اعتبر السواد الأعظم من المؤرخين للحركة الصهيونية الحديثة أنها حركة سياسية، استغلت اليهود لتحقيق مشروع يخدم مصالح الدول الغربية التي كانت تحتل وطننا آنذاك، وأن اليهود لم يفكروا في (العودة) لفلسطين منذ أن دمر هدريان الروماني وجودهم في فلسطين وشردهم منها عام 135م، وأن ارتباطهم بفلسطين اقتصر على الارتباط الديني والروحي فقط. ومن المفارقات العجيبة لدى علمانيي وطني؛ أنهم يعترفون أن حركة الاسترجاع النصرانية (الرؤية المسيحانية النصرانية)، والرؤية المسيحانية الصهيونية، هي نفسها رؤية حركة القبالاه اليهودية التي يعتبرونها حركة صوفية تأملية وليست سياسية! ويخلصون إلى نتائج خاطئة تتعارض مع المنطق العقلي، فيقولون: أن الحركة الصهيونية نشأت في الفكر الديني النصراني، وتأثرت بفكر حركة الاسترجاع النصرانية، والفكر القومي الغربي، واكتسبت روح وممارسة العنف من الفكر الاحتلالي الغربي، وأن اليهود قبل حركة الاسترجاع النصرانية لم يفكروا في العودة إلى فلسطين نهائياً!
ألا يحق لنا أن نتساءل: منذ متى السابق يصبح تابع للاحق؟! والله تعالى أنكر على اليهود والنصارى زعمهم أن إبراهيم عليه سلام على دينهم، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (آل عمران:65-67).
لمن لا يعرف تاريخ نشأة حركة القبالاه اليهودية؛ نقول: أنها نشأت وبدأت تنشط منذ القرن العاشر الميلادي وسط اليهود في الأندلس، وقد أضفت على المعاني الرمزية للعودة في اليهودية نوعاً من التمويه والسرية، بحيث لا يفهمها إلا القلة من اليهود أنفسهم. وحركة الاسترجاع النصرانية نشأت في القرن السادس عشر الميلادي (المذهب البروتستنتي، وهو مذهب توراتي يهودي بثوب نصراني ظاهراً)، وهي تستمد فكرتها التي تطالب بإعادة اليهود إلى وطنهم الأم كشرط لعودة المسيح المخلص الذي سيحكم العالم ويسود السلام والطمأنينة، من رؤية وفكر حركة القبالاه اليهودي، هذه الرؤيا استغلها اليهود عند نصارى الغرب البروتستنتي لدعمهم في الحصول على فلسطين والحفاظ على الكيان الصهيوني!
وذلك من أخطاء المنهجية العلمانية عدم إدراكها حقيقة (عقيدة المسيا، المسيحانية، الخلاص) لدى اليهود، معتبرين أن كل اليهود ويؤمنون بـ(العودة السلمية) وبدون عنف أو فعل بشري عند بعث مسيحهم الدجال، لأنهم لم يدركوا أن اليهودية كدين لها غايات سياسية، وأن التوراة ككتاب للدين اليهودي لها معنى سياسي، تعبر عنه عقيدة المسيا اليهودية.
المسيا .. عقيدة دينية سياسية
وفي الحقيقة أن عقيدة المسيا هي في الأصل عقيدة دينية سياسية، كما يقول "ساراشك": "بأن هذه الفكرة – عقيدة المسيا - هي عقيدة سياسية أكثر منها لاهوتية، وعملية أكثر منها تأملية، وأن اليهود وجدوا فيها نوعاً من صمام الأمان ينفسون بواسطته في أوقات الضيق والشدة. مثلما علقوا آمالهم على مجيء ذلك (المحرر) الذي أحاطوه بهالة من الجبروت والقداسة، وراحوا ينتظرون قدومه لكي يخلصهم من المحن والبلايا. فهو المنتظر الذي سوف يحول ظلمتهم إلى نور وكربهم إلى فرح وبهجة". وليست عقيدة دينية صوفية تأملية لا علاقة لها بالسياسة ولا (عودة اليهود) إلى فلسطين كما يزعم علمانيي وطني!
تلك هي الحقيقة التي يأبَ البعض منا الاعتراف بها أو يجهلها، في الوقت الذي يعترف فيه بدور الجيتو في تعميق نزعة العزلة والشعور بالتمييز والتفوق العرقي وعقدة الاستعلاء على الآخرين لدى اليهود، ويوضح الدكتور "أسعد رزوق" دور التلمود أيضاً في تكريس عزلة اليهود في كل مكان: "... ينبغي علينا كذلك أن لا نتجاهل المسئولية التي تقع على عاتق اليهودية التلمودية منذ أن استتبت لها السيطرة على حياة اليهود وحتى أواخر القرن الثامن عشر وقيام الثورة الفرنسية. فالمجتمع اليهودي المغلق من سياج التلمود ليس من صنع العداء المسيحي لأتباع الديانة اليهودية، بل هو التجسيد المتعمد للنظرة الضيقة والانفصالية التي يظهر اليهود من خلالها أنفسهم، فولدت عندهم الاستعلاء والانعزال وجعلتهم لا يلتفتون إلى ما عداهم من الشعوب الأخرى إلا من مقام عليائهم وتفوقهم، ومن خلال القناعة التي رصدوها في كتبهم الدينية عن (الصفوة) و(الشعب المختار)".
كما يفسر أثر التلمود في نمو النزعة الصهيونية، فيقول: "إن البيئة اليهودية في بلدان أوروبا الشرقية وما نعرفه عن سيطرة التلمود على حياة اليهود هناك كانت التربة الخصبة لنمو النزعات الصهيونية والقاعدة الجماهيرية للصهيونية السياسية فيما بعد". ويضيف معلقاً على حديث الصهيوني (شماريا لفين، 1867-1935م) عن أثر البيئة اليهودية التي عاشها داخل الجيتو والتربة التوراتية التلمودية ودورها في غرس بذور الصهيونية في نفسه، فيقول: "والبيئة التي يتحدث عنها الصهيوني لفين كانت هي وأمثالها تربة خصبة لغرس بذور الصهيونية. ولكن التلمود شيء وهذه البيئة المشبعة بروح التلمود هي شيء آخر... إن علاقة التلمود بالصهيونية من حيث كون التلمود عنصراً أساسياً من عناصر البيئة اليهودية في أوروبا الشرقية وروسيا، ليست علاقة مباشرة بقدر ما هي ترجع إلى كيفية فهم اليهود للتلمود ولتعاليم معينة فيه بنوع خاص. فالصهيوني الإسرائيلي بن غوريون يعرف ما يقول حين ينسب إلى (رؤيا الخلاص المسيائي) ذلك الدور الرئيسي في توجيه الشؤون والمصائر اليهودية نحو الوجهات المعروفة".
إن إدراك الحاخامات الأرثوذكس لتلك الحقيقة ودور التلمود في صقل وتشكيل العقلية والشخصية الصهيونية، هو الذي جعلهم يدافعون عن التلمود دفاعاً مستميتاً، لأنهم يعتبرونه هو "المسئول عن إعطاء الصهيونية (شكلها) الأيديولوجي المتناهي في الأسطورية".
واليهود أنفسهم يعترفون أنهم عاشوا طوال سنوات الشتات في أحياء الجيتو وهم يعتقدون أن الجيتو مكان مؤقت "يحفظ الله فيه الأمة وروحها إلى أن يحين الوقت الذي يشاء فيه أن يعيد (شعبه) إلى (أرضه) وحريته". ويؤمن اليهود بعقيدة المسيح المنتظر (المسيا أو الماشيح) الذي هو من نسل داود، وأنه سيجمع (شتات) اليهود ويعود بهم إلى الأرض المقدسة ويحرر (أرض إسرائيل). جاء في قانون "الإيمان اليهودي": "إن ما ضمن بقاء الشعب اليهودي عبر الأجيال، وأدى إلى خلق (دولة) هو رؤيا المسيح المنتظر لدى أنبياء إسرائيل، ورؤية خلاص الشعب اليهودي ومعه الإنسانية جمعاء! و(دولة إسرائيل) هي أداة لتحقيق هذه الرؤيا عن المسيح المنتظر".
ومن الجدير بالذكر أن اليهود يفرقون بين (أرض إسرائيل ودولة إسرائيل): "فـ(دولة إسرائيل) التي أقاموها الآن في فلسطين هي في عقيدتهم ليست (أرض إسرائيل) كلها وإنما أقاموها حتى يوطئوا ويهيئوا الجو وييسروا الإسراع بمجيء المسيح المنتظر الذي سيحكم (أرض إسرائيل) وليس (دولة إسرائيل) فقط".
وقد كان ديفيد بن غوريون أكثر اليهود الصهاينة الذين أفصحوا عن حقيقة الحركة الصهيونية وأنها تمثل الرؤية المسيحانية لدى اليهود، وأنه أكثر من أظهر الناحية المسيحانية في الحركة الصهيونية، واعترف أنها لم تكن فكرة بنسكر أو هرتزل أو غيره من قادة الحركة الصهيونية ولكنها هي عقيدة المسيا التي حافظت على أمل وحلم اليهود في العودة إلى فلسطين: "إن فكرة العودة إلى صهيون وإحياء الدولة اليهودية ليست من اختراع بنسكر أو هرتزل. فالرؤية والأمل هما بعمر الغربة ذاتها، لا بل يرجعان إلى ما قبل خراب الهيكل الثاني. وجل ما فعلته الصهيونية السياسية هو محاولة إرساء هذه الفكرة القديمة. بجذورها العميقة في حياة الشعب على أساس الحاجات المادية لدى اليهود الأوربيين، في القرن التاسع عشر، والبحث عن طريق عمل ناجحة لتحقيق الفكرة".
