بدلا من الاسم، أجد الرجال يضعون الثعلب والذئب، فيما تضع النساء الوردة رمزا لها
ثم قالت: في رسالتي عن الشاعرات الفلسطينيات لاحظت أن هناك لغة للمرأة تختلف عن لغة الرجل، لذا أسأل الدكتورة سهام: هل كتابة عائشة تختلف عن كتابة الأسير الرجل؟
هنا جاء دور الدكتورة سهام لتجمل ردودها فقالت: بالنسبة لمصطلح أدب السجون، أرى من منظوري الشخصي أنه من غير اللائق أن نطلق على ما يكتبه الأسير مسمى أدب السجون لأننا محتلون، وأسرانا أسرى نضال
ثم إن أدب السجون أدب متعارف عليه في الوطن العربي وله قواعده ويمارسه الكتاب السياسيون الذين خاضوا نضالاتهم ضد الحكام
أما بما يخص مصطلح النسوية أو أدب المرأة، ومصطلح النسوية من أكثر المصطلحات إشكالية، فحتى الآن لازال الالتباس قائما في تعاطيه لمصطلح النسوية، ثم إن الكتابة النسوية تختلف عن الكتابة الذكورية، فالأستاذ عبد الكريم لا يعرف لأنه ليس متخصصا، وأنا أتكلم عن علم لأني متخصصة، لست مع أدب رجالي وأدب نسائي، لكن مصطلح أدب نسوي هو مصطلح فكري أيديولوجي، فقد يكون الرجل مؤيدا للمرأة ومنصفا لها، فنصف كتابته بأنها نسوية، فالكتابة النسوية هي التي تحترم المرأة وتعتبر أنها لها كينونة مستقلة.
لقد ظهر الفكر النسوي في عالم ظنوا أنه حكر على الرجال، حتى في صياغة بعض العبارات
صحيح أن هناك بعض الكاتبات تكلمن عن لغة الجسد، وهناك بعض العبارات التي كانت صارخة، لكن ليس هذا ما نقصده ونطلق عليه الأدب النسوي.
إلى هنا اختتمت الأستاذة فتحية بشكر للكاتبة وآخر للناقدة، ثم شكر للحضور، وقالت: أختتم لقاءنا بقولي: إن عائشة عودة وزميلاتها دفعن في سجنهن الصغير سنوات من زهرة الشباب ثمنا لشمس الحرية، ونحن أيضا دفعنا ولازلنا ندفع ونحن في سجننا الكبير ثمنا باهظا ليوم تشرق به شمسنا، لكننا لمّا نحصل عليها بعد.