التحولات الجيوسياسية لفيروس كورونا وتآكل النيوليبرالية (الجزء 2)
ما تدعو الحاجة إليه الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو نقاش عام حول الاستقلالية الأخلاقية للمواطنين في إعادة تحديد حقوق والتزامات الدولة وإعادة بناء سلطتهم الأخلاقية. يجب أن يبدأ النقاش على أرضية فارغة.
شارك
محمد الشرقاوي
نشرت في: 30/03/2020
غيتي
تفشي جائحة كورونا يؤرق البشرية (غيتي)
يخشى مؤرخو الاقتصاد الأوروبيون من شبح أن تتكرَّر مأساة الموت الأسود (Black Death)، التي اجتاحت القارة منتصف القرن الرابع عشر، وأدت إلى وفاة نسبة الثلث من مجموع السكان. وتسبَّب هذا الانخفاض في التركيبة السكانية في ندرة العمالة، وبالتالي زيادة الأجور، والطعن في النظام الإقطاعي في أوروبا آنذاك. كما مهَّد الطريق لقيام الثورة الصناعية التي تعرَّضت بريطانيا بفعلها لاحقًا لوباء "الملك كوليرا" King Cholera)) في أعوام 1831-1832 و1848-1849 و1854 و1867. وكان داء السلِّ مسؤولًا أيضًا عن وفاة ثلث الضحايا في بريطانيا بين 1800 و1850. والآن، يعود هذا الكابوس إلى أذهان الأوروبيين أقوى، لأن الأوبئة والجائحات تشمل "معادلات عظيمة"، وقد تؤدي إلى تداعيات طويلة الأمد ليس على النمو الاقتصادي الأوروبي فحسب، بل وأيضًا على الاقتصاد العالمي. وفي الولايات المتحدة، قرَّر بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي خفض سعر الفائدة القياسي إلى ما بين صفر و0.25 في المائة (بعد أن تراوح بين 1 و1.25 في المائة في السابق) وشراء 700 مليار دولار من سندات الخزانة والأوراق المالية المدعومة بالرهن في اجتماع طارئ يوم الأحد 15 مارس/آذار. وبعد أقل من يوم واحد، تراجع مؤشر داو جونز بمجموع 2250 نقطة عند افتتاح التعامل في بورصة نيويورك، وكاد مسؤولو السوق تعليق التداول.
أدى انتشار فيروس كورونا، أو كوفيد 19، إلى خمود الحركة وتوقُّف العالم تقريبًا. وأبقى على طائرات الشركات العالمية في الأرض مما يمثِّل تهديدًا وجوديًّا للعديد منها. على سبيل المثال، سيؤدي الحظر الذي فرضه الرئيس الأميركي ترامب مدة 30 يومًا على معظم الرحلات الجوية من أوروبا إلى أميركا، والذي بدأ سريانه في 14 مارس/آذار، إلى محو 20 مليار دولار، وهي مجموع المكاسب التي حققتها شركات الطيران التي تنقل الركاب عبر المحيط الأطلسي خلال العام الماضي. وتتَّسع الدراما الحقيقية من تصوير مدن الأشباح في أفلام هوليوود إلى حقيقة دول أشباح حقيقية كما هو الحال في إيطاليا وإسبانيا وألمانيا. كما اختارت دول أخرى فرض الحجر الصحي على سكانها. وفي المحصلة النهائية، أصبحنا نعيش في عصر التمييز الفيروسي الافتراضي والمفروض طوعيًّا بين الذات والآخر في سائر البيئات الاجتماعية التي كانت حميمية، ومنها أماكن العمل والتجمعات العامة وحتى الكنائس والمساجد والمعابد.
لا غرابة أن يدخل عام 2020 كتب التاريخ كعام لم يكشف عن فشل منظومة الصحة العامة على الصعيد العالمي فحسب، بل ينطوي أيضًا على حقبة ركود جيوسياسي ولحظة سقوط النظام النيوليبرالي من عل في القرن الجديد. ولا يمكن الآن تقليل مخاطر الصحة العامة غير المتوقعة أو أن تُعزى "لا إلى الفضائل الأخلاقية ولا إلى الحاجة إلى الاستثمارات"، بل "تسلط الأزمة أضواء كاشفة على عيوب هذه الحقبة التي تتسم بقصر النظر ومنحى الاستغلال وأنانية بعض الأفراد"(1).
تتناول هذه الدراسة، وهي في جزأين، ما اعتبره تداخل ثلاث تحولات رئيسية فيما بينها: 1) تحديد سياق انتشار الوباء بين نهاية ديسمبر/كانون الأول 2019 والعشرين من مارس/آذار 2020. 2) ارتباط أو تزامن انتشاره عالميًّا مع عدم استقرار أسواق المال العالمية والانخفاض المفاجئ في أسعار النفط في منتصف مارس/آذار، حيث انخفض خام برنت بنسبة 12.2 في المائة، أو 4.15 دولار وتم تداوله بسعر 29.68 دولار، وهو أدنى مستوى له منذ يناير/كانون الثاني 2016. 3) القلق بشأن مستقبل الرأسمالية النيوليبرالية. وبحث الجزء الأول المنشور من قبل في عدد من الثنائيات التي يتم تداولها الآن في المجال العام في جميع أنحاء العالم: هل فيروس كورونا وباء "من صنع الطبيعة" أو "من صنع الإنسان"؟ كيف يمكن للبحث العلمي فرز الحقيقة من الافتراضات المختلفة القائمة على "نظرية المؤامرة" حول السببية "المتعمدة" أو "التلاعب" المحتمل بالفيروس في السياسة الدولية؟ ثمة سؤال أساسي آخر يظل مفتوحًا حول ما إذا كان المجتمع الدولي ونظام الأمم المتحدة والقانون الدولي الإنساني بأكملهم قد فكَّروا في إيجاد أي توازن ممكن بين الرَّدع النووي والتسلح، اللذين يتم السعي إليهما بشدة، والرَّدع الوبائي أو ضمان الحد الأدنى من استراتيجية الأمن البيولوجي. تناولت الورقة أيضًا اتجاهًا جديدًا للتوظيف الانتخابي للوباء من قبل الرئيس ترامب (Trumpian electioneering) وسعيه لشراء واحتكار مشروع لقاح مضاد للفيروس الجديد تنكبُّ على تطويره حاليًّا شركة أدوية في ألمانيا.
