الفيدرالية وجه آخر لدولة الشراذم الطائفية
(داوني بالتي كانت هي الداء)
ساسين عساف*
الدولة اللبنانية دولة إفتراضية كلّ طائفة فيها دويلة. فكيف لدولة من هذا النوع الخاصّ جدّاً أن تمارس سياسات عادلة بين المواطنين تبعاً لمفهوم العدالة والمساواة المحدّد في الدستور؟ (مقدّمة الدستور، الفقرة ج لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على... وعلى العدالة الإجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل.) فضلاً عن المادة 7 من الدستور: "كلّ اللبنانيين سواء لدى القانون وهم يتمتّعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحمّلون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرق بينهم."
دولة الشراذم الطائفية عبّرت بالشكل الأتمّ والمضمون الأتمّ عن تلك "الخصوصية" النابذة أصلاً لمفه وم العدالة والمساواة بين المواطنين فمثّلت "التجسيد الآثم" لواقع طوائفي نازع إلى الغلوّ والاطلاق في الحفاظ على "دويلاته."
هذا النزوع يظهر أنّ الطوائف لم تدرك مدى خطورة إنزلاقها في القضاء على فكرة بناء الدولة الوحدوية المستقلّة عنها بمؤسساتها السيادية وانعكاس ذلك إجهاضاً مباشراً وسريعاً لأحكام دستور أريد له أن يكون دستور دولة وحدوية (دستور 1926) فعمدت إلى تكريس "دويلاتها" في صيغة 1943 (صيغة دولة فيدرالية من نوع خاص) فحلّت الصيغة الميثاقية مكان الصيغة الدستورية لترسم ملامح دولة شبه إتّحادية نظامها السياسي والإداري والقضائي والأمني طوائفي بالكامل ثمّ جاء دستور 1991 ليجعل من تلك الملامح توصيفات لدولة إتّحادية تامّة باستثناء الإتّحادية الجغرافية ثبّتها في:
- [rtl]مقدّمته الفقرة (ي) حيث ورد: "لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك."[/rtl]
- [rtl]المادة 17 التي أناطت "السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء". [/rtl]
- [rtl]المادة (22) التي تنصّ على استحداث "مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية."[/rtl]
[rtl] [/rtl]
- [rtl]المادة (24) التي تنصّ على توزيع المقاعد النيابية بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين ونسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين ونسبياً بين المناطق وذلك "إلى أن يضع مجلس النواب قانون إنتخاب خارج القيد الطائفي." [/rtl]
- [rtl]المواد (52) والمادة (53) الفقرة 4 والفقرة 12 اللتين تنصّان على ممارسة رئيس الجمهورية لصلاحياته الواردة فيهما بالإتفاق مع رئيس الحكومة (إصدار مرسوم تشكيل الحكومة، دعوة مجلس الوزراء للإنعقاد إستثنائياً) [/rtl]
- [rtl]المادة (64) الفقرة 2 التي تنصّ على توقيع رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيل الحكومة.[/rtl]
- [rtl]المادة (65) الفقرة 5 التي تنصّ على أنّ المواضيع الأساسية يحتاج إقرارها إلى موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة المحدّد في مرسوم تشكيلها.[/rtl]
- [rtl]المادة (95) الفقرة ب التي تستثني من إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في وظائف الفئة الأولى وفي ما يعادلها فتكون مناصفة بين المسيحيين والمسلمين.[/rtl]
هذه الأحكام الدستورية المؤسّسة لبناء دولة إتحادية طوائفية استعصى تطبيقها منذ ثلاثين عاماً حتى اليوم وجرى بشأنها خلاف دائم حول تفسيرها حيناً وحول كيفية تطبيقها حيناً آخر وفي كلّ الأحيان حول عدم صلاحها للتطبيق.
نتيجة ذلك الإستعصاء يطرح السؤال:
أين هو المنطق في التشبّث بالصيغة الفيدرالية ما دام اللبنانيون بشراذمهم الطائفية لم يتكمّنوا من التوافق على تطبيق أحكام دستورية أوّلية بديهية وتأسيسية لها؟!
ما بال هؤلاء إذا أضيفت إلى هذه الأحكام/القواعد القاعدة الجغرافية؟!
وما شأنهم إذا أضيفت إليها قاعدة الإتفاق على السياستين الخارجية والدفاعية؟!
نعترف لهؤلاء بأحقية الكلام على الصيغة التي يريدون ولكن الفشل في تطبيق النموذج الإتّحادي الذي أظهرنا بعض أحكامه البسيطة لا يشكّل ضمانة نجاح في تطبيق النموذج الأشدّ تعقيداً.
يبدو أنّ التشبّه بتجارب الشعوب مغرية لدى البعض فتراهم يقفزون فوق حقائق التاريخ والمعطى الثقافي والديني والسياسي وطبائع الهويات الحضارية ومواقع البلدان الجغرافية والأطياف السكّانية والعلائق الوجدانية والمصلحية بينها ومثيلاتها من خارج الحدود، متناسين أن المعادلات الذهنية سهلة التركيب ولكنها لا تصنع وقائع على الأرض. الأفكار الرائعة والمشاهد الجميلة المستجلبة قد تهبط على مدمنيها من عالم لا صلة له بعالم هم ينتمون إليه ومن غير المنطقي البحث عن حلول لمشاكله من خارج بنياته القائمة حالياً واختباراته التاريخية.
من هذه البنيات الراهنة والإختبارات التاريخية أنّ زعماء الطوائف في لبنان، دينيين وزمنيين، هم واقعياً "رؤساء الدويلات" التي تتشكّل منها "دولة الشراذم الطائفية". وتيرة الإحتجاج على هذه الدولة لدى كلّ رئيس منهم تعلو بمقدار شعوره بابتعاد سياستها عن تأمين مصالح طائفته، وفق رؤيته ومصلحته الخاصة، ووتيرة الإندماج فيها ترتفع لديه وتشتدّ بمقدار شعوره بأنّها "دولته"، بمعنى أنّ "دويلته" حاضرة بقوّة فيها.
"دولة الشراذم" في رأي "هؤلاء الرؤساء" هي دولة كلّ منهم ويرون أنّ رئيسها ليس واحداً منهم بل هو رئيس دولة إفتراضية مطالب فقط بإدارة مصالح دويلاتهم وفق ما يسمّونه، تحويراً، التوازن الوطني.
الخطاب الرائج على ألسنة معارضي "رئيس الدولة" يترجم قناعاتهم بأنّ الدولة باتت لفريق دون الآخرين وأنّ فريقاً واحداً يسيطر على قراراتها الأساسية وسياساتها الخارجية والدفاعية ما يعني في رأي هؤلاء أنّ "الرئيس" لم يحسن إدارة تلك المصالح ولم يتمكّن من حماية التوازن بينها. لذلك فهم يطالبونه بإصلاح الخلل في تأمينها وإعادة التوازن إليها بتطبيق مبدأ المشاركة التحاصصية ويمسكون عنه الحقّ في هذه المشاركة، له أن يوقّع فقط على محاضر التحاصص المتّفق عليها فيما بينهم.
هذه بعض القواعد/النماذج التي اعتمدت في إدارة "دولة الشراذم الطائفية" والتي أذنت بنهايتها، وما انفكّ البعض يعمل على إحيائها بطرح الفيدرالية شبكة إنقاذ لها على طريقة "داوني بالتي كانت هي الداء..
- [rtl]كاتب لبناني وعميد سابق لكلية الآداب والعلوم الانسانية في الجامعة اللبنانية[/rtl]
[rtl]assafsassine@gmail.com[/rtl]