بسم الله الرحمن الرحيم
10-من دروس القران التوعوية:-
ب - القران ارشدنا الى وسائل العقل وادواته وانواع التفكير والتفكير المطلوب!!
1- لقد اشار لنا القران الكريم الى حاجة اعمل الفكر الى واقع ينصب عليه،
ومن ذلك قوله تعالى في سورة الغاشية حاثا على اعمال العقل والنظر الى ايات الله التي تستنبط من الوقائع فقال سبحانه{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ (17) وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ (18) وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ (19) وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ (20) فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ (21) الغاشية}. فرفع نظره الى ما هو اعلى منه ارتفاعا من المخلوقات فامره بالنظر اليها كيف خلقت !! ثم سمى به الى السماء وكيف انها رفعت بغير عمد ترونها، ثم نزل به الى عالمه الارضي ، في ان تفكيره ومداركه لن تحيط ولن تخترق السموات لتنظر وتعقل كيف وهيئة ما وراءها، فاعاده الى الجبال الاضخم منه ليتبصر في كيفية وغاية وجودها، ليعود يفكر ويتبصر فيما ينفعه وينفع جنسه في الارض المكورة كيف سطحها لكم لتستطيعوا العيش والثبات عليها بالفكر السامي ، التي جعلت هذه الوقائع دليلا لكم على وجوب مصدر تلقيه؛لتنهضوا به في حياتكم الارضية ... وقد اشار القران الى الحواس واهميتها في ادراك الواقع والتي لها الدور المهم في نقله الى الدماغ لتفسيره ومن ثم الحكم عليه والاعتبار منه في عملية بناء الايمان والمعتقد ؛ حيث ان عملية بناء الايمان والعقيدة عملية تبادلية مع بناء العقل والادراك والتفكير؛ فكما ان الايمان يثبت بما اقنع العقل وجزم به كذلك هو قاعدة الانطلاق الفكرية، والمنظار الذي يُنظر به للواقع ويُفسر الواقع بموجبه ومن خلاله ..فلذلك وجدنا ان القران الكريم ينهانا ويشنع على من لا يستخدم عقله للوصول الى الايمان الحق فيصفهم بانهم اضل من الانعام سبيلا.. حيث انهم لن يهتدوا الى سبيل الحق وطريق الايمان الصحيح المرتبط بوقائع الحياة فيوجهها ويصنعها بحسبه؛ يرشدنا سبحانه الة استعمال نعم الحواس لادراك الوقائع فقال سبحانه:- {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ۞ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ۗ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)الفرقان}.
2- وفهم الواقع والحكم عليه وتفسيره وادراكه يحتاج الى معلومات سابقة في مخزون الذاكرة؛ وهذه المعلومات مكتسبة اما بالتلقين من السابقين واما بالوحي واما مستفادة من التجارب و دروس الحياة ..
فلذلك لما احتاج الانسان الاول-ابونا آدم عليه السلام-المعلومات السابقة ليعمل عقله وينتج الفكر والحكم على الاشياء والوقائع التي عجز الملائكة عن ادراكها لانه لم تكن لهم معلومات سابقة ليحكموا عليها؛فعلم ربنا تعالى آدم الاسماء للوقائع التي يقع عليها الحس كلها... فاستطاع ان يُجيب عما سُئل وعجز الملائكة عن الاجابة عليه!!! فلذلك امروا بالسجود اجلالا وتعظيما لقدرة الله تعالى الذي اوجد اية كونية عظيمة من الماء والتراب-الطين- تعقل ما عجزوا هم عن عقله وادراكه!! قال الله تعالى:-{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)البقرة}.
فلإنتاج الفكر الصحيح لا بد من زرع المعلومات الصحيحة الموصلة لعملية التفكير الصحيحة؛ والمنتجة للفكر الصحيح المطابق للواقع المدرك ادراكا صحيحا بحواس سليمة صحيحة؛ فيكون هو الحق المتوجب اتباعه ..