ويضيف: "من المستحيل أن نفهم كل شيء حدث في أيامنا – إعادة (الدولة اليهودية) وهجرة عشرات الآلاف من اليهود الذين ما سمعوا قط بأسماء (هس) و(بنسكر) و(هرتزل) وربما لم يسمعوا أبداً حتى بكلمة الصهيونية - دون أن نأخذ بعين الاعتبار رؤيا الخلاص المسيائي التي تنغرس جذورها في أعماق قلب (الشعب اليهودي)، ليس فقط منذ خراب الهيكل الثاني، بل منذ أيام الأنبياء الأوائل، إن لم يكن قبل الارتحال من مصر". بل هو يرجع إلى تاريخ أبعد من ذلك: "إن الصهيونية الحقيقية لم تبدأ بهرتزل ومؤتمر بال، ولا بوعد بلفور، ولا بقرارات الأمم المتحدة 1948م لكنها بدأت يوم وعد الله أبانا إبراهيم وعده.... ".
علمانيي وطني حجبت عنهم علمانيتهم فهم الغايات السياسية في اليهودية كدين، وإدراك المعنى السياسي في التوراة (عقيدة المسيا)، تلك هي الحقيقة التي جمعت اليهود ووحدت شعورهم بأنهم (جنسية واحدة) على اختلاف أعراقهم، التمسك بالحلم المسيحاني وبأرض فلسطين لإقامة (دولة يهودية) عليها لتكون أداة لَمْ شمل اليهود المنفيين تهيئةً لمجيء المسيح لا يختلف عليها أحد من اليهود. لقد استطاعت اليهودية كدين وليس كثقافة أن تحافظ على ربط اليهودي من أي جنسية كانت بما أدعته (أرض الميعاد) طوال تاريخهم، ولم يكن ذلك الارتباط ارتباط ديني وروحي فقط، ولكن ارتباط سياسي أيضاً! يقول (إبراهيم عبد الكريم):
"على خط الاتصال بين الماضي والمستقبل في اليهودية، خلافاً للحالة اللاهوتية الغربية التي استقلت عن السياسة، لذلك ظلت الصهيونية تحتوي داخلها استمرارية العلاقة التقليدية بين اليهودية والسياسة، وبقيت الرؤية اليهودية في جميع أشكالها ترفض الفصل بين الدين والدولة. وحافظت الصهيونية على بنيتها الخاصة ، فانطوت على التعددية في هويتها الذاتية (بتعبيراتها الدينية والأيديولوجية والسياسية) إلى جانب التماثلية في هويتها العالمية (بتعبيراتها شبه القومية) واتسمت التوجهات الصهيونية بجهوية متكاملة عبر التركيز على نقل اليهودي/ الإنسان من فضاء الانعتاق والمواطنة إلى أسر الانتماء لمعزل أيديولوجي قوامه الأمة اللامكانية المصطنعة المتمايزة عن محيطها الاجتماعي، وتسخير هذه الأمة في مشروع سياسي متعدد الأهداف".
كما أنه يعني خطأ قراءة مؤرخي الصهيونية العلمانيين وزعمهم أن عقيدة عودة اليهود إلى فلسطين في العقيدتان اليهودية والنصرانية عودة سلمية تحدث عند عودة/بعث المسيح آخر الزمان، ولكنهم لا يقولون لنا أن تلك العقيدة بعد نشأة حركة القبالاه اليهودية ونشأة المذهب (البروتستانتي التوراتي النصراني ظاهراً) بعدها بقرون قد تغيرت وتم عكسها؛ فبدل أن كانت عودة/بعث المسيح شرط لعودتهم أصبحت عودتهم إلى فلسطين أولاً شرط لعودة/بعث المسيح! وأصبحت في القبالاه اليهودية عودة بالجهود اليهودية الذاتية وبمساعدة العالم كله، وفي المذهب (البروتستانتي التوراتي) مشروطة بمساعدة اليهود وإعادتهم إلى فلسطين. أي أن عودة اليهود إلى فلسطين يجب أن تسبق عودة المسيح عليه السلام لدى النصارى، أو بعث المسيح الدجال لدى اليهود!
في الحلقة القادمة سنعرض لنشأة وتطور فكرة الخلاص المسيحاني منذ السبي البابلي ...
التاريخ: 15/7/2019