يبحث الجزء الثاني من الورقة الآن كيف تفرض جائحة كورونا منحى اقتصاديًّا جديدًا يمكن تسميته اقتصاديات الانتشار الأفقي (trickle-across economics)، وليس من أعلى إلى أسفل التي لوَّحت بها أدبيات (trickle-down economics) أو اقتصاد التأثير التنازلي الذي نادى به الرئيس الأميركي الأسبق، رونالد ريغن، في الثمانينات من القرن الماضي. ويتبيَّن الآن مدى التشابك الاقتصادي السلبي بين الدول من جراء انتشار الجائحة الراهنة. مثلًا في مدينة نيويورك التي تُعَدُّ المركز السياحي الأكثر رواجًا في العالم، أمر رئيس بلدية المدينة، بيل دي بلاسيو، أصحاب الحانات والمطاعم المحلية بإغلاق أبوابها في مسعى أخير لوقف انتشار الفيروس. وكتب في رسالة وجَّهها إلى مواطنيه في نيويورك في 16 مارس/آذار "يجب أن نردَّ بعقلية الحرب". وفي باريس، قال الرئيس إيمانويل ماكرون، في خطاب كئيب النبرة إلى الأمة الفرنسية: "نحن في حالة حرب. نحن لسنا في حالة مواجهة مع جيش آخر أو دولة أخرى. لكن العدو موجود هناك: هو غير مرئي، وصعب الاقتناص، لكنه يحرز تقدمًا". فقرَّر ماكرون تجنيد الجيش للمساعدة في نقل المرضى إلى المستشفيات. ونسجت حكومات أخرى على هذا المنوال.
في البلدان النامية مثل المغرب والفلبين، حيث تمثِّل الزراعة والسياحة والتحويلات المالية للعمال في الخارج العمود الفقري للاقتصاد الوطني، هناك مؤشرات قاتمة تُنْذِر ببقية عام لن يكون مريحًا، خاصة عندما تبدأ تداعيات العواقب الوخيمة لفيروس كورونا تظهر في يونيو/حزيران أو يوليو/تموز. وبشكل عام، تتوقع وكالة التجارة والتنمية التابعة للأمم المتحدة (UNCTAD) أن عدم اليقين بشأن المستقبل وعدم القدرة على الحركة حاليًّا سيكبِّدان الاقتصاد العالمي تريليون دولار على الأرجح بالنسبة لعام 2020 وحده. ويتناول الجزء الثاني من الورقة أيضًا النظام النيوليبرالي السائد الذي يصحو على ما يبدو أنه اختبار واقعي في مواجهة فيروس صغير. وتناقش بقية الدراسة مدى الحاجة للعودة إلى البعد الإنساني والأسبقية للمجتمع قبل الاقتصاد والربح في إعادة بناء نظام ديمقراطي اجتماعي منقَّح يكون بمثابة تصحيح حان وقته في حقبة أفول النيوليبرالية على ما يبدو في وجه لعنة فيروس كورونا.
وباء كورونا اقتصاديات الانتشار الأفقي (Trickle-Across’ Economics)
بحلول السادس عشر من مارس/آذار، عانت أسواق المال العالمية، بما فيها وول ستريت في نيويورك، خسارات قياسية عقب انخفاض مؤشر داو جونز بنسبة 13 في المائة تقريبًا في أسوأ نسبة انتكاسة منذ الانهيار المالي يوم "الاثنين الأسود" عام 1987. وكانت سوق الأسهم الأميركية قد خسرت قبل أربعة أيام كامل المكاسب التي حققتها بمجموع 11.5 تريليون دولار منذ فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. والمفارقة أن الرئيس ترامب الذي كان منشرحًا في بدايات الأزمة، عندما أبلغ مواطنيه الأميركيين بأن "فيروس كورونا سيزول، لا تقلقوا، فقط حافظوا على هدوئكم"، هو نفسه الذي أصبح يقرُّ أنهم في مواجهة "عدو غير مرئي"، وأن هذا الفيروس يمكن أن يدفع الولايات المتحدة إلى حالة الركود، مضيفًا أنها "محنة سيئة، سيئة للغاية"(2). يبدو أن ترامب يستحضر في ذهنه عواقب الكارثة الاقتصادية التي وقعت عام 1929، وهو يعاين أزمة فيروس كورونا. ويقول بعض المحللين إنه بمثابة يوم "الاثنين الأسود" يحدث من جديد، ويتوقعون "حجمًا هائلًا في الضرر بالاقتصاد الأميركي، واحتمال فقدان ملايين الوظائف في شهر واحد، وانكماش تاريخي ومفاجئ في النشاط الاقتصادي في جميع أنحاء الولايات المتحدة، فضلًا عن وتيرة تقلُّبات حادة في السوق المالية لم تشهدها منذ الكساد الكبير"(3).
كتب روبرت شيلر (Robert Shiller)، أستاذ الاقتصاد بجامعة ييل والحائز على جائزة نوبل عام 2013، عن السرديات التي تؤثر على الاقتصاد. فهو يؤكد أن الوضع الراهن بفعل فيروس كورونا "غير عادي للغاية. ولم يتوقع المواطنون حدوث أي أمر من هذا القبيل قبل بضعة أشهر. لم يدر في خلد أي كان أن في هذا العصر الحديث يمكن أن نكون عرضة بالفعل لوباء خطير، وأن الحكومة ستواجه تحديات صعبة في مسعاها لاحتوائه"(4). وتثير هذه التحولات السلبية التي تنتجها فيروسات كورونا أسئلة ملحة جديدة حول السياسة الاقتصادية التي تتبعها حكومة ترامب، والتي استرشدت بنظرية اقتصاديات الانتشار العمودي (Trickle-down economics) أو الاقتصاديات الريغانية (Reaganomics)، والتي تمَّ الاحتفاء بها كمنقذ للأنظمة الاقتصادية الغربية من ركود بدايات الثمانينات خلال رئاسة ريغان في البيت الأبيض. فمن خلال اعتماد بعض الامتيازات، مثل: التخفيضات الضريبية على التزامات الشركات والأشخاص ذوي الدخل المرتفع ومكاسب الرأسمال المُستَثمر والأرباح على المدخرات، لوَّحت هذه السياسة بأن فوائد تلك الامتيازات بالنسبة للأثرياء ستتدفق نزولًا إلى بقية الفئات الوسطى والفقيرة في المجتمع.
