سمعت بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحفاة العراة ولكن لم يدر بخلدي أنني سأراهم على الهواء مباشرة، أما العراة فالحمد لله تكفلت الدولة بستر آخر عار في بلدي، أما الحفاة فما زالوا كثر.
في أحد أيام ربيع الأول من 1431هـ تنفست الصعداء بعد أن أنهيت علاج جميع المراجعات المسجلات في جدول مواعيد الفترة الصباحية في المستشفى، وبينما كنت أفكر بكيف أحتفل بهذه المناسبة، هل أشرب كوب شاي وثمنه ريال من بقالة المستشفى التي تصر إدارتها على أن نسميها كافتيريا، وإن كنت أظن أن اسم بقالة هو ظلم لها فكان أجدر أن تُسمى مستودعا أو مخزنا أو أي أمر لا تنطبق عليه الشروط الصحية.. أم أزور إحدى الموظفات الإداريات لآكل عندها ما لذ وطاب مما أحضرنه معهن، أم أحادث أمي.. ما هي إلا ثوان معدودة إلا وسمعت ضجيجا عند الباب وإذا بامرأة تقتحم العيادة، حافية القدمين.
وقفت أمام الباب وقالت: "أنا قادمة من بعيد، من البر".. الكتاب واضح من عنوانه، والمطلوب؟! .. لا تستعجلوا الأمر.. بدوية من الصحراء ستلقي ما تريد دون مقدمات وبلا رجاء وبلا إتيكيت.
قالت: "ضرسي يوجعني ورفضوا أن يدخلوني، قالوا يجب أن أحضر تحويلا من مستوصف".. تأملتها مليا، راودتني نفسي، لم أعالجها؟ لقد أنهيت عدداً من المرضى أعلى من الحد الأقصى الذي تحدده أدنى منظمة صحية.. وأصبحت أضع مبررات لنفسي لا يحق لها العلاج فهي ليس لديها ملف وقد أعرض نفسي للمساءلة.
لقد ملأت العيادة برائحة قوية، فكتمت أنفاسي حتى إنني انتظرت خروجها لأرش معطر الجو، واتسخت الأرض من أثر قدميها الشبه حافية.. فكيف لو اقتربت منها أكثر!.. ليس عندها حتى أسلوب في الحديث يجعل قلبك يحن عليها فلم أعالجها؟!.. ما يؤلمها بحاجة لوقت طويل من العمل وأنا جسدي مرهق وبحاجة إلى كوب شاي.
النتيجة لن أعالجها .. ولن أسأل عنها دنيا أو آخرة .. ولكن شيئا في داخلي بدأ يطرق وخفقان يدب، وكنت حديثة عهد بأمومة، ويبدو أن جرعة حنان زائدة قد طفت على السطح.. لم لا أعالجها؟! أليست مواطنة؟ وهذا بلدها، وأنشئ هذا المستشفى الحكومي لأمثالها.
قذرة الثياب، نعم، ليس لها ملف، نعم، دون موعد، نعم، ولكن لن أعاقبها بذنب لم ترتكبه هي، وجهلها هو نتاج تقصيرنا بتوعيتها، وأين ستذهب؟ ولن أتركها بهذا العذاب.
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. هذا الصوت الذي سمعته، ولربما برحمتي لها ترحم العاملة رضيعتي التي أتركها تحت رحمتها بعد أن رفضت إدارة المستشفى إجازة الأمومة وألزمني ذل الوظيفة أن أتنازل عن أمومتي لعاملة لا أدري أين أمضت حياتها، أأمضتها في سجن أم في مصحة نفسية أم في إصلاحية، الله أعلم.
عالجت البدوية وتلطفت في معاملتها، وهذا جزء مهم في إنجاح العلاج، فضعفاء القوم يأسرون قلبي وأرى فيهم أجرا مضاعفا، فأنت تنصر من لا ناصر لهم إلا الله.
انتهينا، وولت قبل الباب، ففاجأتني بالتفاتة ورفعت أصبعها إلى السماء وهي تشير نحوي وبدأت تهذي بكلام في بادئ الأمر ظننته شتما وقدحا، لصعوبة لهجتها، حتى تبين لي أنها تدعو لي أن يفرج الله لي كل هم ومكروب، وأن يوفقني ويسدد خطاي.. سرت قشعريرة في جسدي فمن النادر أن تسمع هذا الدعاء من أمثالها ولكن عظم ما كانت تعانيه جعلها تفرح وتعبر عن سعادتها بالدعاء.. واستمرت بالدعاء، وراودتني نفسي أن أطلب منها أن يسخر الله عاملتي لرضيعتي الضعيفة، ولكن حفظا لما بين الطبيب والمريض من حاجز امتنعت عن ذلك، ذلك الحاجز الذي يسميه البعض كبرا.
وما زالت في دعائها حتى رحمت ذلها.. "لم يعد عندي شك بأنها أرحم امرأةٍ في الدنيا".. أختي أنا لم أعالجك من جيبي، هذا حق من حقوقك، وهذا المستشفى هو ملك الدولة واحمدي الله الذي سخر لك ولأمثالك من يبني لهم المستشفيات.
د بشرى عبدالله اللهو ...
[/size]في أحد أيام ربيع الأول من 1431هـ تنفست الصعداء بعد أن أنهيت علاج جميع المراجعات المسجلات في جدول مواعيد الفترة الصباحية في المستشفى، وبينما كنت أفكر بكيف أحتفل بهذه المناسبة، هل أشرب كوب شاي وثمنه ريال من بقالة المستشفى التي تصر إدارتها على أن نسميها كافتيريا، وإن كنت أظن أن اسم بقالة هو ظلم لها فكان أجدر أن تُسمى مستودعا أو مخزنا أو أي أمر لا تنطبق عليه الشروط الصحية.. أم أزور إحدى الموظفات الإداريات لآكل عندها ما لذ وطاب مما أحضرنه معهن، أم أحادث أمي.. ما هي إلا ثوان معدودة إلا وسمعت ضجيجا عند الباب وإذا بامرأة تقتحم العيادة، حافية القدمين.
وقفت أمام الباب وقالت: "أنا قادمة من بعيد، من البر".. الكتاب واضح من عنوانه، والمطلوب؟! .. لا تستعجلوا الأمر.. بدوية من الصحراء ستلقي ما تريد دون مقدمات وبلا رجاء وبلا إتيكيت.
قالت: "ضرسي يوجعني ورفضوا أن يدخلوني، قالوا يجب أن أحضر تحويلا من مستوصف".. تأملتها مليا، راودتني نفسي، لم أعالجها؟ لقد أنهيت عدداً من المرضى أعلى من الحد الأقصى الذي تحدده أدنى منظمة صحية.. وأصبحت أضع مبررات لنفسي لا يحق لها العلاج فهي ليس لديها ملف وقد أعرض نفسي للمساءلة.
لقد ملأت العيادة برائحة قوية، فكتمت أنفاسي حتى إنني انتظرت خروجها لأرش معطر الجو، واتسخت الأرض من أثر قدميها الشبه حافية.. فكيف لو اقتربت منها أكثر!.. ليس عندها حتى أسلوب في الحديث يجعل قلبك يحن عليها فلم أعالجها؟!.. ما يؤلمها بحاجة لوقت طويل من العمل وأنا جسدي مرهق وبحاجة إلى كوب شاي.
النتيجة لن أعالجها .. ولن أسأل عنها دنيا أو آخرة .. ولكن شيئا في داخلي بدأ يطرق وخفقان يدب، وكنت حديثة عهد بأمومة، ويبدو أن جرعة حنان زائدة قد طفت على السطح.. لم لا أعالجها؟! أليست مواطنة؟ وهذا بلدها، وأنشئ هذا المستشفى الحكومي لأمثالها.
قذرة الثياب، نعم، ليس لها ملف، نعم، دون موعد، نعم، ولكن لن أعاقبها بذنب لم ترتكبه هي، وجهلها هو نتاج تقصيرنا بتوعيتها، وأين ستذهب؟ ولن أتركها بهذا العذاب.
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء. هذا الصوت الذي سمعته، ولربما برحمتي لها ترحم العاملة رضيعتي التي أتركها تحت رحمتها بعد أن رفضت إدارة المستشفى إجازة الأمومة وألزمني ذل الوظيفة أن أتنازل عن أمومتي لعاملة لا أدري أين أمضت حياتها، أأمضتها في سجن أم في مصحة نفسية أم في إصلاحية، الله أعلم.
عالجت البدوية وتلطفت في معاملتها، وهذا جزء مهم في إنجاح العلاج، فضعفاء القوم يأسرون قلبي وأرى فيهم أجرا مضاعفا، فأنت تنصر من لا ناصر لهم إلا الله.
انتهينا، وولت قبل الباب، ففاجأتني بالتفاتة ورفعت أصبعها إلى السماء وهي تشير نحوي وبدأت تهذي بكلام في بادئ الأمر ظننته شتما وقدحا، لصعوبة لهجتها، حتى تبين لي أنها تدعو لي أن يفرج الله لي كل هم ومكروب، وأن يوفقني ويسدد خطاي.. سرت قشعريرة في جسدي فمن النادر أن تسمع هذا الدعاء من أمثالها ولكن عظم ما كانت تعانيه جعلها تفرح وتعبر عن سعادتها بالدعاء.. واستمرت بالدعاء، وراودتني نفسي أن أطلب منها أن يسخر الله عاملتي لرضيعتي الضعيفة، ولكن حفظا لما بين الطبيب والمريض من حاجز امتنعت عن ذلك، ذلك الحاجز الذي يسميه البعض كبرا.
وما زالت في دعائها حتى رحمت ذلها.. "لم يعد عندي شك بأنها أرحم امرأةٍ في الدنيا".. أختي أنا لم أعالجك من جيبي، هذا حق من حقوقك، وهذا المستشفى هو ملك الدولة واحمدي الله الذي سخر لك ولأمثالك من يبني لهم المستشفيات.
د بشرى عبدالله اللهو ...