3- فلذلك اشار القران الى اتباع التفكير المستنير والبصيرة في امور الدعوة اليه والى منهجه سبحانه وتعالى تعالى :{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)يوسف}.... ففِي قَوْله تعالى ذكره:- {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ} [يُوسُف:108]، فلم يتركنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هملاً عن إدراك خطورة هذه الحقيقة؛ حيث قال -فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- : (( إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))، كما حذر صلى الله عليه وآله وسلم تحذيراً بليغاً من التافهين الذين يتصدرون للكلام في أمور العامة فروى ابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)) قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)). فكما حذرنا وجهنا باتباع سبيله وسبيل المؤمنين !!
وهذا كله لا يتأتى بالنظر السطحي لظواهر الامور الذي هو من سمة اهل الكفر والالحاد والسذاجة المقيتة؛ فلفت الانظار الى دواعي التفكير العميق والمؤدي الى التفكير البصير المستنير فقال سبحانه في سورة الروم:-{وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (() أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)الروم}.
4- و أعظم مصدرٍ للبصيرة والتفكير المستنير هي الشريعة المطهرة والعقيدة الصافية النقية !! التي يشكل القرآن الكريم عمادها، ولا يمكن أن تسمى البصيرة بصيرةً مطلقاً إلا إذا كانت مستمدةً من شريعة الله النيرة كما قال ابن كثير: "وقَوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة من شريعة اللَّه التي أوحاها إلي"، والبصائر القرآنية تبني حياة الأمة، وتعيد لها مجدها، وتحقق لها الفلاح والانتصارات النهضوية؛ فالقرآن هو الذي تضمن البصائر المجيدة التي تحقق الانتصارات في المجالات الشخصية، والتحديات الحياتية الأسرية والمجتمعية، فمن أبصر الحياة من خلال هذه البصائر رجع ذلك بالنفع الحقيقي لنفسه، وكانت البصائر القرآنية مصدر سعادته وراحته وطمأنينته وأنسه، والله يبين ذلك بأجمل عبارةٍ فيقول: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104].
5- وادراك البصائر بحاجة الى البصيرة؛ وهي ما نسميه اليوم بالتفكير المستنير ؛
وهو بلا شك أعلى درجات التفكير وأعظمها، فهو الفكر الأرقى، وهو الفكر المؤدي إلى النهضة الحقيقية، وهو الفكر الذي يجلي غوامض الأمور، ولم يكتف بمعرفة أصول الأشياء وفروعها، أو الوقائع ومسبباتها أو النصوص ومعانيها كما هي الحال في الفكر العميق إلا أنه يتعدى ذلك لمعرفة ما يحيط بهذه الأشياء وما حولها وما يتعلق بها. وهذا هو طريق الني صلى الله عليه واله وسلم الذي طلب الله تعالى منه اتباعه :-{ {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:203].
والبصائر جمع بصيرة، وهي فعيلة بمعنى فَاعلة، والبصيرة مأخوذةٌ من البصر، وهو العين، فكأن صاحب البصائر قد بلغ من المعرفة العقلية، والنظر الفكري، والحكمة الثاقبة حداً يصل إلى درجة المشاهد المحسوس، وهو مصطلح قراني فريد الجمال في المبنى و افادة المعنى !! فالبصيرة –كما يقرر الخليل بن احمد : "نفاذ في القلب"، ونورٌ مضيء فيه يمكنه من الاستبصار بحقائق الواقع، أي رؤيتها على حقيقتها، واتخاذ القرارات بناء على ذلك، وبهذه البَصيرة يتمكن من الاستفادة من المعطيات الماضية لتقرير الأعمال الحالية، فقد قالوا: البصيرة: العبرة، يقال: أما لك بصيرةٌ في هذا؟ أي عبرة تعتبر بها وتتعظ ..فلذلك لابد لصاحب البصيرة والفكر المستنير من الاحاطة بواقعه وربطه بالماضي للاعتبار والاتعاظ او لاستشراف رؤيا المستقبل والحاضر ؛ وهذا الذي ذكره الله تعالى في كثيرٍ من المواضع في القران العظيم كقوله تعالى: - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، وقوله سبحانه:- {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، وبناء على ذلك فإن البصائر تستخلص بالدراسات لأخذ العبر ولتكوين المعلومات الأولية التي تبنى عليها الخطوات العملية التنفيذية في الواقع ؛ اما لاصلاحه او لتغييره او للسعي لايجاده .
