كيف انتصر الشعب الفيتنامي على أمريكا؟
2017-10-24 (12:33 PM)
طلعت رضوان
أعتقد أنّ تجربة الشعب الفيتنامي في الحرب التي خاضها ضد قوات الإحتلال الأمريكي، طوال عدة سنوات، ومع مراعاة الفوارق الجوهرية بين إمكانيات القوات الأمريكية وإمكانيات الشعب الفيتنامي، ومراعاة أنّ أمريكا خرجتْ بعد الحرب العالمية الثانية، باعتبارها أقوى دولة فى العالم، ليس هذا (فقط) وإنما قرّر رؤساء أمريكا فى ذاك الوقت (مثل أيزنهاور ومن جاء بعده) احتلال العديد من الدول لنهب مواردها، وكان مصير فيتنام المأساوي أنْ يكون الإحتلال مباشرًا – أي ليس عن طريق الاستغلال السياسي والاقتصادي (كما فعلتْ مع بعض الأنظمة التى وافق رؤساؤها على التبعية المطلقة للرأسمالية العالمية) واختلف الأمر مع فيتنام حيث احتلال الأرض لتكون السيطرة كاملة، بعد أنْ أدركتْ الإدارة الأمريكية أنّ الزعيم الفيتنامي هوشي– منه لن يكون مثل غيره من رؤساء الدول الذين لديهم (قبول التبعية للاستعمار)
تمثـــلتْ عظمة الشعب الفيتنامي في عدة اعتبارات:
الاعتبار الأول: أنّ القوات الأمريكية أشعلتْ النار في الحقول المزروعة بالخضروات والفاكهة، ولم تترك حقلا إلاّ وأحرقته. وأنّ هذه الحرائق شملتْ كافة المرافق الأساسية، مثل محطات المياه والكهرباء والكباري والصرف الصحي والمصانع..إلخ، ورغم ذلك استمرّتْ الحياة واستمرّتْ المقاومة.
الاعتبار الثانى: أنّ روح المقاومة لدى الشعب الفيتنامي أملتْ عليه أنْ يتواكب مع مقاومة جيش الاحتلال (تحسين ظروف المعيشة قدر الإمكان) فالحقل المحروق يتم إعادة تخصيبه أو البحث عن أرض بديلة تصلح للزراعة، والمرفق المُـدمـّـر يـُـعاد إصلاحه (ولو بأبسط الامكانيات) وهكذا في باقي المرافق الأساسية. وذكر من أرّخوا لتك التجربة أنّ الفلاحة الفيتنامية كانت تضع الفأس على كتف، والبندقية على الكتف الأخرى.
الاعتبار الثالث: الوعي بأهمية التعليم، فإذا كانت الحرب ستطول فهل معنى ذلك أنْ تتوقف الدراسة في المدارس؟ رفض الفيتناميون توقف الدراسة، فكيف يكون الحل؟ حفروا تحت الأرض وأنشأوا ما يـُـشبه فصول المدارس، ورسموا للمدرسين وللتلاميذ طريقة الوصول إلى هذه الأماكن السرية.
ولكنني أعتقد أنّ أهم اعتبار هو تلك الروح التي سرت فى وجدان وعقل الفيتناميين وأملتْ عليهم التشبث بخبرة الشعوب فى العصور القديمة والحديثة فى مقاومة الغزاة (كما كان يقول هوشى- منه فى جلساته مع الشعب) ونتيجة ذلك بلور الشعب هدفه، وترجموا هذا الهدف واختزلوه فى جملة (المقاومة حتى النصر): ثلاث كلمات أشبه بترنيمة مقدسة، لاتتردد على الألسن وإنما تنبض بها القلوب فى صلواتها للحرية، وتلك الترنيمة المقدسة هى التى فجرتْ الروح النبيلة والتي مكنت الشعب الفيتنامي ليس من الانتصار على أمريكا فقط وإنما أذلاله حيث أنّ أمريكا حشدتْ نصف مليون جندي وضابط بهدف احتلال فيتنام إلى الأبد وتصوّر الأمريكان أنّ هوشى- منه واليسار الفيتنامي سيخضون للرأسمالية العالمية، فكانت النتيجة أنّ الشعب الفيتنامي هو الذى انتصر، حيث بلغ عدد القتلى من الجيش الأمريكى 58 ألف ضابط وجندي (وفق تقرير وزير الدفاع الأمريكي آنذاك روبرت ماكنمارا) بخلاف الأسرى والمفقودين. وهذه الهزيمة الأمريكية تسببت فى هزيمة نفسية