ويكمن جوهر هذا الادِّعاء بإمكانية حركة عمودية من أعلى إلى أسفل في نمو الاقتصاد في الضبابية بين براغماتية العلم ومغالطة الأيديولوجية الرأسمالية. فخلال عامه الأول في البيت الأبيض، وقَّع الرئيس ترامب على قانون تخفيضات الضرائب والوظائف الذي قلَّص معدل الضريبة على الشركات من 35 في المائة إلى 21 في المائة اعتبارًا من عام 2018. وانخفض معدل الضريبة الفردية الأعلى بالنسبة الشريحة الاجتماعية الثرية إلى 37 في المائة. وقضت خطة ترامب الضريبية أيضًا بتخفيض معدلات الضريبة على الدخل الفردي، وضاعفت الخصم الاعتيادي، وألغت الإعفاءات الشخصية. وفي ضوء القرار بأن التخفيضات الضريبية بالنسبة للشركات ستظل دائمة، تنتهي التغييرات الضريبية بالنسبة لدخل الأفراد بنهاية عام 2025(5). وفي الأسبوع الأول من مارس/آذار 2020، تمَّ استدعاء مديري البنوك الكبرى في وول ستريت إلى البيت الأبيض لمناقشة التداعيات الاقتصادية لفيروس كورونا. ونقلت التقارير أن حكومة ترامب تفكِّر في إقرار مزيد من التخفيضات الضريبية لصالح الشركات، مثل شركات الطيران والشركات السياحية، وتخفيض مؤقت للضريبة على الرواتب. ويفكِّر البيت الأبيض في طلب موافقة الكونغرس على حزمة مساعدات تحفيزية بقيمة 850 مليار دولار لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد، و50 مليار دولار أخرى للتحفيز المباشر لإعادة إنعاش شركات الطيران. وتشمل خطة البيت الأبيض أيضًا 100 مليار دولار أخرى لتمويل البرامج التي تهدف إلى التعويض عن الإجازات المرضية، والمساعدات الغذائية، ومساعدات أخرى للعمال الأميركيين. ومن المحتمل أن يصل إجمالي التخصيصات المالية المطلوبة للحد من تبعات فيروس كورونا إلى تريليون دولار.
أغيتي أوقات عصيبة في أسواق المال العالمية (غيتي)
قرَّرت بعض الدول الأوروبية تقديم حزم مساعدات حكومية سخية للمساعدة في تحفيز اقتصادها المحلي. فتبنَّت بريطانيا خطة تحفيز اقتصادي بقيمة 39 مليار دولار بعد ساعات فقط من قرار بنك إنجلترا خفض أسعار الفائدة. وبدأت إيطاليا إجراءات تحويل 28 مليار دولار لضمان مساعدة الشركات والعمال خلال الأزمة. في آسيا، خصَّصت قطر حزمة بقيمة 23.35 مليار دولار لحماية اقتصادها، فيما خصصت الصين 15.9 مليار دولار لمكافحة الوباء. هذه بعض أفضل العلاجات المالية الممكنة لتداعيات وباء كورونا الذي لا يمكن وقف زحفه في العالم. ولكن، لا يمكن أن يكون لها أكثر من تأثير حبة أسبرين قصيرة الأجل في مفعولها لصداع اقتصادي طويل الأمد. وتساورني الشكوك في أن هذه الإجراءات التي تأمل الحكومات أن ينتشر مفعولها عموديًّا (من أعلى إلى أسفل) ستحلُّ المشكلة. لن يتطابق المنحى العمودي، أو المنشِّطات المماثلة للشركات الخاصة الكبيرة، مع واقع المنحى الأفقي السلبي الشاسع للركود الاقتصادي بفعل تفشي فيروس كورونا. لقد دمَّر تفشِّي الفيروس الجديد الشركات العامة والخاصة تقريبًا بأكملها، ويؤثر على عنصريْن أساسييْن في حركية الاقتصاد: العرض والطلب. ويمكن القول مجازًا إن المحرِّك الرئيسي للاقتصاد العالمي فَقَد قوته وتوقف فجأة، وأصبح خاملًا في منتصف مارس/آذار مع تداعيات مفتوحة الأجل تنذر بمزيد من الحذر والعزلة. وعلاوة على ذلك، من المرجح أن تأثير فيروس كورونا سيعزز ويعمق التوجُّه نحو سياسات الأبواب والحدود المغلقة، وتعاظم الشعور العام بعدم الثقة، والتمييز، وقلب مسار العولمة. كما سيزيد في حالة عدم اليقين بعد تراجع دور منظمة التجارة العالمية، باعتبارها إحدى أهم نقاط التحوُّل ذات الصلة نحو إلغاء العولمة، وكذلك صعود القومية، والشعبوية، والسياسات الحمائية، والتوجُّهات المتزايدة ضد الهجرة في السنوات الخمس الأخيرة.
أدَّى تفشي الوباء الجديد إلى تعطيل جميع محرِّكات الاقتصاد بما فيه شركات التصنيع ومراكز التسوق وشركات الطيران والفنادق ومتنزهات ديزني. فأصبحت معظم المدن في عزلة، حيث يقبع الأفراد في منازلهم، ولا يخرجون إلى المطاعم، ولا يتجهون إلى مراكز التسوق، ولا يسافرون، ولا يشترون سيارات جديدة. وتظل القاعدة الذهبية أن أي نظام اقتصادي يكره الركود والعزلة. على سبيل المثال، تتأتى نسبة سبعين بالمائة من الاقتصاد الأميركي من الإنفاق الاستهلاكي، وقد توقَّف حاليًّا في الولايات المتحدة بشكل غير مسبوق. ومن غير المرجح أن تتمكن معظم الاقتصادات من تجنب موجة ركود عارمة على المدى القصير. من المرتقب أن يُفْلِس عدد كبير من الشركات. وستفقد الطبقة الوسطى مرة أخرى بعض قدرتها المالية. ولن يمكن معرفة الآثار الضخمة للفيروس إلا عندما يتمكَّن الأفراد من العودة إلى العمل والخروج إلى الأسواق وإنفاق المال بحلول يوليو/تموز أو أغسطس/آب المقبلين. ويضع نموذج بلومبيرج إيكونوميكس (Bloomberg Economics) احتمالات الركود خلال العام المقبل عند نسبة 52 في المائة، وهي أعلى مستوى منذ عام 2009. ويقول جون نورمان (John Normand)، من شركة إدارة الأموال الضخمة جيه بي مورجان (JPMorgan): إن مؤشرات قيمة الأصول في الأسواق المالية تُنْذِر بحدوث ركود اقتصادي بنسبة 80 في المائة.