6- ومن المصائب التي تحيق بالامم ان تدرك الامة وتستبصر واقعها؛ ولكن يستحسن ابناؤها اعمالهم وسوء قراراتهم التي زينها لهم الشيطان فيقعوا في مسار الهلاك و الاندثار ،قال تعالى:- {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]..
7- وبذلك يتبين لنا ان من أهم لوازم بناء المعرفة الراسخة وجود الحجة الواضحة عند اتخاذ القرارات أو بناء المواقف واطلاق الاحكام ..نعم اخواني الاكارم:إنها البصائر التي لا يمكن للأفراد والأمة الرؤية المستنيرة بدونها، ولا يمكن للأمة بدونها إدراك كيفية البناء، ولا تحديد ماهية الأعداء، ولا كيفية مواجهة الاعتداء، ولا التفوق في تحديات السلم والحرب والرخاء ، أو مواجهة الشدة والبأساء والضراء ، فإذا لم تدرك الأمة بصائر القرآن سارت على عمى فسقطت في الشراك و الـحُفَر ، أو وقعت أسيرة المنعطفات والمنزلقات والإنحراف، ومن عَمِيَ عن حقائق البصائر يقع في الحفائر، وتتناوشه الآلام والمخاطر.
ونسأل الله لنا ولكم ولأبناء امتنا العظيمة نور البصر والبصيرة واستنارة الفكر والتفكير ؛ والى لقاء اخر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
10-من دروس القران التوعوية:-
ب - القران ارشدنا الى وسائل العقل وادواته وانواع التفكير والتفكير المطلوب!!
1- لقد اشار لنا القران الكريم الى حاجة اعمل الفكر الى واقع ينصب عليه،
ومن ذلك قوله تعالى في سورة الغاشية حاثا على اعمال العقل والنظر الى ايات الله التي تستنبط من الوقائع فقال سبحانه{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ (17) وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ رُفِعَتۡ (18) وَإِلَى ٱلۡجِبَالِ كَيۡفَ نُصِبَتۡ (19) وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ (20) فَذَكِّرۡ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٞ (21) الغاشية}. فرفع نظره الى ما هو اعلى منه ارتفاعا من المخلوقات فامره بالنظر اليها كيف خلقت !! ثم سمى به الى السماء وكيف انها رفعت بغير عمد ترونها، ثم نزل به الى عالمه الارضي ، في ان تفكيره ومداركه لن تحيط ولن تخترق السموات لتنظر وتعقل كيف وهيئة ما وراءها، فاعاده الى الجبال الاضخم منه ليتبصر في كيفية وغاية وجودها، ليعود يفكر ويتبصر فيما ينفعه وينفع جنسه في الارض المكورة كيف سطحها لكم لتستطيعوا العيش والثبات عليها بالفكر السامي ، التي جعلت هذه الوقائع دليلا لكم على وجوب مصدر تلقيه؛لتنهضوا به في حياتكم الارضية ... وقد اشار القران الى الحواس واهميتها في ادراك الواقع والتي لها الدور المهم في نقله الى الدماغ لتفسيره ومن ثم الحكم عليه والاعتبار منه في عملية بناء الايمان والمعتقد ؛ حيث ان عملية بناء الايمان والعقيدة عملية تبادلية مع بناء العقل والادراك والتفكير؛ فكما ان الايمان يثبت بما اقنع العقل وجزم به كذلك هو قاعدة الانطلاق الفكرية، والمنظار الذي يُنظر به للواقع ويُفسر الواقع بموجبه ومن خلاله ..فلذلك وجدنا ان القران الكريم ينهانا ويشنع على من لا يستخدم عقله للوصول الى الايمان الحق فيصفهم بانهم اضل من الانعام سبيلا.. حيث انهم لن يهتدوا الى سبيل الحق وطريق الايمان الصحيح المرتبط بوقائع الحياة فيوجهها ويصنعها بحسبه؛ يرشدنا سبحانه الة استعمال نعم الحواس لادراك الوقائع فقال سبحانه:- {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۚ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) ۞ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا ۗ وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ۗ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)الفرقان}.
