وباء معولم يقوَّض حقبة العولمة:
إنكشاف حقائق مخفية لعالم مزيف
(1)
عادل سماره
لعل أهم صفات حقبة العولمة في تسارع تناقضاتها وانفجارها في زمن قياسي مقارنة مع حقب التاريخ الأخرى علاوة على عسفها الاجتماعي الطبقي الأشد. والسؤال اليوم، هل غزو وباء كورونا هو إطلاق رصاصة الرحمة على هذه الحقبة التي لم تعمِّر سوى اربعة عقود؟
من طبيعة راس المال الذهاب إلى مواقع تحقيق الربح الأعلى والأكثر مضمونية واستمرارية طالما أن هدف راس المال "هو التراكم من أجل التراكم والإنتاج من أجل الإنتاج-ماركس". هذا حينما تكون العلاقة بين الإنسان والإنسان بما فيها من تشريع الاستغلال والنهب.
لكن وباء كورونا خاصة، طرح أكثر من مأزق لمسألتي التراكم والإنتاج حيث اصبح المحدد هو الاستهلاك، وهذا استشناء على القاعدة الاقتصادية حيث الأساس هو الإنتاج. هذا التغير الشاذ ضرب معادلة العرض والطلب. فاحتجاز العمال في البيوت، يقود إلى تراجع في العرض وشره على المدى المباشر للاستهلاك مما يخلق فزعاً من الجوع لدى الجميع وفزعا مضاعفا لدى الفقراء كي يشتروا الضروري قبل اشتعال الأسعار أكثر وقبل أن تفرغ جيوبهم الضحلة وغير المتجددة خاصة على ضوء أوامر القعود في البيت لا سيما وهم يرون الأغنياء قد اشتروا ما يكفيهم إلى يوم القيامة وأن التجار أخفوا البضائع.
لم يتوقع ماركس، في حينه، أن يتطوع الوباء لخدمة أفكار القس مالثوس ولاحقا كيسنجر فيدخل الوباء على العملية الاقتصادية في العالم بهذا القدر من الشلل حينما كتب بأن :"انخفاض القيمة، لا يحصل بسبب عدم القدرة على بيع السلع بل بسبب عدم بيعها في الوقت المناسب." وهذا صحيح في ظروف بقاء عجلة الإنتاج في حالة دوران، وبالتالي تحصيل العمال لجزء من إنتاج قوة عملهم كأجور وتحصيل الراسمالي على القيمة الزائدة المنهوبة من إنتاج العمال، وبين استهلاك العمال والاستهلاك الترفي للراسماليين يتم بيع السلع ولو متأخراً وهو الأمر الذي أنتج تراكب الفوردية مع الكينزية في دولة الرفاه فزادت أجور العمال مما قوى قدرتهم الشرائية أي استهلاكهم. أما في الظروف الجارية اليوم، فإن المشكلة في منع الإنتاج رغم شبق الراسماليين للإنتاج! وهذا ما يقلق الرئيس الأمريكي الذي لا يلبث عن ترديد القول بالعودة إلى "العمل". فهو في رعب من شفاء الصين وعودتها للإنتاج.
ويقود العجز المتبادل بين العرض والطلب إلى تكرار ما ينجم عن الأزمات الاقتصادية سواء الدورية أو المديدة كأزمة 1929: أي تراجع في الإنتاج الحقيقي ولكن الآن ونظراً للبقاء في البيوت يقود ايضا إلى تراجع في معدل الاستهلاك. وإذا استمرت هذه الحالة يتدهور الاقتصاد إلى أن يصل إلى توازن القاع اي: إنتاج قليل واستهلاك قليل وادخار قليل، واستثمار قليل. وهذا ما ولَّد :
أولاً: الحل الكينزي في تدخل الدولة في الاقتصاد إثر أزمة 1929 بمعنى ضخ سيولة مالية وتقديم قروض بفوائد متدنية ربما بلا فوائد ولفترات سماح طويلة.
وثانياً: الثمن الذي دفعته الطبقات الشعبية من حياتها الكلية أو بسب امراضها، ولكن هذه لا تُحسب لدى السياسة والاقتصاد السياسي البرجوازي.
حينما انفجرت أزمة 2007-08 بشكل خاص في المركز الراسمالي الغربي لعب الاقتصاد الصيني دور المنقذ للنظام الراسمالي من الانهيار، اي دور الرافعة حيث كانت الصين قد دخلت منظمة التجارة العالمية 2001 واستقبلت تدفق رؤوس الأموال وخاصة قيام شركات امريكية بنقل مواقع إنتاجها إلىى هناك. اي ان النمو العالي للصين المنفتحة قد خدم الاقتصاد العالمي، ولكن دون أن ينقذه تماماً بل أنقذه بقدر ما يخدم عدم الحماية أي لتسهيل استمرار تصدير سلعها.