يبقى السؤال معلَّقًا حول مقدار الوقت الذي سيحتاجه العالم لاستعادة ثقة المستهلكين والشركات. هذه حقبة يغلب عليها الشك والغموض بامتياز. ويتوقَّع العديد من خبراء المالية أنه لن يمكن التغلب على تداعيات فيروس كورونا وتغيير مسار الاقتصاد في اتجاه النمو مجددًا إلا بحلول عام 2031. فقد أعلن محللو حركة الاقتصاد، في مؤسسة غولدمان ساكس (Goldman Sachs)، أن تداعيات الفيروس الجديد تدحض فرضية أن الاقتصاد الأميركي خالٍ من عناصر الركود كما كان شائعًا بحلول عام 2020. ويقول آلان بليندر (Alan Blinder)، نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق والأستاذ في جامعة برينستون الأميركية حاليًّا: "لن أتفاجأ إذا نظرنا إلى البيانات مرة أخرى، وهي تنذر بأن الركود بدأ فعليًّا في مارس/آذار. لن أتفاجأ من هذه الحقيقة على الإطلاق". أما روبرت رايتش (Robert Reich)، أستاذ السياسات العامة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي ووزير العمل السابق في حكومة كلينتون، فيعتقد أن إجراءات الرئيس ترامب ستكون "غير مجدية". ويجادل بالقول إنها "ستكون بطيئة للغاية في تحفيز الاقتصاد، ولن تصل إلى الأسر والمستهلكين الذين ينبغي أن يكونوا هم المستفيدون الحقيقيون من أي حزمة مساعدات مالية، بل ستكافئ الأغنياء الذين لا ينفقون الكثير من دولاراتهم الإضافية، دون وضع المال في أيدي الفقراء والطبقة الوسطى الذين هم من ينفقون فعلًا"(6).
لمواجهة الأزمة الاقتصادية في الولايات المتحدة كمثال، تحتاج الحكومة الفيدرالية إلى رؤية براغماتية لتجنب الخسائر الاقتصادية بين الفئات الفقيرة والوسطى في السلم الاجتماعي والاقتصادي. ويدعو الأستاذ رايتش أعضاء الكونغرس الأميركي لسنِّ قانون يسمح بتخصيص ميزانية طارئة بمبلغ 400 مليار دولار على الفور. ويوصي أيضًا بإنفاق الأموال في المجالات الرئيسية: أ) اختبار وعلاج فيروس كورونا، ب) دفع الأجر عن الإجازة المرضية أو الإجازة العائلية هذا العام وتكون قابلة للتجديد للعام القادم إذا لزم الأمر. ج) التأمين الطبي الموسع والتأمين ضد البطالة، د) تسديد مبلغ بقيمة 1000 دولار لكل شخص بالغ و500 دولار لكل طفل مرة واحدة قابل للتجديد للعام المقبل إذا لزم الأمر.
وجادل خبراء اقتصاد آخرون بأن فيروس كورونا قد يكون "الأمر الأكثر إيجابية" الذي حدث بالنسبة للاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة. ويعتقد بيتر زيهان (Peter Zeihan)، مؤلِّف الكتاب الجديد "أمم غير متحدة: التدافع من أجل السلطة في عالم غير خاضع للحكم" (Disunited Nations: The Scramble for Power in an Ungoverned World)، أن الصين تمثِّل ورشة التصنيع العمل العالمية، وأنها من حيث القيمة المطلقة، تُعَدُّ أكبر مستفيد من هذا النظام الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد نجحت سياسة اليابانيين والأوروبيين في تحويل الأراضي الصينية إلى مناطق نفوذ إمبراطورية، قبل أن ينهي الأميركيون تلك الاستراتيجية. وقد تطلبت براعة التصنيع في الصين اقتصادات الحجم الكبير لبلاد تحوَّلت جميعها إلى نظام حكومي واحد"(7).
لا ينبغي للمرء أن يركِّز على تداعيات الإغلاق الاقتصادي الشامل الذي فرضه انتشار الفيروس الجديد فقط، ولكن أيضًا على صلة الترابط بفعل التزامن مع الخلاف الروسي-السعودي على أسعار النفط وكمية إنتاجه وتصديره، وهو ما يمثِّل صبَّ البنزين على النار الملتهبة. في الأسبوع الأخير من شهر فبراير/شباط، اجتمع أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، التي تضم خمس عشرة دولة من الدول المنتجة للنفط، في فيينا لمناقشة كيفية التعامل مع تأثير الوباء الذي أدى إلى انخفاض الطلب العالمي على النفط. تمَّت دعوة روسيا إلى الاجتماع على الرغم من أنها ليست عضوًا رسميًّا في المنظمة. لكنها قبل ثلاث سنوات، تعهدت بتنسيق مستويات إنتاجها مع الأعضاء الخمسة عشر في تحالف يعرف باسم "أوبك +".
رويترز وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان آل سعود ونظيره الروسي ألكسندر نوفاك في لقاء بين أعضاء أوبك وغيرهم في النمسا 6 ديسمبر/كانون الأول 2019 (رويترز)
هناك قضايا استراتيجية عالقة بين موسكو والرياض بشأن مدى التخفيض المعقول لإنتاج النفط. فقد اقترحت السعودية، باعتبارها زعيمة أوبك، على بقية الأعضاء بشكل جماعي تقليص إنتاجهم بحوالي مليون برميل يوميًّا. غير أن روسيا، التي حذَّرت من الخطة المقترحة، توقَّفت عند مستوى 500 ألف برميل في اليوم. ويتردد في بعض اللقاءات أن الكرملين يفضِّل إبقاء أسعار النفط عند مستوى منخفض، الأمر الذي "سيُلحق الضرر بصناعة النفط الصخري الأميركي أو يستعد للاستيلاء على شريحة أكبر من الطلب الآسيوي والعالمي على النفط لنفسه". وتشرح إيما أشفورد (Emma Ashford)، الخبيرة في الدول النفطية في معهد كاتو (CATO) في واشنطن، أن "الروس أكثر قلقًا بشأن حصتهم في السوق ويعتقدون أنهم سيفضِّلون التنافس مع السعوديين بدلًا من التعاون معهم في هذه المرحلة"(. ولم تثر استراتيجية روسيا ارتياح السعوديين الذين قرَّروا خفض صادراتهم النفطية بشكل أكبر في أوائل مارس/آذار، مما تسبب في شنِّ حرب أسعار مع روسيا. فانخفض سعر البرميل بنحو 11 دولارًا إلى 35 دولارًا للبرميل، وهو أكبر انخفاض في يوم واحد منذ عام 1991.