2- وفهم الواقع والحكم عليه وتفسيره وادراكه يحتاج الى معلومات سابقة في مخزون الذاكرة؛ وهذه المعلومات مكتسبة اما بالتلقين من السابقين واما بالوحي واما مستفادة من التجارب و دروس الحياة ..
فلذلك لما احتاج الانسان الاول-ابونا آدم عليه السلام-المعلومات السابقة ليعمل عقله وينتج الفكر والحكم على الاشياء والوقائع التي عجز الملائكة عن ادراكها لانه لم تكن لهم معلومات سابقة ليحكموا عليها؛فعلم ربنا تعالى آدم الاسماء للوقائع التي يقع عليها الحس كلها... فاستطاع ان يُجيب عما سُئل وعجز الملائكة عن الاجابة عليه!!! فلذلك امروا بالسجود اجلالا وتعظيما لقدرة الله تعالى الذي اوجد اية كونية عظيمة من الماء والتراب-الطين- تعقل ما عجزوا هم عن عقله وادراكه!! قال الله تعالى:-{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (36) فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)البقرة}.
فلإنتاج الفكر الصحيح لا بد من زرع المعلومات الصحيحة الموصلة لعملية التفكير الصحيحة؛ والمنتجة للفكر الصحيح المطابق للواقع المدرك ادراكا صحيحا بحواس سليمة صحيحة؛ فيكون هو الحق المتوجب اتباعه ..
3- فلذلك اشار القران الى اتباع التفكير المستنير والبصيرة في امور الدعوة اليه والى منهجه سبحانه وتعالى تعالى :{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ ۗ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۗ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)يوسف}.... ففِي قَوْله تعالى ذكره:- {أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ} [يُوسُف:108]، فلم يتركنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم هملاً عن إدراك خطورة هذه الحقيقة؛ حيث قال -فيما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما- : (( إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))، كما حذر صلى الله عليه وآله وسلم تحذيراً بليغاً من التافهين الذين يتصدرون للكلام في أمور العامة فروى ابن ماجه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)) قيل: وما الرويبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)). فكما حذرنا وجهنا باتباع سبيله وسبيل المؤمنين !!
وهذا كله لا يتأتى بالنظر السطحي لظواهر الامور الذي هو من سمة اهل الكفر والالحاد والسذاجة المقيتة؛ فلفت الانظار الى دواعي التفكير العميق والمؤدي الى التفكير البصير المستنير فقال سبحانه في سورة الروم:-{وَعْدَ اللَّهِ ۖ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (() أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَىٰ أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11)الروم}.
4- و أعظم مصدرٍ للبصيرة والتفكير المستنير هي الشريعة المطهرة والعقيدة الصافية النقية !! التي يشكل القرآن الكريم عمادها، ولا يمكن أن تسمى البصيرة بصيرةً مطلقاً إلا إذا كانت مستمدةً من شريعة الله النيرة كما قال ابن كثير: "وقَوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة من شريعة اللَّه التي أوحاها إلي"، والبصائر القرآنية تبني حياة الأمة، وتعيد لها مجدها، وتحقق لها الفلاح والانتصارات النهضوية؛ فالقرآن هو الذي تضمن البصائر المجيدة التي تحقق الانتصارات في المجالات الشخصية، والتحديات الحياتية الأسرية والمجتمعية، فمن أبصر الحياة من خلال هذه البصائر رجع ذلك بالنفع الحقيقي لنفسه، وكانت البصائر القرآنية مصدر سعادته وراحته وطمأنينته وأنسه، والله يبين ذلك بأجمل عبارةٍ فيقول: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104].