في نفس تلك الأزمة قامت الحكومات الغربية بتطبيق انتقائي للكينزية تجسد في الضخ الإشفائي للمصارف والشركات الكبرى كي تدور عجلة الإنتاج، بل ذهبت إدارة أوباما إلى تشغيل الكثير من قوة العمل في البنية التحتية الأولية كشق الطرقات وذلك كي لا تدفع للعمال أجوراً خلال فترة البطالة.
لكن الأزمة الجارية لا تكفيها النظرية الكينزية التي جرى تجاوزها لمدة اربعين عاما، هي عمر حقبة العولمة، حيث انتقلت الرأسمالية من اللبرالية إلى اللبرالية الجديدة وساد عدم التضبيط De-regulation فخرجت الدولة من دورها الجزئي في الاقتصاد مستسلمة لوهم دور اليد الخفية في تحقيق التوازن الاقتصادي وضبط الانحرافات، وتجلى ذلك في تصغير حجم السلطة وسيطرة القطاع الخاص بشراء كافة القطاعات الحيوية التي يجب ان تبقى بيد الدولة. مما وضع المجتمعات تحت رحمة القطاع الخاص الذي يحدد الإقدام أو الإحجام عن الاستثمار طبقاً لمصالحه هو.
لا يزال هناك قدر كبير من مكابرة دولة/سلطة راس المال في مواجهة حرب كورونا المعولمة تلافياً للإقرار بوجوب قتل اليد الخفية وتوظيف اليد المباشرة للدولة مخافة أن تقترب الدولة من أي شكل من الاشتراكية.
تتم حتى الآن معالجة الاقتصاد الراسمالي بحقن خفيفة من التوجهات الكينزية وربما أعلى قليلا، وهي نفس المعالجات الخجولة التي واجهت بها إيطاليا الوباء فكانت الكارثة. ولا يختلف موقف الولايات المتحدة عن إيطاليا حيث استخفت إدارتها بالوباء، ووصل رئيسها إلى التشفي في الصين إلى أن وجد الوباء يطوق بلاده مما دفع ترامب إلى ضخ ترليونات متزايدة من الدولارات (قيل 2 ثم 4 ثم 6...الخ) لإنعاش الاقتصاد.
لكن المشكلة الحالية ليست محصورة في نقص الطلب على العرض الزائد، كما كان الحال في الفترة التي انقذتها الكينزية، بل إن هذه الفترة هي أساساً "إعتقال العرض عبر وقف العمل والحجز على العمال بما هم المنتجون" وهذا عكس المشكلة التي حلتها الكينزية، اي مشكلة نقص الطلب، إنها مشكلة نقص المعروض حيث توقف معظم العمال المنتجين عن العمل. ليست المشكلة إذن "الطلب الزائد". فالطلب الزائد هو مرآة "العرض النادر" اي ان المشكلة تبدأ بفقدان الإنتاج وخلق القيمة ، وليس بـ "الطلب الزائد" إنها تراجع العرض، إن لم نقل توقفه.
وإذا كان الركود الاقتصادي يحدث عادة بسبب فشل مصرفي أو انهيار في الثقة في الأعمال فيتم قطع الإنتاج، وتسريح العمال ، وانخفاض قوة الإنفاق وانتشار الركود من خلال تخفيض مضاعف في الإنفاق. وكما قال كينز إن العرض والطلب ينخفضان معًا إلى أن يستقر الاقتصاد عند مستوى أدنى، أي توازن القاع كما اشرنا أعلاه، وفي ظل هذه الظروف ، يجب أن يرتفع الإنفاق الحكومي لتعويض الانخفاض في الإنفاق الخاص.
حتى الآن التصوير الكينزي صحيح، لكن المتغير هو أن الضخ المالي الحكومي في العديد من دول العالم والمقدر بترليونات متزايدة من الدولارات، يواجه أزمة اعتقال العمال في البيوت. فتوفير قوة شرائية، بغض النظر عن التحيز الطبقي في توزيعها، تصطدم ب العرض غير الفعال، أي ندرة السلع طالما يقع معظم العالم تحت منع التجول، وخاصة منع العمل. فهل يستمر هذا قبل موت كورونا؟
نختم بما يلي في عام 2019 تباطأ الإنتاج في الصين والهند، وسجّل ركوداً في جزء كبير من دول أوروبا بسبب انكماش الطلب العالمي الناجم عن سياسات خفض الأجور والمعاشات التقاعدية التي قلّصت الاستهلاك المموّل بديون الأسر وهذا بحد ذاته كان مقدمة للأزمة الحالية حتى بدون جائحة كورونا التي كرست ذلك، فهل تعافي الصين سيعيدها لإنقاذ أو التحكم في السوق العالمية؟
● ● ●
إنكشاف حقائق مخفية لعالم مزيف
(1)
عادل سماره
لعل أهم صفات حقبة العولمة في تسارع تناقضاتها وانفجارها في زمن قياسي مقارنة مع حقب التاريخ الأخرى علاوة على عسفها الاجتماعي الطبقي الأشد. والسؤال اليوم، هل غزو وباء كورونا هو إطلاق رصاصة الرحمة على هذه الحقبة التي لم تعمِّر سوى اربعة عقود؟
من طبيعة راس المال الذهاب إلى مواقع تحقيق الربح الأعلى والأكثر مضمونية واستمرارية طالما أن هدف راس المال "هو التراكم من أجل التراكم والإنتاج من أجل الإنتاج-ماركس". هذا حينما تكون العلاقة بين الإنسان والإنسان بما فيها من تشريع الاستغلال والنهب.
