بسم الله الرحمن الرحيم
قلب المسلم: طائر جناحاه الخوف والرّجاء
ليس غريبا أن يعيش الكافر في هذه الدّنيا وقد غفل عن الحياة الآخرة لا يخاف ما سيؤول إليه أمره فقد جحد نعمة خلق الله له وأنكر وجود الله واتّخذ إلهه هواه وسلّم نفسه للشّيطان يزيّن له الدّنيا وملذّاتها ويغويه بالشّهوات ليشبع غرائزه وحاجاته دون قيد ولا خوف.
لكن أن يكون هذا حال المسلم يسير على ما سار عليه الكافر فيغفل عن الآخرة وعن مصيره فيها فهذا أمر غريب غرابة عيشه في الحياة الدّنيا وقد غاب عنها شرع ربّه وأحكامه. فكيف للمسلم الذي آمن بالله ربّا وبنبيّه محمّد e رسولا وبالقرآن كتابا ودستورا أن يحيا وقد ألغي الإسلام من حياته، إلّا من بعض العبادات التي صارت عادات أشبه بما يؤدّيه النصارى في الكنيسة؟!
أنّى له العيش في ظلّ نظام رأسماليّ كافر فرض عليه حياة بُعْدٍ عن الله وعن هديه ونوره، حياة يجري فيها لا يلوي على شيء كلّ همّه تأمين حاجياته فمات قلبه وانعدم خوفه من الله، إلّا من رحم ربّي؟ لماذا تحوّل الكثير من المسلمين عن التّجارة الرّابحة وتمسّكوا بتجارة خاسرة مهلكة؟ لماذا غفلوا عن الآخرة وانشغلوا بالدّنيا الفانية؟ لماذا تحجّرت قلوب الكثيرين فباتوا لا يخشون عاقبة ذنوب ارتكبوها، وتراهم إمّا يتكبّرون عن نصح البعض لهم فتأخذهم العزّة بالإثم أو يتواكلون على رحمة الله فلا يهتمّون للذّنوب صغيرة كانت أو كبيرة ويردّدون "الله غفور رحيم"؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النّبي e فيما يرويه عن ربّه أنّه قال: «وَعِزَّتِي لَا أَجْمَعُ عَلَى عَبْدِي خَوْفَيْنِ وَأَمْنَيْنَ، وَإِنْ أَخَفْتُهُ فِي الدُّنْيَا أَمَّنْتُهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنْ أَمَّنْتُهُ فِي الدُّنْيَا أَخَفْتُهُ فِي الْآخِرَةِ».
ألم يقف هؤلاء على هذا الحديث القدسيّ؟ ألم يتدبّروا كلماته؟ ألم يهزّهم قسم ربّهم بعزّته؟ كيف يعيشون دنياهم في أمن وهم على يقين بأنّهم يحسنون فيها صنعا ثمّ يأملون العيش في هذا الأمن في الآخرة: هل اجتمع فيهم الأمنان؟ كيف هذا؟! قطعا لا يمكن حدوث ذلك وقد أقسم الله عزّ وجلّ بعزّته أن لا يجمعهما على عبده!
على المسلم إذاً أن يحسن ظنّه بالله كما أنّ عليه أن يخاف عقابه. وحتّى يسير سيرا سليما في هذه الدّنيا وجب عليه الجمع بين الاثنين حتَّى يَلْقى الله سبحانه وتعالى، عليه أن يمشي في الأرض يبتغي في أعماله حلالها ويتجنّب حرامها، يخشى ربّه ويرجو ثوابه ولا يَغُرّه عمله فيحسبه منجّيه وينسى رحمة الله وفضله. عن أنس بن مالكٍ رَضِي اللهُ عَنْه: «أَنَّ النَّبِيَّ e دَخَلَ عَلَى شَابٍّ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ أَرْجُو اللَّهَ وَأَخَافُ ذُنُوبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e: لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُو وَآمَنَهُ مِمَّا يَخَافُ».
