عن التغيرات المحتملة في النظام الدولي
14.05.2020
مروان قبلان
العربي الجديد
الاربعاء 13/5/2020
أثار تفشي وباء كورونا وتسجيل دول الغرب الصناعية الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، فشلاً كبيراً في توقعه، والتصدّي له، سؤالاً ينشغل بعضهم اليوم في محاولة الإجابة عنه، وهو ما إذا كان الوباء وتداعياته، الاقتصادية خصوصاً، قد يؤديان، أو يعجّلان في حصول تغيرات كبرى في بنية النظام الدولي، وبصورة أكثر تحديداً تسريع صعود الصين الى مرتبة القوة العظمى في العالم. وبمقدار ما يعدّ هذا السؤال مشروعاً، باعتبار أن التحولات الكبرى في النظام الدولي على مدى قرون جاءت لأسباب مرتبطة بكوارث طبيعية (أوبئة، أمراض، تغيرات بيئية... إلخ) أو من صنع الإنسان (حروب، وأزمات دولية) أو كليهما معاً، إلا أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالسهولة التي يراها المتحمسون لنظرية سقوط الغرب، أو المتهكمون على فرضية صعود الآخرين.
هناك تفاصيل صغيرة، لكنها مهمة، في المشهد العالمي تجعل التفاعلات التي تجري في بنية النظام الدولي اليوم مختلفةً عن التي حصلت خلال القرن الماضي، عندما تحوّل مركز الثقل من مكان إلى آخر. ففي المناسبات السابقة، كانت الفجوة تتسع باضطراد بين القوة الحاكمة في النظام الدولي وهي في حالة انحدار والقوة الصاعدة وهي في حالة ارتقاء، فعندما كانت الولايات المتحدة تتجه إلى أن تحل محل بريطانيا في موقع القوة العظمى مطلع القرن العشرين، مثلاً، كان الاقتصاد البريطاني في تقهقر وانحدار، والاقتصاد الأميركي في نمو وازدهار. وكانت المؤشرات على تزايد الفجوة بين الاقتصادين، الأميركي والبريطاني، برزت منذ نهاية الحرب الأهلية الأميركية (1860 - 1866) وبلغت ذروتها عام 1876 عندما تجاوز الاقتصاد الأميركي بحجمه الاقتصاد البريطاني، وحل الدولار محل الإسترليني عملةً عالميةً مطلع القرن العشرين.
في الحالة التي نعيشها اليوم، نجد أن الاقتصاد الصيني قد نما بسرعة خلال العقود الثلاثة الماضية، وكان يتضاعف كل سبع سنوات تقريباً، ليقترب من حجم الاقتصاد الأميركي. وفي المقابل، لا نجد الاقتصاد الأميركي في حالة انحدار، بل كان يتمتع، حتى ضرب وباء كورونا، بمؤشرات جداً قوية. الأهم من ذلك أن الاقتصاد الصاعد (الصين) يعاني مشكلات أكثر من الاقتصاد المفترض أنه في حالة انحدار (أميركا)، فالمؤشرات التي غالباً ما تُساق للدلالة على هشاشة الاقتصاد الأميركي تعاني الصين منها بصورة أكبر. من ذلك، مثلاً، حجم الدين العام، فكثيرون يسلطون الضوء على التزايد الكبير في حجم الدين الأميركي، والذي قفز أخيراً، بعد إجراءات الدعم والتحفيز التي قرّرتها إدارة الرئيس ترامب لمواجهة كورونا، إلى نحو 23 تريليون دولار (105%من الناتج الإجمالي القومي)، لكن قلة يذكرون، في المقابل، أن الدين الصيني تجاوز هذا العالم 35 تريليون دولار، أي أنه أكبر من الدين الأميركي، علماً أن الاقتصاد الصيني يشكل نحو 65% من الاقتصاد الأميركي. هذا يعني أن الدين الصيني بلغ نحو 250% من الناتج الإجمالي القومي (14 تريليون دولار تقريباً)، وهناك مخاوف حقيقية من انفجار فقاعة الدين الصينية، وحصول انهيار اقتصادي شامل.
المؤشر الثاني الذي يستخدم عادة للحديث عن هشاشة الاقتصاد الأميركي، وهو مرتبط بشكل وثيق بالأول، أن هذا الاقتصاد استهلاكي، في حين أن الاقتصاد الصيني ادّخاري. ولكن أزمة كورونا تبين أن الاستهلاك ليس بالضرورة نقطة ضعف، والادّخار ليس بالضرورة نقطة قوة، كيف؟ معروفٌ أن الطبيعة الاستهلاكية للاقتصاد الأميركي تجعل نحو 80% من الناتج الإجمالي الأميركي داخلي المنشأ. أما حجم صادرات أميركا إلى العالم فهي لا تتجاوز 8% من الناتج الإجمالي القومي (1.7 تريليون دولار). هذا يجعل الاقتصاد الأميركي غير معتمد في نموه على الطلب الخارجي، لأن معظم الإنتاج يتم استهلاكه داخلياً. أما الاقتصاد الصيني فهو يعتمد أكثر على الطلب الخارجي، لضعف الاستهلاك الداخلي. ولذلك عندما تمكّنت الصين من احتواء الوباء، وفتحت الاقتصاد قبل غيرها، لم يتغير الوضع كثيراً، لأن الطلب العالمي ما زال ضعيفاً بفعل كورونا. هذا يعني أن تأثير كورونا قد يكون أكبر على الصين منه على الولايات المتحدة. لذلك يجب أن نكون أكثر حذراً ربما في الحديث عن تغيراتٍ عميقة في بنية النظام الدولي، على الرغم من إدارة الرئيس ترامب السيئة للأزمة.
