هل يمكن التغلب على الأوبئة دون تدمير الاقتصاد وشلّ مظاهر الحياة؟
د. إبراهيم التميمي*
أدى خروج فايروس كورونا من الصين وانتشاره في معظم دول العالم حتى تجاوز عدد الإصابات المليون وزاد عدد الوافيات عن 70 ألف إلى استنفار الدول التي انتشر فيها الوباء، ودفعها إلى فرض إجراءات تحدُّ من التنقل والتواصل الفيزيائي بين الناس والازدحام والتجمعات الكبيرة. وهذه الإجراءات كان لها انعكاس على عجلة الحياة والاقتصاد في تلك الدول؛ وتراوح تأثيرها بين شلل كلي وتأثير سلبي شديد على الاقتصاد، وهذا حصل في الدول التي اتخذت إجراءات منع التجوال وفرض الحجر المنزلي الإجباري، وبين شلل جزئي وتأثير سلبي متوسط على الاقتصاد وهو ما حصل في الدول التي لم تفرض الحجر المنزلي الإجباري ولكنها حدت من التنقل والتجمع والتواصل بين الناس.
وحصل انقسام بين السياسيين والاقتصادين والخبراء والحكومات على مستوى العالم إلى ثلاثة فرق؛ فريق يريد إنقاذ الاقتصاد ولو على حساب الجانب الصحي وتفشي المرض، وفريق يرى أنه يجب التركيز على الجانب الصحي ولو أدى ذلك إلى انهيار الاقتصاد، وفريق يريد التغلب على الوباء دون تدمير الاقتصاد ولكنه يتخبط بين إجراءات الفريق الأول والثاني دون إتباع سياسة واضحة لذلك! فهل من الممكن اتخاذ سياسة تنجح في التغلب على الوباء دون تدمير الاقتصاد؟؟ وهل قامت إحدى الدول بإتباع سياسة التغلب على الوباء دون تدمير الاقتصاد؟! وهل ما زال المجال متاحا لإتباع تلك السياسة؟ وما الذي يعيق إتباع تلك السياسة؟ وما الذي سوف يحصل في حال إصرار العالم على المضي قدماً في السياسة الحالية المتبعة؟
هل من الممكن إتباع سياسة تنجح في التغلب على الوباء دون تدمير الاقتصاد؟
نعم، وذلك سهل وميسور بإتباع سياسة بيّنها الإسلام واتبعها المسلمون منذ 1400 عام، وتقوم تلك السياسة على حصر الوباء في مكان انتشاره بالتزامن مع استمرار نشاطات الناس ومنها الاقتصادية في الأماكن الأخرى دون توقف وكلما كانت هذه السياسة مبكرة كلما كانت أنجع، فمثلاً كان يمكن إغلاق مدينة ووهان في الصين وحصر الفايروس في تلك البقعة وترك الحياة على طبيعتها ليس خارج الصين فحسب بل خارج مدينة ووهان، ولكن عدم شفافية الصين وأنانيتها وتقديمها لمصالحها على كل شيء، وتأخرها في منع الدخول والخروج إلى المدينة، وخطأ ما يسمى بإجلاء رعايا كل دولة، والسماح لهم بالعودة إلى بلادهم، وإرسال تلك الدول الطائرات لإحضارهم، أدى كل ذلك إلى خروج المرض من المدينة ثم من المقاطعة ثم من الدولة وأخيراً إلى الدول الأخرى التي ترددت أيضاً في إغلاق حدودها في وجه القادمين والمغادرين كخطوة دفاعية على التقصير الصيني، فوصل لها المرض وانتشر.