هذا ما يجب أن يكون عليه المسلم؛ خائفا وراجيا. إذ يدفع الخوفُ والرَّجاءُ من الله تعالى الإنسانَ إلى العمل الصّالح وإلى حسن الظّنّ بالله وبرحمته، فهما السّبيل للنَّجاة من النّار ودخول الجنَّةِ. هذا ما بلّغه e لأُمّته وهذا ما سعى إلى غرسه في نفوس صحابته وجميع المسلمين. أكّد عليهم أن يلزموا الخوف من الله وأن لا يأمنوا زيغهم وابتعادهم عن هدي ربّهم. عليهم أن يدعوه؛ يسألونه الثّبات كما كان عليه الصّلاة والسّلام يفعل. فقد كان دائم السّؤال يلحّ على ربّه أن يثبّت قلبه على دينه وعلى طاعته! فهذا رسول الله وحبيبه الذي غفر له ما تقدّم وما تأخّر ووعد بالجنّة، فكيف بنا نحن؟! فأين نحن من الحبيب المصطفى الذي جمع بين الخوفِ والرَّجاءِ، والرَّغبةِ والرَّهبةِ ووعى على عظم هذا الأمر فسار في الدّنيا يعبد الله حقّ عبادته حتّى لقاه غير مبدّل ولا مفتون ونال ثواب الله ومرضاته وفاز بجنّته؟
على المسلم أن ينفطر قلبه إن قام بذنب أو فرّط في واجب أو غفل عن أمر من أمور دينه وعليه أن يخشى طوال حياته من غضب الله وانتقامه وأن يخاف عذاب النّار. هذا الخوف هو السّراج الذي ينير قلبه فإن فارَقه خرب هذا القلب وضاع صاحبه وفسدت أعماله. فكيف للمسلم اليوم أن يضمن رضوان ربّه ويحيا في هذه الدّنيا غير خائف من مصيره في الآخرة وكأنّه على يقين بالفوز؟! كيف يسير في الدّنيا وقد غفل عن هذا الأمر الجلل الذي يقيه شرّ القيام بالمعاصي ويحول دونه ودون الشّهوات فيتّقي الوقوع في الآثام والقيام بالمحرّمات؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً﴾. فالخوف يحثّه على أن يقوم بالصّالحات ويترك المحرّمات ولكن دون أن يتحوّل إلى خوف مذموم يؤدّي به إلى اليأس والقنوط من رحمة الله و﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾. فالمسلم يطمع في نيل رضا الله ومحبّته وثوابه وفي أن يكون من أهل الجنّة ويفوز بنعيمها. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.
فطمع المسلم هو رجاؤه في عطاء ربّه وهو ما يدفعه على الاستمرار في العمل الصّالح فيتنافس في الخيرات ويجتهد في إكثار الطّاعات وقد تعلّق قلبه بالجنّة ونعيمها وصار يجاهد نفسه ويمنّيها بما وعد الله به المتّقين في الدّار الآخرة ويستغلّ وقته في كلّ ما يعود له بالخير والمنفعة فيها. عليه أن يكون ذا قلب حيّ ينبض بحبّ الله... ويحلّق كطائر بجناحيه! يقول ابن القيّم: "القلبُ في سيره إلى الله عزّ وجلّ بمنزلة الطّائر؛ فالمحبّة رأسه والخوف والرّجاء جناحاه". فالخوف والرّجاء هما جناحا قلب المسلم ولا يمكنه الطّيران ولا التّحليق لبلوغ غايته إن فقد أحدهما. فحين يمسك المسلم كتاب الله ويرتّل آياته يصيبه الخوف والهلع من تلك الآيات التي يتوعّد الله فيها الكفّار والمنافقين وينتابه القلق خوفا أن يكون منهم، وحين يقرأ الآيات التي يعد فيها المؤمنين بالنّعيم وبصحبة الرّسول e يسعد بذلك ويشتاق لبلوغ مرتبة هؤلاء ويسأل ربّه أن لا يحرمه ذلك ويكون منهم.
وبذلك فإنّ علم المؤمن بالعذاب العظيم يدفعه للخوف وعلمه في سعة الله ورحمته يجعله يأمل ويرجو ربّه. قال عليه الصّلاة والسّلام: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ بِجَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ مَا قَنَطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ».
وعليه لا بدّ للمسلم أن يكون بين المقامين: مقام الخوف ومقام الرّجاء، وأن يكون متوازنا لا يغلّب أحدهما على الآخر، فإن غلبته نفسه ودعته إلى معصية فعليه أن يتذكّر الخوف والعقاب من الله، وإن دعته للابتعاد عن الأعمال الصّالحة فعليه أن يعود إلى ذكر الله وإلى استحضار رحمته ومغفرته. قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾. يسير على هدي نبيّه عليه الصّلاة والسّلام وسائر الأنبياء الذين عبدوا ربّهم خوفا وطمعا. قال تعالى: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾.
يعيش المسلم اليوم في ظلّ نظام رأسماليّ يفصل الدّين عن الحياة! نظام كفر لا يخاف الله ولا يرجو رحمته! نظام جاحد حقود على هذا الدّين وأهله فكيف يرضى المسلم بذلك؟ كيف يقبل العيش دون أحكام ربّه تطبَّق فيه؟ كيف يبقى دون إمام ينفّذ فيه أحكام الإسلام ويقيه شرّ الوقوع في شهوات الدّنيا؟ كيف يأمن عقاب ربّه وهو راض عن هذا الباطل؟ كيف لا يخاف غضب ربّه وقد عطّلت أحكامه وعادت البشريّة إلى الظّلمات والجاهليّة؟!
إنّ قلب المؤمن لا بدّ أن ينبض بحبّ الله ويحلّق كطائر يرفرف بجناحيه خوفا من الله وطمعا في رحمته فيبلغ عنان السّماء ويحيا الحياة التي يرضاها له ربّه ويكون بذلك بإذن الله من الفائزين. عليه أن يسارع لنشر الخير وإعادة نور الله ويعمل مع العاملين المخلصين فينصر دين الله ويرفع راية العقاب عاليا خوفا من أن يؤاخذه ربّه بما فعل السّفهاء وطمعا في نيل رضوانه بأن يكتبه من الصّالحين المصلحين.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
زينة الصّامت