وفوق شتى التداعيات السلبية، يمثِّل فيروس كورونا فتحًا معرفيًّا في علم الأوبئة. فقد عرضت كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا دورة جديدة لتدريس فيروس كورونا وفيروسات البجعة السوداء الأخرى. ويكمن الهدف الأساسي من هذه الدورة التي تسمى "الأوبئة والكوارث الطبيعية والجغرافيا السياسية: إدارة الأعمال العالمية والغموض المالي" Epidemics, Natural Disasters and Geopolitics: Managing Global Business and Financial Uncertainty في تقديم "معرفة الخبراء حول كيفية التعامل مع هذه الأزمات للمستثمرين والعمال والمستهلكين والمدخرين، حتى يكونوا أكثر اطلاعًا بما يساعدهم في اتخاذ قرارات أفضل"، كما يوضح ماورو جويلين (Mauro Guillen)، أستاذ الإدارة الدولية، الذي يتولى تنسيق هذه الدورة الجامعية. وقد شهدت هذه الدورة نصف الفصلية، التي بدأت في 25 مارس/آذار، إقبالًا جيدًا عليها بعد أن سجل 450 طالبًا أنفسهم بالفعل، وهو عدد يساوي ما يقرب 5½ أضعاف حجم الأقسام الجامعية في كلية وارتون.
في الوقت ذاته، بدأ بول كروغمن(Paul Krugman) ، أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل، سلسلة دروس بعنوان "الاقتصاد والمجتمع" ضمن سلسلة (MasterClass) عبر الإنترنت باشتراك مبدئي قدره 15 دولارًا. ويهدف إلى تعليم الأفراد المبادئ التي تشكِّل القضايا السياسية والاجتماعية، بما فيها الحصول على الرعاية الصحية، ومناقشة معدلات الضريبة، والعولمة، والاستقطاب السياسي. فهو يجادل بأن الاقتصاد ليس مجموعة من الإجابات، بل "طريقة لفهم العالم".
غيتي بول كروغمن الحائز على جائزة نوبل يستهل سلسلة دروس "الاقتصاد والمجتمع" عبر الإنترنت (غيتي)
تَسْيِيس فيروس كورونا في العلاقات الدولية
لا غرابة أن يتمَّ التلاعب بالأوبئة والجائحات سياسيًّا على مرِّ التاريخ. وكثيرًا ما ساهم في الترويج لدعوات رجال السياسة اليمينيين لضبط الحدود ومنع الهجرة. وعلى سبيل المثال، أقامت عائلة هابسبورغ (Habsburg) المالكة في الإمبراطورية النمساوية-المجرية في القرن الثامن عشر تطويقًا امتدَّ من الدانوب إلى البلقان، على شكل سلسلة من الحصون، كان من المفترض أنها ستوقف العدوى التي تدخل من الإمبراطورية العثمانية المجاورة. وشكلت تلك الحصون أيضًا حدودًا عسكرية واقتصادية ودينية، بل وخط ترسيم الحدود بين المسيحية والإسلام، وتم تسييرها من قبل الفلاحين المسلحين الذين وجَّهوا الأفراد المشتبه في إصابتهم إلى محطات الحجر التي بنيت على طول الحدود"(9).
ويردِّد الجدل السياسي الحالي في الولايات المتحدة وأوروبا حول فيروس كورونا صدى الانعزالية وسياسة الأبواب المغلقة. ويستغل الأميركيون ذوو العقلية الترمبية وأيضًا بعض الأوروبيين المتشكِّكين في الوحدة الأوروبية عامل الخوف من الوباء لفرض المزيد من الحواجز وأمن الحدود. وخلال جدلهم بشأن الهجرة والإرهاب، يجادل هؤلاء اليمينيون والشعبويون بأن فيروس كورونا يبرِّر مخاوف القلق بشأن الحاجة لحماية حدود بلادهم. ويتمُّ تصوير التهديد القادم من الفيروس على أنه "أجنبي، وأن الرد هو بناء الجدران ووقف الرحلات الجوية. ووفقًا لهذه السردية، تزيد العولمة في التسريع من نطاق التهديد"(10).
في فرنسا، دعت مارين لوبان (Marine Le Pen) زعيمة "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، المعروف سابقًا باسم "الجبهة الوطنية"، لإغلاق حدود فرنسا مع إيطاليا. وعقب اجتماعها مع رئيس الوزراء إدوارد فيليب، قالت للصحافيين: "إنني أطلب فرض السيطرة على حدودنا. أشعر وكأنني أسأل عن القمر، بينما ينبغي أن يكون إجراء الفحوصات في الواقع على حدود البلاد أول فعل من قبيل المنطق السليم". وحذَّرت زميلتها أوريليا بكينيو (Aurélia Beigneux) من أن "التداول الحر للسلع وحركة الأشخاص وسياسات الهجرة والضوابط الضعيفة على الحدود تسمح بانتشار هذا النوع من الفيروسات"(11) وقد تكون المدن العالمية شديدة الارتباط بقوى الاقتصاد المتعاظمة، ولكنها تظل أيضًا نقاط ومرافئ دخول العدوى. ويقول البعض إن العيش في "مدن تربطها جسور جوية هو موقف تحسد عليه"(12).
واتسمت الجولة الأولى من الانتخابات المحلية الفرنسية التي أجريت في 15 مارس/آذار بأجواء غريبة من شبه الإغلاق الكلي وتداعيات انتشار الوباء عالميًّا، مما أدى إلى امتناع قياسي عن التصويت من قبل الكثير من الناخبين. واشتكى دعاة القومية الآخرون من قادة أوروبا مثل رئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان (Viktor Orban)، من أن أوروبا لا يمكن أن تفتح حدودًا داخلية إذا كانت حدودها الخارجية ضعيفة، مما يسمح لطالبي اللجوء بالدخول دون رادع. علاوة على ذلك، دعا لورينزو كوادري (Lorenzo Quadri)، من الجناح اليميني ليغا دي تيسينسي (Lega dei Ticinesi) في سويسرا، وهي ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، إلى اتباع سياسة "الأبواب المغلقة". وجادل قائلًا "من المثير للقلق أن عقيدة الحدود المفتوحة تعتبر أولوية على نطاق واسع". ويبدو أنه زواج في الجنة بين السياسة اليمينية والخوف والتخويف من انتشار الوباء الجديد.
قد يؤدي صعود تيار القومية إلى إنهاء الوحدة المتوترة أصلًا داخل الاتحاد الأوروبي على نظام شنغن (Schengen) في حين لم يستقر الجدل بعد بين الأوروبيين حول "حكمة" خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي ظل المخاوف الراهنة، أقرَّت تسع دول، بما فيها ألمانيا وفرنسا، العمل بأحكام الطوارئ لإعادة بعض الضوابط في أوقات مختلفة(13). وتشير ماري دي سوم (Marie De Somer)، رئيسة برنامج الهجرة في مركز السياسة الأوروبية، وهو مركز أبحاث مقره بروكسل، إلى أن "نظام شنغن في حالة سيئة للغاية ومثيرة للمشاكل"، وأن استعادته لكامل وظائفه يتوقف على "تغيير قواعد اللجوء والهجرة داخل دول الكتلة"(14). في الوقت ذاته، تستفيد بعض الأنظمة الاستبدادية، مثل الصين، من تفشي بعض الأوبئة والجائحات. ويفاخر القادة الصينيون تاريخيًّا بقدرتهم "على التغلب على الوباء كعلامة على القوة. فقد عزَّز الرئيس شي جين بينغ صلاحياته وقوته، مما قد يجعله هدفًا أكثر عرضة للوم جماعي من شعب غاضب وخائف إذا فشلت التجربة. ولعل هذا هو السبب في تراجعه عن أعين الجمهور مؤخرًا، مما سمح لضباطه بإدارة الوضع الراهن"(15).
ويلاحظ المرء كيف أن تغطية فيروس كورونا في وسائل الإعلام العالمية قد وضعت الصين في موقف الصنديد الذي يفاخر بسردية مكافحة انتشار الوباء ويعزز سعيه نحو زعامة العالم. فقد سعت بكين للحصول على اهتمام العالم بشأن "نجاحها" في مقاومة انتشار الفيروس من خلال القيام بتقديم المساعدة لإيطاليا وإسبانيا، والاستفادة من عدم كفاية استراتيجية الولايات المتحدة في التعامل معه وسط تركيز السياسة الأميركية على الداخل. كما حاولت بيجين إعادة صياغة السردية منذ أن تم تفسير تفشي المرض على أنه كارثة دعائية ضد الحكومة. وكانت الصين تخشى أن يُطلق على انتشار فيروس كورونا لديها اسم "تشيرنوبيل" الصين، مما قد يقوِّض قيادة الحزب الشيوعي في نهاية المطاف. وأشارت التقارير إلى أن الدكتور لي وينليانغ (Li Wenliang)، وهو المخبر الشاب الذي أطلق صفارة الإنذار قبل أن تسكته الحكومة، والذي استسلم لاحقًا لمضاعفات الفيروس، أصبح يُشَبَّه بـ"رجل الدبابة" الذي وقف في تحّ للسلطات في ميدان تيانانمن عام 1989(16).
وبحلول منتصف مارس/آذار، لوَّحت الصين بتحقيق النصر على انتشار الوباء. وأعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية في بيجين تشاو ليجيان (Zhao Lijian) أن "وقف زحف الوباء يعزى إلى المحاجر الجماعية، ووقف السفر والإغلاق الكامل لمعظم مجالات الحياة اليومية في جميع أنحاء البلاد"، وأن "قوة الصين وكفاءتها وسرعتها في هذه المعركة تحظى بتقدير كبير"(17). وذكرت إحدى مقالات الرأي التي نشرتها وكالة أنباء الصين الجديدة (شينخوا) التي تديرها الدولة، أن الصين تبنَّت "الإجراءات الوقائية الأكثر شمولًا والأكثر صرامة ووقائية" لمكافحة الوباء. وبنبرة البهجة الوطنية، لوَّحت صحيفة الشعب اليومية بأن بإمكان الصين أن "تجمع بين الخيال والشجاعة اللازمين للتعامل مع الفيروس، بينما تتعثر الولايات المتحدة في ذلك". كما استغل المسؤولون الصينيون الضغوط التي خلفها انتشار الوباء على الأوروبيين والأميركيين لتذكير الجمهور العالمي بشكل مطرد بتفوق الجهود الصينية وانتقاد "عدم المسؤولية وعدم الكفاءة" لـدى من تسمى "النخبة السياسية في واشنطن"، كما جاء في افتتاحية نشرتها وكالة أنباء شينخوا الرسمية(18).
رويترز عمال النظافة يركبون دراجات بخارية ذاتية التوازن للتحكم في رشاش للتطهير في مجمع سكني في ووهان يوم 3 مارس/آذار (رويترز)
أعرب نيكولاس كريستاكيس (Nicholas Christakis)، الأستاذ في جامعة ييل Yale الأميركية، عن انطباع واسع النطاق يمتدح الصين على "الإنجاز المذهل من وجهة نظر الصحة العامة"(19). وأشادت منظمة الصحة العالمية أيضًا بنهج الصين في السيطرة على انتشار فيروس كورونا، مما يجسد ترويجًا مغاليًا للدبلوماسية العامة والقوة الناعمة الصينية. وقد أرسلت بيجين إمدادات طبية إلى إسبانيا وإيطاليا اللتين تضررتا بشدة، وقدمت المشورة إلى حكومات إسبانيا والعراق وإيران ودول أخرى. ووصف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس غيبريسوس، التعاون الصيني الإيطالي بأنه "مثال مثلج للصدر على أواصر التضامن". وردَّ تشانغ جون (Zhang Jun)، سفير الصين لدى الأمم المتحدة، بقوله "الصديق المحتاج هو الصديق بالفعل. سنفعل كل ما في وسعنا لمساعدة البلدان الأخرى على محاربة الفيروس". لقد نجح المسؤولون الصينيون في تحويل فيروس كورونا "محلي الصنع" على ما يبدو إلى فرصة ضخمة عالمية للترويج والدبلوماسية العامة. باختصار، تتفوق الصين عام 2020 على القوة الناعمة للولايات المتحدة في أوروبا، والتي أعيد بناؤها بفضل "خطة مارشال" التي صممتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم تمرُّ بكين بلحظة تاريخية وكأنها رائدة عالمية في مجال الصحة العامة، وعلى استعداد لتولي أدوار أخرى في زعامة العالم.
النيوليبرالية المُحرَجة في لحظة الحقيقة!
مع انتشار الآثار الصحية والاقتصادية بسبب تفشي وباء كورونا عبر أرجاء العالم، تنزلق الإنسانية إلى أسفل عام 2020. ويتحوَّل الشعار الشهير لآدم سميث "دعه يمر، دعه يعمل" (Laissez passer, Laissez faire) إلى شعار مأساوي "ابقى في بيتك، ومُتْ في بيتك" (rester chez sois, mourir chez soi). فقد ظلت فرص الأميركيين مثلًا في إمكانية فحص أجسادهم بشأن أعراض الفيروس ضئيلة جدًّا لأسابيع ولاتزال كذلك مع اتساع نطاق الإصابات. وذكرت شبكة "سي إن إن" (CNN) أن العديد من الأميركيين الذين يعانون أعراض مرتبطة بالفيروس قالوا إنهم غاضبون ومحبطون بسبب إبعادهم عن المستشفيات والمراكز الصحية أثناء محاولتهم إجراء الاختبار. ويختزل حاكم ولاية ماريلاند، لاري هوجان (Larry Hogan)، التحدي على المستوييْن المحلي والفيدرالي. ويقر بأنه "ليس لدينا ما يكفي من وحدات الاختبار وليس لدى أي ولاية أخرى ولا الحكومة الفيدرالية إجابة مفيدة. نحن متخلِّفون عن ركب انتشار الوباء، وستستمر هذه المشكلة".
لقد أخذ نظام الصحة العامة منحدرًا بئيسًا في الولايات المتحدة. ويؤكد آدم جافني (Adam Gaffney)، من كلية الطب بجامعة هارفارد ورئيس منظمة "الأطباء من أجل برنامج وطني للصحة"، أن "هذا ليس نظام رعاية صحية، إنه فوضى مزرية. مرة أخرى، هناك أنساق متباعدة وغير متجانسة حسب الطريقة التي ندفع بموجبها أقساط الرعاية الصحية، فضلًا عن المنظومات المختلفة لإدارة مستشفياتنا: بعضها غني وبعضها فقير، كل منها يعيل نفسه، ومنغلقة على ذواتها بسبب الانحسار في نظام منافسة السوق"(20). في أوروبا، سجلت إيطاليا أعلى معدل للوفيات وكان العديد من الضحايا من بين الأشخاص في الثمانينات والتسعينات. ووفقًا لصحيفة نيويورك تايمز، يوجد في إيطاليا أكبر عدد من المسنِّين في أوروبا بحوالي 23 في المائة من السكان في سن الخامسة والستين أو أكبر، في حين أن متوسط العمر في القارة يبلغ 47.3، مقارنة مع نسبة 38.3 في الولايات المتحدة.
غيتي شهدت إيطاليا أكبر زيادة يومية في الوفيات جراء الإصابة بفيروس كورونا يوم 18 مارس/آذار (غيتي)
بين دونالد ترامب أواخر العشرينات من القرن الجديد ومارغريت تاتشر ورونالد ريغان في الثمانينات من القرن الماضي، يمكن للمرء أن يتصوَّر تحوُّل النيوليبرالية كدعوة براقة لتحرير القيود، أو إلغاء القوانين التنظيمية، أو التحرُّر، أو توسيع القطاع الخاص، أو التقشف المالي. لقد استمدت النيوليبرالية من عدة مفاهيم يفترض أنها ترتكز على المفهوم الكلاسيكي: (homo economicus) أو الإنسان الاقتصادي، وهو الإنسان العقلاني تمامًا الموجود في العديد من النظريات الاقتصادية، والذي يسعى دائمًا لمصلحته الذاتية. كان المصطلح الأصلي رائجًا إلى حد ما بصيغته الفرنسية (néo-libéralisme)، ظهر عام 1898 في أعمال المنظر الفرنسي شارل غيد (Charles Gide) لوصف الأفكار الاقتصادية التي خطها الإيطالي (Maffeo Pantaleoni).
اكتسبت "النيوليبرالية" كمفهوم اقتصادي متطور زخمًا في ندوة دولية عُرفت باسم "ملتقى والتر ليبمان"(Colloque Walter Lippmann)، دعا إليها الفيلسوف الفرنسي لويس روجير (Louis Rougier) في باريس عام 1938. وكان ليبمان صحفيًّا أميركيًّا نشر كتابًا جيد الانتشار بعنوان "تحقيق في مبادئ المجتمع الصالح" (An Enquiry into the Principles of the Good Society) عام 1937. وكان الهدف من الندوة هو بناء نظرية ليبرالية جديدة كرفض للمنحى الجماعي أو الاشتراكي. وتوصَّل المشاركون إلى تعريف "النيوليبرالية"، أو "الليبرالية الجديدة"، وقتها بأنها تنطوي على أولوية "آلية تحديد السعر، والمشاريع الحرة، ونظام المنافسة، ودولة قوية ومحايدة"(21).
في سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي، استخدم المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي ميلتون فريدمان (Milton Friedman) المصطلح في مقاله المنشور عام 1951 بعنوان "الليبرالية الجديدة وآفاقها"(Neo-Liberalism and its Prospects) (22)؛ فرفض ما اعتبره عندئذ "إيمانًا واسع النطاق، وإن كان ساذجًا، بين الطبقات المثقفة بأن التأميم سيحلُّ محلَّ الإنتاج من أجل الربح بمقولة الإنتاج من أجل الاستخدام". كما اعترض على ما اعتبره تراجعًا للمنحى الجماعي، في إشارة ضمنية إلى الاشتراكية والأشكال الأخرى للديمقراطية الاجتماعية. وقال: "من المرجح أن يثبت أن المنحى الجماعي أكثر صعوبة في عكس التيار أو تغييره بشكل أساسي مقارنة مع نظرية عدم التدخل، خاصة إذا كانت تذهب إلى حد يقوض أساسيات الديمقراطية السياسية. ومن المؤكد أن هذا الاتجاه، الذي سيكون موجودًا على أي حال، سيزداد تسارعه بسبب الحرب الباردة، ناهيك عن البديل الأكثر رعبًا وهو حرب واسعة النطاق. لكن إذا كان يمكن تجاوز هذه العقبات، فإن الليبرالية الجديدة تقدِّم أملًا حقيقيًّا بمستقبل أفضل، وهو أمل يمثِّل بالفعل تيارًا تتقاطع حوله الآراء وهو قادر على إثارة حماس الرجال ذوي النوايا الحسنة في كل مكان، وبالتالي يصبح التيار الرئيسي للرأي العام"(23).
