لماذا الصراحة والوضوح من أخلاق الكبار؟
لأن الصراحة تعني قول الحق والصدق وقد يكون ذلك في غير مصلحتك ، ولا يقدر على هذا إلا الكبار أصحاب النفوس الكبيرة.
ولأن الصراحة تعني الاعتراف بالخطأ في بعض الأحيان ، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الكبار الذين لديهم الشجاعة الأدبية الكافية لمواجهة الآخرين بخطئهم.
ولأن الصراحة تعني تحمل المسئولية الكاملة عن كلمة ينطق بها الإنسان ، وهذا أيضاً لا يصدر إلا عن الكبار.
ولأن الصراحة تعني عدم مداهنة الكبراء ومنافقتهم ، بل تعني أحياناً الاصطدام معهم والتصدي لهم ، وإظهار مفاسدهم وأخطائهم ، وهذا ما لا يطيقه إلا الكبار.
فالصراحة والوضوح من أخلاق الكبار وأصحاب النفوس الكبيرة لأنهم الوحيدون القادرون على قول الحق ، وامتلاك الشجاعة التي يواجهون بها الآخرين ، فيُلجمون أنفسهم عن قول المداراة أو المجاملة في غير الحق .
فأقرب مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم الواصل بينهما ، فأحياناً ما يلجأ البعض إلى تحوير الكلام وعرضه على الآخر بطريقة غامضة مبهمة ، رغبة في الحصول على معلومات أكثر من محدثه ، تُشبع فضوله وحب استطلاعه.
فهو يسعى إلى إرباك من يُحدثه ، ويُصيبه بنوع من البلبلة حتى يضطره إلى إخراج كل ما في جعبته ، مُحاولاً إيهامه بأنه يعلم كل شيء ولديه تفاصيل كل شيء.
وعلى الجانب الآخر : فإن من يُعامل هذه المعاملة يُحاول أيضاً المراوغة والمناورة أثناء الحديث محاولاً الهروب من زلات اللسان ، والخروج بأقل قدر من الأخطاء ، وإحداث نوع من التشتيت لمحدثه من خلال الردود الدبلوماسية التي فيها مداراة وتورية.
وغالباً ما تكون عبارات هذا الحديث تحمل الكثير من التأويلات ، وتتسم بالمداراة والغموض ، ويتحول هذا الحديث إلى مجموعة من الألغاز التي تحتاج إلى حاذق لفكها ومحلل ليتأولها.
الصراحة ضرورة :
من هنا نستطيع أن نُدرك أهمية الصراحة والوضوح وقيمتها في حديثنا ، وأنها – أي الصراحة والوضوح – تكفينا مئونة التعب والجهد في الحصول على المعلومة الصحيحة والصريحة المباشرة ، كما أنها تقضي على القيل والقال ، وأحاديث النفس التي يتصيدها الشيطان ويُكبرها لدينا فمثلاً عند حدوث مثل هذه الأحاديث تكثر التساؤلات :
ماذا يقصد بقوله هذا ؟
هل يقصد إهانتي؟
هل يريد أن يحرجني ؟
ماذا وكيف ولماذا ..... ؟
وغيرها من علامات الاستفهام التي قد ينساق الشخص وراءها فتوقعه فيما حرم الله رغبة في إرضاء نفسه وإراحتها من هم الشك والتفكير جراء ما سَمِعَتْ من غموض في الحديث .
بيد أن هذا السلوك لدى البعض أصبح لازمة من لوازم الكلام في أحاديثهم ، وأصبح عدم الاستمرار فيه يُمثل عبئاً صعباً عليهم ، وفي حاجة إلى جهاد مرير حتى يتركوه.
وفي ظل غياب الصراحة والوضوح في أحاديث الناس مع بعضهم البعض فلا تتعجب أخي القارئ عندما ترى البغضاء قد انتشرت أوصالها بين الناس ، وكثر التنافر والتناحر وضرب بجذوره في العلاقات الإنسانية؟
من شيم الكبار :
إن الصراحة والوضوح من شيم أصحاب النفوس الكبيرة التي تحترم نفسها فتأبى عليها إلا القول بالحقيقة والبُعد عن الألغاز والغموض ، فأصحاب النفوس الكبيرة فقط هم الذين لا يأبهون بالآخرين ، فلا يضطرهم مركز ، أو يُجبرهم سلطان ، أن يقولوا غير الحقيقة في صراحة ووضوح.
فأصحاب النفوس الكبيرة والمتصفون بأخلاق الكبار لا يعترفون بالألغاز في ألفاظهم ، ويرفضون النفاق بأشكاله وألوانه ، ولا يستخدمون التُقية أو التورية في أحاديثهم ، بل الصراحة والوضوح ، والصفاء والنقاء ولا شيء غيرهما.
لا تغضب ممن يصارحوك:
رأينا في المثال السابق كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يُنكر على الصحابي حق الاستفهام أو الاستيضاح ، رغم أنه يحمل بعض علامات الريب والشك ، والخوف من التنصل منهم أو مجافاتهم ، ورغم عظمة من يُبرم العقد وأنه صاحب المقام الرفيع ، والنبي الموحى إليه من رب العالمين ، إلا أننا لاحظنا تبسمه صلى الله عليه وسلم التي بعث من خلالها برسالة إلى كل أصحاب الوجاهة والمكانة والرؤساء والمدراء والمسئولين – وهم غالباً من يحزنون من صراحة من حولهم ويتضجرون من صدقهم ووضوحهم – كانت رسالة لهم جميعاً لا تغضبوا ... لا تحزنوا ...
فالصراحة والوضوح أفضل من الغش والخداع والنفاق.
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صحابته رضوان الله عليهم ، فلقد قام رجل يأمر الخليفة عمر بن الخطاب بالتقوى ، فيعترض بعض الحاضرين ، فيقول الفاروق :"دعوه فليقلها .. لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نقبلها"
لمن يكرهون الصراحة :
أما الذين يكرهون الصراحة ، ويغضبون من الوضوح ، ويحزنون ممن يقول لهم الحقيقة ، نقول لهؤلاء إن بإمكان محدثيكم أن يداروكم ظاهراً ، ويمقتونكم باطناً ، أن يُظهروا لكم الموالاة والتبعة والمحبة ، ويبطنون لكم المكائد والدسائس ، إن بإمكانهم أن يبشوا في وجوهكم , ولكن تلعنكم قلوبهم ، يقول أبو الدرداء : إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم "
فأيهم أحب إليك ، صديق صادق صريح ، أم منافق خادع ماكر يُماريك في قولك وفعلك في الحق والباطل؟
القرآن والصراحة :
كثيراً ما يُريد أحدنا أن يستريح في بيته دون أن يُقلقه هاتف ، أو يُزعجه زائر ، يريد أن يجلس مع أهل بيته يُلاعبهم ويُلاعبونه ، وفجأة ودون أي مقدمات يطرق الباب زائر ، وحينئذ تتعرض الراحة للانقطاع أو التسامر مع الأبناء للانتهاء.
هل يتهرب من زائره ؟ هل يكذب ويُخرج له أحد الأبناء ليقول له إن أبي ليس بالداخل ؟
وللقرآن هنا كلمته وموقفه العظيم ، الذي يُربي الزائر كما يُربي المزور ، إنه يُعطي الرخصة للمزور أن يعتذر ، أن يقول وبكل صراحة ووضوح :
من فضلك ارجع ليس عندي المقدرة على استقبالك الآن !!
ظروفي لا تسمح لاستضافتك ؟
وهو في نفس الوقت يُربي الزائر على حسن استقبالها فهو خير لك ولمن تزوره " ... وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم