ظاهرة السبك الضعيف في الشعر ..كيف نتجنبها؟
أصدقائي الشعراء!
كثيرا جدا ما نقرأ تلك النصوص الشعرية التي تنطوي على ما يثير الدهشة من البلاغة والبيان وجمال المعاني ، ولكنها على الرغم من ذلك - وللأسف الشديد - تعاني من مشكلة ضعف السبك اللغوي، التي تتجلى بسيطرة اللغة النثرية على النص الشعري ، وهو ما يسيء لإيقاع الشعر الداخلي ويضعف استساغته. وكثير من الشعراء الحداثيين لا يعيرون هذا الأمر أي اهتمام ، كونهم منشغلين بابتكار الصور الشعرية والأفكار الشعرية المتميزة.
ومع احتياجنا الشديد جدا للابتكار في الصور الشعرية والأفكار إلا أن هذا لا يكفي الشاعر ولا يغنيه عن الاعتناء بالسبك والصياغة اللغوية لينقذ نصه من الترهل والخلخلة في موسيقاه الداخلية .
.
لكن كيف نحكم على اللغة الشعرية بأنها ضعيفة السبك ؟
.
لعل هناك أكثر من سببين لظاهرة ضعف السبك في الشعر الحديث أو الحداثي. لكننا سنقف هناعلى سببين اثنين فقط:
1- السبب الأول: كثرة الجمل القصيرة في البيت الواحد، (بعيدا عن حُسن التقسيم البديعي). .
فالأصل في قوة متانة التراكيب اللغوية الشعرية أن يكون البيت مسبوكا في قطعة واحدة، تتمثل بتراكيب لغوية طويلة تتيح قراءة البيت دفعة واحدة وبنَفَس واحد .
.
لكن عندما يكثر عدد الجمل القصيرة في البيت الواحد. فإن فرصة السكوت تكون متاحة بعد نهاية كل جملة قصيرة . وهذا السكوت يقطع القراءة ويفصل بين المفردات المتجاورة فتتشكل ثغرات صوتية بين المفردات تؤدي إلى موسيقا داخلية متخلخلة ومتقطعة تجعلنا نحكم بضعف السبك والصياغة .
.
2- السبب الثاني : اللغة النثرية
.
من مميزات الكلام النثري أن الأبنية اللغوية فيه تكون مبسوطة وممدودة وغير متراكبة المفردات، وذلك لوفرة ما تستعين به من الأدوات الرابطة والفاصلة بين التراكيب؛ لعدم احتياج النثر إلى التكثيف، ولاحتياجه إلى البسط في الأفكار ، فضلا عن أن الأبنية اللغوية النثرية التي تألفها الأذن هي التي لا تحفل بمسائل التقديم التأخير في الكلام لغاية أخرى خارج النحو . مثل تجميل الإيقاع الداخلي ؛ لذلك لا يضيرها الإكثار من ذكر الأفعال والأدوات التي تزيد من عدد المفردات كأحرف الجر وأسماء الإشارة وأدوات الربط التي تفيد التفصيل الدقيق وغيرها ، والتي يحسن الاستغناء عنها في الشعر بهدف التكثيف وتجنب الوقوع في الحشو،
فلا شي يمنعك من الإحساس بالوقع النثري عند قراءة مثل هذه التراكيب المبسوطة الممدودة في الشعر سوى وجود القافية التي تقفز فجأة وتذكرك بأن تقرأ شعرا .
.
مثال عن كثرة الجمل القصيرة وتأثيرها المخلخل للإيقاع الداخلي:
.
يقول عمر أبو ريشة (على إيقاع الهزج) :
.
تريَّث، إنهم آتونَ --------لن يتجنبوا الدربا
.
على مرمى خُطا منا --------نصبُّ حقودنا صبَّا
.
فلو قارنَّا بين البيتين من حيث قوة السبك للاحظنا أن أولهما ضعيف مخلخل في إيقاعه الداخلي؛ لأنه مكوَّن من ثلاث جمل قصيرة تتيح المجال لانقطاع القراءة ثلاث مرات .
في حين أن البيت الثاني يتكون نحويا من جملة فعلية واحدة طويلة مع متعلقاتها. فيقرؤه القارئ دفعة واحدة دون انقطاع. فيحس وقعه في الأذن وتبدو صياغته كما لو كان مسبوكا في قطعة واحدة .
.
مثال : عن اللغة النثرية ، هذا النص للشاعر كريم معتوق
.
النبلاء
.
بعدَ أنْ لانَتْ بنا أنيابُ هذا الهَجْرِ
ما ضرَّكِ لو أنّا بَقِينا أصدِقاءْ
وترَفَّعْنا عن اللومِ وعن كلِّ عِتابٍ
كلّما دارَ حديثٌ بينَنا عندَ اللِّقاءْ
فليَكنْ ما بينَنا سرْدُ حكايا
عن جُنونِ الطقْسِ والأسْفارِ
والعُمْلَةِ إذْ يعلو بها السَقْفُ
ولا تعرِفُ سَقْفَ الفُقراءْ
ولنَكُنْ أرْقَى قليلاً حينما نحتَرِمُ الهَجْرَ
فلا نذْكُرُ ساعاتِ التَلاقي
خلْفَ "كانتين " الدِراسات صباحاً
وعَلى المَقْهى مَساءْ
وسَنرْقَى حينَ لا نأتي على سيرَةِ عيدِ الحُبِّ
والوردِ الذي أُهْديهِ
إذْ ألْمَحُ في خدَّيْكِ ورداً وحياءْ
لا ولنْ أسألَ عَن دبْدُوبِ مِيلادِكِ
كي لا يبْتَدي فيكِ اخْتِناقٌ
وتَغَصِّينَ بريقٍ وتَغَصِّين بِماءْ
ودَعِينا لا نُعيدُ السيرَةَ الأولى برأسِ العامِ
والقُبْلَةَ إذْ نبدَؤُها قبلَ ثَوانٍ
ثُم نُنْهيها بُعَيْدَ العامِ في بضْعِ ثَوانٍ
لتقولي قُبلةٌ قدْ جَمَعَتْ عامينِ حدَّ الانتِماءْ
سنُراعي حُرْمَةَ البُعدِ فَلا أذْكُرُ سِرَّ الضِّحكَةِ الجَذْلَى
مُذِ امتَدَّ ذِراعي وَطَوَى خَصْرَكِ
إذْ مالَ بِلينٍ واشْتِهاءْ
سوفَ نغْدو ليسَ كالأغْرابِ
ما زالَ بِنا مِن ذلكَ الحبِّ الذي
يرفَعُنا ظلاًّ إلى ظِلِّ السماءْ
دونَهُ كلُّ مقامٍ نعتَلي بالكِبرياءْ
ومِنَ الأجْمَلِ إنْ نحنُ التقَيْنا
لا تَرُشّي عِطرَكِ الساحِرَ
كي لا يصْعُبَ الأمرُ فأنْهارُ حنيناً وبُكاءْ
منه ما زالتْ بقايا ،
سوطُ جَلادٍ بصدْري
وبمرعى رئتي ينْخُرُها حين يشاءْ
فاجْعَلي هذا رجاءْ
ومِن الصعبِ بأنْ لا ينثني طرْفي
إذا مرَّ بكِ الشارعُ
لا أحتَمِلُ الفكرَةَ أنْ يجمَعَنا يوماً جَفاءْ
ومنَ الصعْبِ إذا دارَ حديثٌ بكِ
أو يسألُكِ الأصْحابُ
مَن يُرضيكِ بينَ الشُعراءْ ؟
وتقولينَ نزارٌ ، عزّت الطيري ، غُرابٌ (1)
وإذا قالوا كريمٌ
فمِنَ المُبْكي إذا لمْ ترْفِديني بالثَناءْ
نحنُ جاوَزْنا بهذا الهَجْرِ
ما اعتادَ بهِ العُشاقُ في كلِّ فِراقٍ مَرَّ
مِن شتْمٍ وكُرْهٍ وعَداءْ
ماتَ فينا الحُبُّ ؟ أدْري
قد تَوارَى كضَميرٍ ماتَ
من غَيرِ عزاءْ
فدَعِينا نلتَقي مِن غيرِ إعْدادٍ وتحْضيرٍ
ولا أعْطابِ ذِكْرَى
كلِقاءِ النُبَلاءْ
.
فلو أننا أزلنا القوافي من هذا النص، واستبدلنا بها كلمات مرادفة لها في المعنى ولا تحافظ على حرف الروي نفسه ، لما استطعنا الإحساس بإيقاع الشعر على الرغم من جمال أفكاره وصوره البيانية، وعلى الرغم من كونه موزونا .
.
والفرق بين السبك الضعيف الذي تسببه اللغة النثرية وكثرة الجمل القصيرة، والسبك المتين يشبه الفرق بين خيط الذهب وسلسلة الذهب المكونة من حلقات متداخلة متراكبة بعضها مع بعض. فالخيط لا يعجب المتأمل كما تعجبه تلك السلسلة المتعوب على صياغتها.
.
ثناء حاج صالح
أصدقائي الشعراء!
كثيرا جدا ما نقرأ تلك النصوص الشعرية التي تنطوي على ما يثير الدهشة من البلاغة والبيان وجمال المعاني ، ولكنها على الرغم من ذلك - وللأسف الشديد - تعاني من مشكلة ضعف السبك اللغوي، التي تتجلى بسيطرة اللغة النثرية على النص الشعري ، وهو ما يسيء لإيقاع الشعر الداخلي ويضعف استساغته. وكثير من الشعراء الحداثيين لا يعيرون هذا الأمر أي اهتمام ، كونهم منشغلين بابتكار الصور الشعرية والأفكار الشعرية المتميزة.
ومع احتياجنا الشديد جدا للابتكار في الصور الشعرية والأفكار إلا أن هذا لا يكفي الشاعر ولا يغنيه عن الاعتناء بالسبك والصياغة اللغوية لينقذ نصه من الترهل والخلخلة في موسيقاه الداخلية .
.
لكن كيف نحكم على اللغة الشعرية بأنها ضعيفة السبك ؟
.
لعل هناك أكثر من سببين لظاهرة ضعف السبك في الشعر الحديث أو الحداثي. لكننا سنقف هناعلى سببين اثنين فقط:
1- السبب الأول: كثرة الجمل القصيرة في البيت الواحد، (بعيدا عن حُسن التقسيم البديعي). .
فالأصل في قوة متانة التراكيب اللغوية الشعرية أن يكون البيت مسبوكا في قطعة واحدة، تتمثل بتراكيب لغوية طويلة تتيح قراءة البيت دفعة واحدة وبنَفَس واحد .
.
لكن عندما يكثر عدد الجمل القصيرة في البيت الواحد. فإن فرصة السكوت تكون متاحة بعد نهاية كل جملة قصيرة . وهذا السكوت يقطع القراءة ويفصل بين المفردات المتجاورة فتتشكل ثغرات صوتية بين المفردات تؤدي إلى موسيقا داخلية متخلخلة ومتقطعة تجعلنا نحكم بضعف السبك والصياغة .
.
2- السبب الثاني : اللغة النثرية
.
من مميزات الكلام النثري أن الأبنية اللغوية فيه تكون مبسوطة وممدودة وغير متراكبة المفردات، وذلك لوفرة ما تستعين به من الأدوات الرابطة والفاصلة بين التراكيب؛ لعدم احتياج النثر إلى التكثيف، ولاحتياجه إلى البسط في الأفكار ، فضلا عن أن الأبنية اللغوية النثرية التي تألفها الأذن هي التي لا تحفل بمسائل التقديم التأخير في الكلام لغاية أخرى خارج النحو . مثل تجميل الإيقاع الداخلي ؛ لذلك لا يضيرها الإكثار من ذكر الأفعال والأدوات التي تزيد من عدد المفردات كأحرف الجر وأسماء الإشارة وأدوات الربط التي تفيد التفصيل الدقيق وغيرها ، والتي يحسن الاستغناء عنها في الشعر بهدف التكثيف وتجنب الوقوع في الحشو،
فلا شي يمنعك من الإحساس بالوقع النثري عند قراءة مثل هذه التراكيب المبسوطة الممدودة في الشعر سوى وجود القافية التي تقفز فجأة وتذكرك بأن تقرأ شعرا .
.
مثال عن كثرة الجمل القصيرة وتأثيرها المخلخل للإيقاع الداخلي:
.
يقول عمر أبو ريشة (على إيقاع الهزج) :
.
تريَّث، إنهم آتونَ --------لن يتجنبوا الدربا
.
على مرمى خُطا منا --------نصبُّ حقودنا صبَّا
.
فلو قارنَّا بين البيتين من حيث قوة السبك للاحظنا أن أولهما ضعيف مخلخل في إيقاعه الداخلي؛ لأنه مكوَّن من ثلاث جمل قصيرة تتيح المجال لانقطاع القراءة ثلاث مرات .
في حين أن البيت الثاني يتكون نحويا من جملة فعلية واحدة طويلة مع متعلقاتها. فيقرؤه القارئ دفعة واحدة دون انقطاع. فيحس وقعه في الأذن وتبدو صياغته كما لو كان مسبوكا في قطعة واحدة .
.
مثال : عن اللغة النثرية ، هذا النص للشاعر كريم معتوق
.
النبلاء
.
بعدَ أنْ لانَتْ بنا أنيابُ هذا الهَجْرِ
ما ضرَّكِ لو أنّا بَقِينا أصدِقاءْ
وترَفَّعْنا عن اللومِ وعن كلِّ عِتابٍ
كلّما دارَ حديثٌ بينَنا عندَ اللِّقاءْ
فليَكنْ ما بينَنا سرْدُ حكايا
عن جُنونِ الطقْسِ والأسْفارِ
والعُمْلَةِ إذْ يعلو بها السَقْفُ
ولا تعرِفُ سَقْفَ الفُقراءْ
ولنَكُنْ أرْقَى قليلاً حينما نحتَرِمُ الهَجْرَ
فلا نذْكُرُ ساعاتِ التَلاقي
خلْفَ "كانتين " الدِراسات صباحاً
وعَلى المَقْهى مَساءْ
وسَنرْقَى حينَ لا نأتي على سيرَةِ عيدِ الحُبِّ
والوردِ الذي أُهْديهِ
إذْ ألْمَحُ في خدَّيْكِ ورداً وحياءْ
لا ولنْ أسألَ عَن دبْدُوبِ مِيلادِكِ
كي لا يبْتَدي فيكِ اخْتِناقٌ
وتَغَصِّينَ بريقٍ وتَغَصِّين بِماءْ
ودَعِينا لا نُعيدُ السيرَةَ الأولى برأسِ العامِ
والقُبْلَةَ إذْ نبدَؤُها قبلَ ثَوانٍ
ثُم نُنْهيها بُعَيْدَ العامِ في بضْعِ ثَوانٍ
لتقولي قُبلةٌ قدْ جَمَعَتْ عامينِ حدَّ الانتِماءْ
سنُراعي حُرْمَةَ البُعدِ فَلا أذْكُرُ سِرَّ الضِّحكَةِ الجَذْلَى
مُذِ امتَدَّ ذِراعي وَطَوَى خَصْرَكِ
إذْ مالَ بِلينٍ واشْتِهاءْ
سوفَ نغْدو ليسَ كالأغْرابِ
ما زالَ بِنا مِن ذلكَ الحبِّ الذي
يرفَعُنا ظلاًّ إلى ظِلِّ السماءْ
دونَهُ كلُّ مقامٍ نعتَلي بالكِبرياءْ
ومِنَ الأجْمَلِ إنْ نحنُ التقَيْنا
لا تَرُشّي عِطرَكِ الساحِرَ
كي لا يصْعُبَ الأمرُ فأنْهارُ حنيناً وبُكاءْ
منه ما زالتْ بقايا ،
سوطُ جَلادٍ بصدْري
وبمرعى رئتي ينْخُرُها حين يشاءْ
فاجْعَلي هذا رجاءْ
ومِن الصعبِ بأنْ لا ينثني طرْفي
إذا مرَّ بكِ الشارعُ
لا أحتَمِلُ الفكرَةَ أنْ يجمَعَنا يوماً جَفاءْ
ومنَ الصعْبِ إذا دارَ حديثٌ بكِ
أو يسألُكِ الأصْحابُ
مَن يُرضيكِ بينَ الشُعراءْ ؟
وتقولينَ نزارٌ ، عزّت الطيري ، غُرابٌ (1)
وإذا قالوا كريمٌ
فمِنَ المُبْكي إذا لمْ ترْفِديني بالثَناءْ
نحنُ جاوَزْنا بهذا الهَجْرِ
ما اعتادَ بهِ العُشاقُ في كلِّ فِراقٍ مَرَّ
مِن شتْمٍ وكُرْهٍ وعَداءْ
ماتَ فينا الحُبُّ ؟ أدْري
قد تَوارَى كضَميرٍ ماتَ
من غَيرِ عزاءْ
فدَعِينا نلتَقي مِن غيرِ إعْدادٍ وتحْضيرٍ
ولا أعْطابِ ذِكْرَى
كلِقاءِ النُبَلاءْ
.
فلو أننا أزلنا القوافي من هذا النص، واستبدلنا بها كلمات مرادفة لها في المعنى ولا تحافظ على حرف الروي نفسه ، لما استطعنا الإحساس بإيقاع الشعر على الرغم من جمال أفكاره وصوره البيانية، وعلى الرغم من كونه موزونا .
.
والفرق بين السبك الضعيف الذي تسببه اللغة النثرية وكثرة الجمل القصيرة، والسبك المتين يشبه الفرق بين خيط الذهب وسلسلة الذهب المكونة من حلقات متداخلة متراكبة بعضها مع بعض. فالخيط لا يعجب المتأمل كما تعجبه تلك السلسلة المتعوب على صياغتها.
.
ثناء حاج صالح