14.05.2020
مروان قبلان
العربي الجديد
الاربعاء 13/5/2020
أثار تفشي وباء كورونا وتسجيل دول الغرب الصناعية الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، فشلاً كبيراً في توقعه، والتصدّي له، سؤالاً ينشغل بعضهم اليوم في محاولة الإجابة عنه، وهو ما إذا كان الوباء وتداعياته، الاقتصادية خصوصاً، قد يؤديان، أو يعجّلان في حصول تغيرات كبرى في بنية النظام الدولي، وبصورة أكثر تحديداً تسريع صعود الصين الى مرتبة القوة العظمى في العالم. وبمقدار ما يعدّ هذا السؤال مشروعاً، باعتبار أن التحولات الكبرى في النظام الدولي على مدى قرون جاءت لأسباب مرتبطة بكوارث طبيعية (أوبئة، أمراض، تغيرات بيئية... إلخ) أو من صنع الإنسان (حروب، وأزمات دولية) أو كليهما معاً، إلا أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالسهولة التي يراها المتحمسون لنظرية سقوط الغرب، أو المتهكمون على فرضية صعود الآخرين.
هناك تفاصيل صغيرة، لكنها مهمة، في المشهد العالمي تجعل التفاعلات التي تجري في بنية النظام الدولي اليوم مختلفةً عن التي حصلت خلال القرن الماضي، عندما تحوّل مركز الثقل من مكان إلى آخر. ففي المناسبات السابقة، كانت الفجوة تتسع باضطراد بين القوة الحاكمة في النظام الدولي وهي في حالة انحدار والقوة الصاعدة وهي في حالة ارتقاء، فعندما كانت الولايات المتحدة تتجه إلى أن تحل محل بريطانيا في موقع القوة العظمى مطلع القرن العشرين، مثلاً، كان الاقتصاد البريطاني في تقهقر وانحدار، والاقتصاد الأميركي في نمو وازدهار. وكانت المؤشرات على تزايد الفجوة بين الاقتصادين، الأميركي والبريطاني، برزت منذ نهاية الحرب الأهلية الأميركية (1860 - 1866) وبلغت ذروتها عام 1876 عندما تجاوز الاقتصاد الأميركي بحجمه الاقتصاد البريطاني، وحل الدولار محل الإسترليني عملةً عالميةً مطلع القرن العشرين.
في الحالة التي نعيشها اليوم، نجد أن الاقتصاد الصيني قد نما بسرعة خلال العقود الثلاثة الماضية، وكان يتضاعف كل سبع سنوات تقريباً، ليقترب من حجم الاقتصاد الأميركي. وفي المقابل، لا نجد الاقتصاد الأميركي في حالة انحدار، بل كان يتمتع، حتى ضرب وباء كورونا، بمؤشرات جداً قوية. الأهم من ذلك أن الاقتصاد الصاعد (الصين) يعاني مشكلات أكثر من الاقتصاد المفترض أنه في حالة انحدار (أميركا)، فالمؤشرات التي غالباً ما تُساق للدلالة على هشاشة الاقتصاد الأميركي تعاني الصين منها بصورة أكبر. من ذلك، مثلاً، حجم الدين العام، فكثيرون يسلطون الضوء على التزايد الكبير في حجم الدين الأميركي، والذي قفز أخيراً، بعد إجراءات الدعم والتحفيز التي قرّرتها إدارة الرئيس ترامب لمواجهة كورونا، إلى نحو 23 تريليون دولار (105%من الناتج الإجمالي القومي)، لكن قلة يذكرون، في المقابل، أن الدين الصيني تجاوز هذا العالم 35 تريليون دولار، أي أنه أكبر من الدين الأميركي، علماً أن الاقتصاد الصيني يشكل نحو 65% من الاقتصاد الأميركي. هذا يعني أن الدين الصيني بلغ نحو 250% من الناتج الإجمالي القومي (14 تريليون دولار تقريباً)، وهناك مخاوف حقيقية من انفجار فقاعة الدين الصينية، وحصول انهيار اقتصادي شامل.
المؤشر الثاني الذي يستخدم عادة للحديث عن هشاشة الاقتصاد الأميركي، وهو مرتبط بشكل وثيق بالأول، أن هذا الاقتصاد استهلاكي، في حين أن الاقتصاد الصيني ادّخاري. ولكن أزمة كورونا تبين أن الاستهلاك ليس بالضرورة نقطة ضعف، والادّخار ليس بالضرورة نقطة قوة، كيف؟ معروفٌ أن الطبيعة الاستهلاكية للاقتصاد الأميركي تجعل نحو 80% من الناتج الإجمالي الأميركي داخلي المنشأ. أما حجم صادرات أميركا إلى العالم فهي لا تتجاوز 8% من الناتج الإجمالي القومي (1.7 تريليون دولار). هذا يجعل الاقتصاد الأميركي غير معتمد في نموه على الطلب الخارجي، لأن معظم الإنتاج يتم استهلاكه داخلياً. أما الاقتصاد الصيني فهو يعتمد أكثر على الطلب الخارجي، لضعف الاستهلاك الداخلي. ولذلك عندما تمكّنت الصين من احتواء الوباء، وفتحت الاقتصاد قبل غيرها، لم يتغير الوضع كثيراً، لأن الطلب العالمي ما زال ضعيفاً بفعل كورونا. هذا يعني أن تأثير كورونا قد يكون أكبر على الصين منه على الولايات المتحدة. لذلك يجب أن نكون أكثر حذراً ربما في الحديث عن تغيراتٍ عميقة في بنية النظام الدولي، على الرغم من إدارة الرئيس ترامب السيئة للأزمة.