Hoover Institution Archives لقاء ميلتون فريدمان مع الرئيس جورج بوش الابن ومستشاريه (Hoover Institution Archives)
في الثمانينات، قام الثنائي السياسي الشهير، تاتشر وريجان، بأداء رقصة النيوليبرالية بشكل جيد. فخلال تولِّيها رئاسة الوزراء بشكل صارم مدة 11 عامًا في لندن، عملت تاتشر على إدخال تحوُّل عميق على المجتمع البريطاني، فكانت القوة الدافعة وراء إدخال محرك ليبرالي جديد في السياسات العامة. وخلَّفت وراءها بريطانيا "مكانًا مختلفًا بشكل ملحوظ"(24). فقد ازدهرت النيوليبرالية البريطانية "من خلال برنامج نيوليبرالي يقضي بمنح تخفيضات ضريبية ضخمة للأغنياء، وسحق النقابات العمالية في نهاية المطاف، وخصخصة واسعة النطاق لمجالات الإسكان والاتصالات والصلب والغاز، ورفع القيود المالية، وإدخال المنافسة في تقديم الخدمات العامة"(25). وعبر المحيط الأطلسي، كانت لدى حكومة ريغان لحظتها الذهبية في التهام قوة النقابات وخفض الإنفاق العام. وساعد الأسلوب الخطابي لريغان على إقناع الأميركيين بشعاره في تلك المرحلة: "إن أهم سبب لمشاكلنا الاقتصادية هو الحكومة ذاتها".
في مقالة مهمة ظهرت عام 1982 بعنوان "بيان ليبرالي جديد" (A Neo-Liberal's Manifesto)، استعرض تشارلز بيترز (Charles Peters)، رئيس تحرير صحيفة "ذو واشنطن مانثلي" (The Washington Monthly)، كيف سعى النيوليبراليون للدفاع عن التحرُّر المالي وتشجيع المشاريع الفردية على أنهما "فضيلة". وكتب يقول "إذا كان المحافظون الجدد ليبراليين قد ألقوا نظرة نقدية لليبرالية، وقرَّروا أن يصبحوا محافظين، فنحن ليبراليون أخذوا نفس المظهر وقرَّرنا الاحتفاظ بأهدافنا، ولكن نتخلى عن بعض أحكامنا المسبقة ... مخاوفنا الأساسية هي المجتمع والديمقراطية والازدهار، ومن بينها النمو الاقتصادي الذي نعتبره الأكثر أهمية الآن، لأنه ضروري لكل شيء آخر نريد تحقيقه تقريبًا"(26). ومع ذلك، فإن أي اتجاه للفلسفة النيوليبرالية يدعو إلى ما يعتبرونه "حكمة" أربع ركائز معينة، وهي "الخصخصة"، و"إلغاء القيود"، و"الأسواق الحرة"، و"النزعة الفردية"، باعتبارها بناءًا مضادًّا لحماية مصالح المجموعة أو المنحى الجماعي أو الاشتراكي. وعلى مدى العقود التالية، لم يتم تبنِّي النيوليبرالية من قبل المحافظين أو الجمهوريين في الغرب فحسب، بل وأيضًا بين العمال في بريطانيا والديمقراطيين في الولايات المتحدة بمن فيهم بيل كلينتون. ويقول جوزيف ستيجليتز (Joseph Stiglitz)، أستاذ الاقتصاد والحائز على جائزة نوبل، إنه لا ينبغي أن تؤدي الرأسمالية إلى عدم المساواة، بل إن عدم المساواة هي نتيجة الخيارات التي تتخذها الدول الرأسمالية.
في أواخر التسعينات، ارتبط مصطلح "الليبرالية الجديدة" بتطورين جديدين: إلغاء القيود المالية مما سيساهم لاحقا في الانهيار المالي عام 2008 وفي أزمة اليورو التي لا تزال مستمرّة. والثاني هو العولمة الاقتصادية التي عجلت بصنف أكثر طموحًا من الاتفاقات التجارية في عالم التدفقات المالية الحرة. وأصبحت قوة المال والعولمة أكثر مظاهر النيوليبرالية تجليًّا في عالم اليوم(27). ويشدِّد ديفيد هارفي (David Harvey)، المتخصص في دراسة النيوليبرالية، على أنها "مشروع سياسي" أطلقته طبقة الشركات الرأسمالية بهدف "الحد من قوة العمل".(28). ويتذكَّر كيف أن صعود الحركات الاجتماعية، والدعوة لحماية المستهلك، والمبادرات الإصلاحية الأخرى شكلت تهديدًا لمصالح الطبقة السائدة. ويلاحظ أنها "لم تكن على دراية كاملة، لكنها أدركت أن هناك عددًا من الجبهات التي كان عليها أن تناضل عليها: الجبهة الأيديولوجية، والجبهة السياسية، وقبل كل شيء كان عليها أن تكافح من أجل كبح قوة العمل بأي وسيلة ممكنة". هكذا ظهر مشروع سياسي أسمِّيه "النيوليبرالية "(29). ويعتقد هارفي اعتقادًا راسخًا أن المشروع السياسي النيوليبرالي لم يكن "هجومًا أيديولوجيًّا" فحسب، بل وأيضًا "هجومًا اقتصاديًّا وضعته البرجوازية أو الطبقة الرأسمالية التجارية موضع التنفيذ تدريجيا"(30).
ويجادل متشككون آخرون من دعاة الواقعية الجديدة أن السياسات العامة التي اتبعها الرئيسان أوباما وكلينتون وأمثالهم في العالم، وتغاضيهم عن معاناة المواطنين الضعفاء، ساعدت في انتخاب دونالد ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. ويقول كورنيل ويست (Cornell West)"نحن نُعِدُّ أنفسنا لمستقبل مخيف. فقد انتهى العصر النيوليبرالي في الولايات المتحدة بانفجار الفاشية الجديدة. وأدى الانتصار السياسي لدونالد ترامب إلى تحطيم المؤسسات في الحزبين الديمقراطي والجمهوري المرتبطين كلاهما بحكم قوة المال وحكم رجال السياسية المتسلِّلين إلى السلطة"(31). ويعتقد ويست أيضًا أن حقبة أوباما كانت آخر نفس للنيوليبرالية. ويجادل بأنه "على الرغم من بعض الخطابات التقدمية والإيماءات الرمزية، اختار أوباما تجاهل جرائم وول ستريت، ورفض خطة الإنقاذ لأصحاب المنازل الذين خسروها لصالح البنوك، والإشراف على عدم المساواة المتزايدة وتسهيل جرائم الحرب، مثل قتل المدنيين الأبرياء خارج البلاد بواسطة طائرات أميركية دون طيار"(32).