للشعب الأمريكى، وهى الهزيمة التى أطلق عليها الإعلام الأمريكي (عقدة فيتنام) وصدر بشأنها الكثير من الكتب والأفلام الأمريكية التي أدانت الإدارة الأمريكية والمؤسسة العسكرية الأمريكية على جريمة غزو فيتنام، وهي الأفلام التي أخرجها مخرجون من اليسار الأمريكى، وكان أشهرها فيلم (العودة للوطن) الذى اشتركتْ فيه النجمة (جين فوندا) بدور البطولة، وهو الفيلم الذي ركز على الآثار النفسية للضباط والجنود العائدين بعد الانسحاب الأمريكى الذليل من فيتنام. وأنّ الآثار النفسية أشد مرارة من الجروح والتشوهات والعجز عن السير إلاّ بعكاز..إلخ
كان من حـُـسن حظ الشعب الفيتنامي أنه (بفضل الإعلام) وبفضل التيار الليبرالي الأمريكي الذي فضح سياسة أمريكا العدوانية/ الاستعمارية، خرج الشعب الأمريكي في مظاهرات ضخمة وفي عدة مدن للتنديد بالسياسة الأمريكية الخارجية، واشتملت ْالمظاهرات على نداء الأمهات والآباء لوقف العدوان ضد الشعب الفيتنامي، بعد أنْ شاهدوا جثث القتلى من الضباط والجنود الأمريكيين فى التليفزيون (الأمريكي) وما قرأوه من تحقيقات فى الصحف (الأمريكية) .
شهد عام 1975 أعظم مشهد تاريخي على قدرة الشعوب وعزيمتها الجبارة، لقهر الغزاة، لأنه العام الذي بدأ فيه انسحاب القوات الأمريكية من فيتنام. وعن هذا الانسحاب شهد العالم مشهدًا سجــّـله التاريخ بحروف من نور، وهو مشهد (مفاوضات باريس) بين الوفد الأمريكي والوفد الفيتنامي، الذى رأسته سيدة فيتنامية (كانت قائدة لإحدى فصائل المقاومة) فى بداية المحادثات طلب رئيس الوفد الأمريكي استلام الأسرى الأمريكان، قبل انسحاب القوات الأمريكية. فقالت له رئيسة الوفد الفيتنامي: الانسحاب بلا شروط. كرّر طلب استلام الأسرى. قالت: إذا سلمناكم الأسرى فمن يضمن أنّ طائراتكم وقنابلكم ستتوقف عن حرق حقولنا ومصانعنا وقتل شعبنا؟ قال: هيئة الأمم المتحدة. قالتْ: نحن لا نثق إلا ّبسواعدنا وبنادقنا. وبعد أنْ ألح كثيرًا لتنفيذ طلبه، قالت له: سيدى الجنرال، لقد استطاع ضباطكم وضع الثعابين السامة فى فروج نسائنا، ولكنك لن تستطيع وضع أفكارك الأشد سمية فى رأسى. وحملتْ حقيبتها وغادرتْ المكان.
ونتيجة هذا الموقف الجاد والمبدئي من رئيسة الوفد الفيتنامى فى مباحثات باريس، اضطر الأمريكان إلى الرضوخ والإنسحاب، وبعد انسحاب آخر جندي أمريكي، التزم القادة الفيتناميون بوعدهم وسلموا الأسرى للأمريكان.
ولأنّ الشعب الفيتنامي حريص على الاعتزاز بالروح القومية، لذلك تـمّ تسجيل جريمة أمريكا فى فيلم تسجيلى (وثائقي) وكانت المفاجأة المذهلة أنه بدأ البث على محطة بى.بى.سي، ابتداءً من يوم11سبتمبر2017. ومع ملاحظة أنّ الفيلم مكوّن من عشرة أجزاء. واعتقد أنّ هذا الفيلم يـُـعتبر أحد رموز الروح القومية، ورسالة وفاء لأرواح الشهداء الفيتناميين الذى بلغ عددهم 8ر3 مليون إنسان.
ورغم التدمير الأمريكى لكافة المرافق الفيتنامية، نجح الفيتناميون فى تجاوز المأساة، وبعد سنوات قليلة أصبحتْ فيتنام دولة اقتصادية قوية، حيث ازدهر العلم وتطبيقاته التكنولوجية. وعن تجربة شخصية: فى عام 2006 تركتُ سكني القديم وانتقلتُ إلى مدينة 6 أكتوبر. اشتريتُ لمبات (فلوروسنت) وقرأتُ عليها بالحروف اللاتينية المحفورة (صـُـنع فى فيتنام) .