هل قامت إحدى الدول بإتباع سياسة التغلب على الوباء دون تدمير الاقتصاد وهل ما زال المجال متاحا لإتباع تلك السياسة؟
إلى الآن لا يوجد أية دولة قامت بإتباع تلك السياسة بشكلها المضبوط ولكن رغم ذلك ما زال المجال متاحا لإنقاذ الوضع رغم التأخر الحاصل، والأمر ليس بالشيء المعقد بل يكون من خلال التركيز على حصر الوباء وحجر المرضى وليس حجر كافة الناس ووقف نشاطات الحياة، وآليته تكون بحصر الوباء ضمن دائرة واسعة ومن ثم أضيق فأضيق حتى تنتهي بدائرة الأشخاص المصابين دون وقف عجلة الاقتصاد، أي أنها تقوم على إغلاق حدود الدولة ومنع الدخول والخروج منها واستمرار الحياة على طبيعتها داخل الدولة إن كانت الدولة سليمة، أما إن كانت مصابة فتنتقل إلى إغلاق مداخل ومخارج المدن المصابة مع استمرار الحياة على طبيعتها خارج تلك المدن، أما داخل المدن فيتم إغلاق الأحياء والقرى المصابة مع استمرار الحياة على طبيعتها خارج تلك الأحياء والقرى، أما داخل القرى والأحياء المصابة فيتم حجر المصابين مع استمرار الحياة على طبيعتها إن أمكن أو أن يطلب من الناس المكوث في بيوتهم خاصة في حالة الأمراض شديدة الخطورة والتي ترتفع فيها نسبة الوافيات، ولكن ذلك يجب أن يتزامن مع توفير الدولة وبشكل مجاني لكل مستلزمات الناس وحاجاتهم الأساسية بسبب الحجر في تلك المناطق من طعام وغذاء ودواء وطواقم طبية ومبانٍ.
ما الذي يعيق إتباع تلك السياسة؟
1. النظرة المادية الرأسمالية وجشعها:
سياسة حصار الوباء خاصة في مراحله الأولى لا شك أنها تؤثر على الاقتصاد بشكل سلبي، ولكنها لا تؤدي إلى انهياره ويبقى تأثيرها محدودا وسرعان ما يتعافى، لأن الحياة ونشاطاتها تبقى مستمرة وكذلك الإنتاج يبقى مستمرا، وحتى خروج المنتجات من المدن والدول التي يفرض عليها الإغلاق يبقى مستمرا -إن كان لا يشكل خطرا في نقل المرض- ولكن الذي يُمنع بشكل كامل هو دخول وخروج الناس، ولكن لأن الدول الرأسمالية تقدّس المادة على حساب كل شيء، ولا تريد خسارة دولار واحد، فقد رفضت اتخاذ الإجراءات الكفيلة بحصار المرض بشكل مبكر خوفاً على الاقتصاد من خسائر محدودة وطمعاً في أن يختفي المرض دون خسائر اقتصادية ولو بسيطة أو طمعاً في أن ينتشر المرض ويأخذ معه كبار السن والمرضى وغير المنتجين وتبقى عجلة الاقتصاد دائرة (عصفورين بحجر واحد)، فما أن تفشى المرض حتى أُجبرت تلك الدول تحت ضغط الرأي العام وتداعي القطاع الصحي، على اتخاذ إجراءات كثيرة أثرت على الاقتصاد بشكل سلبي أضعاف ما تجنبته تلك الدول في البداية!!
2. الدساتير الغربية الوضعية وما فيها من قوانين تقيد صلاحيات الدولة في الحجر والإغلاق:
وهذا يلاحظ بشكل خاص في الدول الكبرى، فمثلاً القانون الأمريكي يمنع إغلاق الولايات ومنع الدخول والخروج منها، وحينما أرادت بعض الولايات القيام بذلك تراجعت لتهديد الأخرى برفع قضايا عليها، وبالتالي فإن أمريكا مقبلة على مزيد من الانتشار، وهي في ذات الوقت لا تريد فرض الحجر المنزلي الإجباري لمنع انهيار الاقتصاد، وهنا اجتمع استمرار الحياة مع عدم حصار الوباء، وبالتالي النتيجة سوف تكون كارثية على الاقتصاد والصحة، وهي على النقيض من سياسة "استمرار الحياة مع حصر الوباء"، وما يحصل في أمريكا مشابه لما يحصل في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وبقية دول أوروبا التي تحاول أن توازن بين قوانينها القائمة على الحريات وحفظها وبين سياسة فرض الإغلاق والحجر والتقييد، فتلجأ إلى سياسة التقليل من انتشار الوباء وليس حصاره مع استمرار عجلة الاقتصاد بالدوران، وهذا نتيجته كارثية لا تختلف كثيراً عن سياسة إنقاذ الاقتصاد على حساب الصحة وإن كانت أقل سوءاً منه، وفي المحصلة قد تنهار الصحة وتخرج الأمور عن السيطرة وبالتالي يسقط الاقتصاد.