5- وادراك البصائر بحاجة الى البصيرة؛ وهي ما نسميه اليوم بالتفكير المستنير ؛
وهو بلا شك أعلى درجات التفكير وأعظمها، فهو الفكر الأرقى، وهو الفكر المؤدي إلى النهضة الحقيقية، وهو الفكر الذي يجلي غوامض الأمور، ولم يكتف بمعرفة أصول الأشياء وفروعها، أو الوقائع ومسبباتها أو النصوص ومعانيها كما هي الحال في الفكر العميق إلا أنه يتعدى ذلك لمعرفة ما يحيط بهذه الأشياء وما حولها وما يتعلق بها. وهذا هو طريق الني صلى الله عليه واله وسلم الذي طلب الله تعالى منه اتباعه :-{ {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:203].
والبصائر جمع بصيرة، وهي فعيلة بمعنى فَاعلة، والبصيرة مأخوذةٌ من البصر، وهو العين، فكأن صاحب البصائر قد بلغ من المعرفة العقلية، والنظر الفكري، والحكمة الثاقبة حداً يصل إلى درجة المشاهد المحسوس، وهو مصطلح قراني فريد الجمال في المبنى و افادة المعنى !! فالبصيرة –كما يقرر الخليل بن احمد : "نفاذ في القلب"، ونورٌ مضيء فيه يمكنه من الاستبصار بحقائق الواقع، أي رؤيتها على حقيقتها، واتخاذ القرارات بناء على ذلك، وبهذه البَصيرة يتمكن من الاستفادة من المعطيات الماضية لتقرير الأعمال الحالية، فقد قالوا: البصيرة: العبرة، يقال: أما لك بصيرةٌ في هذا؟ أي عبرة تعتبر بها وتتعظ ..فلذلك لابد لصاحب البصيرة والفكر المستنير من الاحاطة بواقعه وربطه بالماضي للاعتبار والاتعاظ او لاستشراف رؤيا المستقبل والحاضر ؛ وهذا الذي ذكره الله تعالى في كثيرٍ من المواضع في القران العظيم كقوله تعالى: - {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام:11]، وقوله سبحانه:- {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 62]، وبناء على ذلك فإن البصائر تستخلص بالدراسات لأخذ العبر ولتكوين المعلومات الأولية التي تبنى عليها الخطوات العملية التنفيذية في الواقع ؛ اما لاصلاحه او لتغييره او للسعي لايجاده .
6- ومن المصائب التي تحيق بالامم ان تدرك الامة وتستبصر واقعها؛ ولكن يستحسن ابناؤها اعمالهم وسوء قراراتهم التي زينها لهم الشيطان فيقعوا في مسار الهلاك و الاندثار ،قال تعالى:- {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38]..
7- وبذلك يتبين لنا ان من أهم لوازم بناء المعرفة الراسخة وجود الحجة الواضحة عند اتخاذ القرارات أو بناء المواقف واطلاق الاحكام ..نعم اخواني الاكارم:إنها البصائر التي لا يمكن للأفراد والأمة الرؤية المستنيرة بدونها، ولا يمكن للأمة بدونها إدراك كيفية البناء، ولا تحديد ماهية الأعداء، ولا كيفية مواجهة الاعتداء، ولا التفوق في تحديات السلم والحرب والرخاء ، أو مواجهة الشدة والبأساء والضراء ، فإذا لم تدرك الأمة بصائر القرآن سارت على عمى فسقطت في الشراك و الـحُفَر ، أو وقعت أسيرة المنعطفات والمنزلقات والإنحراف، ومن عَمِيَ عن حقائق البصائر يقع في الحفائر، وتتناوشه الآلام والمخاطر.
ونسأل الله لنا ولكم ولأبناء امتنا العظيمة نور البصر والبصيرة واستنارة الفكر والتفكير ؛ والى لقاء اخر السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..