لكن وباء كورونا خاصة، طرح أكثر من مأزق لمسألتي التراكم والإنتاج حيث اصبح المحدد هو الاستهلاك، وهذا استشناء على القاعدة الاقتصادية حيث الأساس هو الإنتاج. هذا التغير الشاذ ضرب معادلة العرض والطلب. فاحتجاز العمال في البيوت، يقود إلى تراجع في العرض وشره على المدى المباشر للاستهلاك مما يخلق فزعاً من الجوع لدى الجميع وفزعا مضاعفا لدى الفقراء كي يشتروا الضروري قبل اشتعال الأسعار أكثر وقبل أن تفرغ جيوبهم الضحلة وغير المتجددة خاصة على ضوء أوامر القعود في البيت لا سيما وهم يرون الأغنياء قد اشتروا ما يكفيهم إلى يوم القيامة وأن التجار أخفوا البضائع.
لم يتوقع ماركس، في حينه، أن يتطوع الوباء لخدمة أفكار القس مالثوس ولاحقا كيسنجر فيدخل الوباء على العملية الاقتصادية في العالم بهذا القدر من الشلل حينما كتب بأن :"انخفاض القيمة، لا يحصل بسبب عدم القدرة على بيع السلع بل بسبب عدم بيعها في الوقت المناسب." وهذا صحيح في ظروف بقاء عجلة الإنتاج في حالة دوران، وبالتالي تحصيل العمال لجزء من إنتاج قوة عملهم كأجور وتحصيل الراسمالي على القيمة الزائدة المنهوبة من إنتاج العمال، وبين استهلاك العمال والاستهلاك الترفي للراسماليين يتم بيع السلع ولو متأخراً وهو الأمر الذي أنتج تراكب الفوردية مع الكينزية في دولة الرفاه فزادت أجور العمال مما قوى قدرتهم الشرائية أي استهلاكهم. أما في الظروف الجارية اليوم، فإن المشكلة في منع الإنتاج رغم شبق الراسماليين للإنتاج! وهذا ما يقلق الرئيس الأمريكي الذي لا يلبث عن ترديد القول بالعودة إلى "العمل". فهو في رعب من شفاء الصين وعودتها للإنتاج.
ويقود العجز المتبادل بين العرض والطلب إلى تكرار ما ينجم عن الأزمات الاقتصادية سواء الدورية أو المديدة كأزمة 1929: أي تراجع في الإنتاج الحقيقي ولكن الآن ونظراً للبقاء في البيوت يقود ايضا إلى تراجع في معدل الاستهلاك. وإذا استمرت هذه الحالة يتدهور الاقتصاد إلى أن يصل إلى توازن القاع اي: إنتاج قليل واستهلاك قليل وادخار قليل، واستثمار قليل. وهذا ما ولَّد :
أولاً: الحل الكينزي في تدخل الدولة في الاقتصاد إثر أزمة 1929 بمعنى ضخ سيولة مالية وتقديم قروض بفوائد متدنية ربما بلا فوائد ولفترات سماح طويلة.
وثانياً: الثمن الذي دفعته الطبقات الشعبية من حياتها الكلية أو بسب امراضها، ولكن هذه لا تُحسب لدى السياسة والاقتصاد السياسي البرجوازي.
حينما انفجرت أزمة 2007-08 بشكل خاص في المركز الراسمالي الغربي لعب الاقتصاد الصيني دور المنقذ للنظام الراسمالي من الانهيار، اي دور الرافعة حيث كانت الصين قد دخلت منظمة التجارة العالمية 2001 واستقبلت تدفق رؤوس الأموال وخاصة قيام شركات امريكية بنقل مواقع إنتاجها إلىى هناك. اي ان النمو العالي للصين المنفتحة قد خدم الاقتصاد العالمي، ولكن دون أن ينقذه تماماً بل أنقذه بقدر ما يخدم عدم الحماية أي لتسهيل استمرار تصدير سلعها.
في نفس تلك الأزمة قامت الحكومات الغربية بتطبيق انتقائي للكينزية تجسد في الضخ الإشفائي للمصارف والشركات الكبرى كي تدور عجلة الإنتاج، بل ذهبت إدارة أوباما إلى تشغيل الكثير من قوة العمل في البنية التحتية الأولية كشق الطرقات وذلك كي لا تدفع للعمال أجوراً خلال فترة البطالة.
لكن الأزمة الجارية لا تكفيها النظرية الكينزية التي جرى تجاوزها لمدة اربعين عاما، هي عمر حقبة العولمة، حيث انتقلت الرأسمالية من اللبرالية إلى اللبرالية الجديدة وساد عدم التضبيط De-regulation فخرجت الدولة من دورها الجزئي في الاقتصاد مستسلمة لوهم دور اليد الخفية في تحقيق التوازن الاقتصادي وضبط الانحرافات، وتجلى ذلك في تصغير حجم السلطة وسيطرة القطاع الخاص بشراء كافة القطاعات الحيوية التي يجب ان تبقى بيد الدولة. مما وضع المجتمعات تحت رحمة القطاع الخاص الذي يحدد الإقدام أو الإحجام عن الاستثمار طبقاً لمصالحه هو.
لا يزال هناك قدر كبير من مكابرة دولة/سلطة راس المال في مواجهة حرب كورونا المعولمة تلافياً للإقرار بوجوب قتل اليد الخفية وتوظيف اليد المباشرة للدولة مخافة أن تقترب الدولة من أي شكل من الاشتراكية.
تتم حتى الآن معالجة الاقتصاد الراسمالي بحقن خفيفة من التوجهات الكينزية وربما أعلى قليلا، وهي نفس المعالجات الخجولة التي واجهت بها إيطاليا الوباء فكانت الكارثة. ولا يختلف موقف الولايات المتحدة عن إيطاليا حيث استخفت إدارتها بالوباء، ووصل رئيسها إلى التشفي في الصين إلى أن وجد الوباء يطوق بلاده مما دفع ترامب إلى ضخ ترليونات متزايدة من الدولارات (قيل 2 ثم 4 ثم 6...الخ) لإنعاش الاقتصاد.
لكن المشكلة الحالية ليست محصورة في نقص الطلب على العرض الزائد، كما كان الحال في الفترة التي انقذتها الكينزية، بل إن هذه الفترة هي أساساً "إعتقال العرض عبر وقف العمل والحجز على العمال بما هم المنتجون" وهذا عكس المشكلة التي حلتها الكينزية، اي مشكلة نقص الطلب، إنها مشكلة نقص المعروض حيث توقف معظم العمال المنتجين عن العمل. ليست المشكلة إذن "الطلب الزائد". فالطلب الزائد هو مرآة "العرض النادر" اي ان المشكلة تبدأ بفقدان الإنتاج وخلق القيمة ، وليس بـ "الطلب الزائد" إنها تراجع العرض، إن لم نقل توقفه.
وإذا كان الركود الاقتصادي يحدث عادة بسبب فشل مصرفي أو انهيار في الثقة في الأعمال فيتم قطع الإنتاج، وتسريح العمال ، وانخفاض قوة الإنفاق وانتشار الركود من خلال تخفيض مضاعف في الإنفاق. وكما قال كينز إن العرض والطلب ينخفضان معًا إلى أن يستقر الاقتصاد عند مستوى أدنى، أي توازن القاع كما اشرنا أعلاه، وفي ظل هذه الظروف ، يجب أن يرتفع الإنفاق الحكومي لتعويض الانخفاض في الإنفاق الخاص.
حتى الآن التصوير الكينزي صحيح، لكن المتغير هو أن الضخ المالي الحكومي في العديد من دول العالم والمقدر بترليونات متزايدة من الدولارات، يواجه أزمة اعتقال العمال في البيوت. فتوفير قوة شرائية، بغض النظر عن التحيز الطبقي في توزيعها، تصطدم ب العرض غير الفعال، أي ندرة السلع طالما يقع معظم العالم تحت منع التجول، وخاصة منع العمل. فهل يستمر هذا قبل موت كورونا؟
نختم بما يلي في عام 2019 تباطأ الإنتاج في الصين والهند، وسجّل ركوداً في جزء كبير من دول أوروبا بسبب انكماش الطلب العالمي الناجم عن سياسات خفض الأجور والمعاشات التقاعدية التي قلّصت الاستهلاك المموّل بديون الأسر وهذا بحد ذاته كان مقدمة للأزمة الحالية حتى بدون جائحة كورونا التي كرست ذلك، فهل تعافي الصين سيعيدها لإنقاذ أو التحكم في السوق العالمية؟
● ● ●