3. النزعة الاستبدادية وسطوة السلطة وانعدام النظرة الرعوية والسياسية في التعامل مع الوباء ومع الناس:
وهذا يلاحظ في دول عدة حول العالم، مثل الهند وكذلك عند معظم الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين التي انتشر فيها المرض، حيث تم فرض حظر للتجوال وحجر إجباري للناس في البيوت ووقف الاقتصاد وحركة الناس ونشاطاتهم بشكل شبه كامل واستخدام القوة لفرض ذلك، وتلك الإجراءات أقرب ما تكون إلى سياسة حجر الناس منها إلى سياسة حصر الوباء وإن كانت في النتيجة تحققه ولكن مع دمار اقتصادي وبطالة وملل وفقر وجوع وعوز لا يقل خطورة عن انتشار المرض، وهو ما قد يدفع الناس في النهاية لكسر الحجر وبالتالي تفشي المرض بعد خسارة الاقتصاد وبذلك يخرج الناس والحكومات بخفيّ حُنين!!
ما الذي سوف يحصل في حال إصرار العالم على المضي قدماً في السياسة الحالية المتبعة؟
من يشاهد ما يحصل في معظم دول العالم التي انتشر فيها المرض يجد أن الحكومات حصرت الناس بين خيارين؛ إما الحجر المنزلي والدمار الاقتصادي والفقر والجوع، أو الإصابة بالمرض وتفشي الوباء، ومن ثم كيّفت الحكومات إجراءاتها وفق أحد الخياريين، وفي الحالتين ستكون النتائج وخيمة إما على الصحة وإما على الاقتصاد وأما على الإثنين معاً.
إن سبب الارتباك الحاصل في العالم اليوم هو عدم وجود دولة إسلامية تضع معالجاتها الصحيحة للكوارث والأوبئة موضع التطبيق، فيتم احتواء الكوارث قبل وقوعها وتحاصر الأمراض قبل انتشارها وتكون الدولة مستعدة في حال تفشيها لتتغلب على الوباء دون أن تضحي بالاقتصاد، وتحمي الاقتصاد دون أن تتاجر بصحة الناس أو تتهاون فيها، وتقدم للعالم نموذجا عمليا في كيفية التعامل الصحيح مع الكوارث والأوبئة، ووجب على أمة الإسلام التي كرمها الله بهذه الرسالة العظيمة أن تسعى من فورها لإقامة دولة الإسلام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لإنقاذ نفسها والبشرية مما هي فيه من بؤس وشقاء.
ملاحظتان:
- سياسة حصر الوباء مع استمرار نشاطات الحياة وعجلة الاقتصاد لا تتعارض مع إجراءات الصحة والسلامة والنظافة والتعقيم وتقليل الازدحام والاختلاط وإجراء مسح طبي واسع بأخذ عينات وإجراء فحوصات للناس لحصر المصابين والحاملين للمرض، فهذه إجراءات لازمة وضرورية في حال ظهور وباء في دولة ما وتتخذ داخل المدن والقرى المصابة وخارجها وفي كل مكان وهي لا توقف الاقتصاد ولا تشل عجلة الحياة.
- الاقتصاد الذي نتحدث عنه في المقال هو الاقتصاد الفعلي الحقيقي القائم على إنتاج السلع وتوفير الخدمات، وإنقاذه يكون باستمرار عمل المصانع والعمال والمتاجر والقطاع الصحي والمكاتب والمؤسسات... أما الاقتصاد الوهمي القائم على البورصات وأسواق المال والمضاربات والربا فهو أوهن من بيت العنكبوت وأزمة مثل انتشار فايروس كورونا كفيلة بزلزلة أركانه وإدخاله مرحلة السقوط الحر.
*عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين