بات من الواضح أن جهود جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الفائز بجائزة العودة إلى طاولة المفاوضات بعد ست جولات مكوكية إلى المنطقة أثمرت عن تفكيك المحدّدات الفلسطينية ،
المتفق عليها داخل الأطر والمؤسسات القيادية ، حيث أضحت هذه المرتكزات تشكّل الحد الأدنى الجامع المقبول للتحرك الفلسطيني الرسمي تجاه عملية التسوية السياسية المتوقفة منذ سنوات دون المساس بالبرامج الفصائلية على مختلف اطيافها السياسية ، مايشير إلى خطورة الإستفراد بالقرار الوطني المتعلق بالقضايا الجوهرية المصيرية للشعب الفلسطيني جراء الضغوطات التي مارستها الولايات المتحدة والأطراف الدولية والعربية الكريمة حيث عرضت بالمجان مبدأ تبادل الأراضي الفلسطينية بالفلسطينية لقاء إحياء مسيرة التسوية السياسية بما يخدم المصالح الأمريكية المتعثّرة في المنطقة ، لكّن حكومة الإحتلال اعتبرت من جانبها الموقف الفلسطيني الذي سبق التحرك الأخير شروطاً لا يمكن القبول بها مع انها التزامات واجبة نصت عليه الاتفاقيات الموقعة بين الأطراف قبل عشرين عاما خلت برعاية البيت الأبيض ، بينما لم يستطع السيد كيري زحزحة الموقف المتطرف لحكومة الإحتلال عدا عن إطلاق سراح مائة واربع أسرى قدامى على أربع دفعات وفق شروطها المرتبطة بحصول تقدم تفاوضي كما تقول من دون ضمان إطلاق سراح الأسرى الأخرين خلافاً للإلتزامات بتنفيذ وعود سابقة باطلاق سراحهم دفعة واحده باستثناء تعهد الإدارة الأمريكية في الغرف المغلقة المفترض أن تكون شريكة فعّالة بالمفاوضات الجارية لهذا عينّت نائب رئيس لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية المعروفة "الإيباك" السابق مارتن انديك وعضو معهد "بروكنغز" للسياسات الإستراتيجية صاحب الباع الطويلة في العراق والمنطقة مبعوثاً خاصاً لمتابعة العملية التفاوضية ، لكن حكومة نتنياهو رفضت مشاركته بعد جولتي تفاوض في مدينة القدس نتيجة الغطرسة والشروط الإستفزازية التي يستحيل على أي فلسطيني القبول بها لذلك بدت عوامل الفشل العلامة البارزة لولادة ميّتة .
إن حكومة المستوطنين أظهرت للقاصي والداني عدم اكتراثها بأي حلول لاتلبي مطامعها التوسعية الإستعمارية ليس بالأقوال حسب إنما من خلال اعتماد خريطة مايسمى الأفضلية القومية التي ترعى المستوطنات وتقدم لها الإمتيازات الخاصة والأموال الطائلة وتعفيها من الضرائب لغرض تطويرها ، واعلانها بالتزامن مع انطلاقة المفاوضات بناء آلاف الوحدات الإستيطانية في مدينة القدس وباقي الأراضي الفلسطينية وكذا استباحة المقدسات ودخول المستوطنين والجيش ساحات المسجد الأقصى وسحب الهويات المقدسية والخطر الداهم جرّاء تفعيل قانون مصادرة أملاك الغائبين على الأراضي التي تم احتلالها عام 1967 ما يؤكد تنفيذ سياسة التطهير العرقي على قدم وساق دون ردود أفعال تتناسب وحجم المخاطر أقلّها وقف المفاوضات بشكل فوري ووضع المجتمع الدولي أمام سؤولياته أزاء العربدة والبلطجة الإسرائيلية ، قال الوزير كيري في ردّه على السلوك العدواني للحكومة اليمينية المتطرفة "إن موقف إدارته معروف بأن كل الإستيطان هو غير شرعي ولكنّه استدرك بالقول الإعلان عن عطاءات استيطانية جديدة في مدينة القدس عشية انطلاق جولة أخرى من المفاوضات لم يشكل مفاجأة بالنسبة لإدارته" أي اراد القول بطريقة ما أن ادارته على علم بالمخططات الإسرائيلية ولكنها لا ينبغي أن تؤثر على مسار المفاوضات ، الأمر الذي أكدته الصحافة الإسرائيلية قبل غيرها من وجود تفاهمات حول استمرار البناء الإستيطاني مقابل العودة إلى المفاوضات خشية انفراط عقد الإئتلاف الحكومي اليميني المتطرف. وأضافت هذه الصحف أن كيري يدفع ضريبة كلامية ، في حين يؤكد رئيس حكومة الإحتلال جهاراً "بأن لبّ مشكلة الصراع هو عدم الإعتراف بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي" على حد زعمه ، الأمر الذي سيطيح بأية امكانية للحديث عن أوهام التسويات السياسية نتيجة الشروط التعجيزية التي يضعها رئيس حكومة التطرف العنصري في الوقت الذي يتباهى زعيم البيت اليهودي نفتالي بينت وأحد أقطاب حكومة الإئتلاف بقتله شخصياً للعديد من العرب مسترسلا بالقول "يجب عليك بكل سهولةٍ قتلهم" !!
قد يلاحظ المرء مدى التشدّد الذي تبديه حكومة الإحتلال وجنوح المجتمع الإسرائيلي نحو الكراهية والعنصرية ضد العرب وقد لا يشكل مفاجأة للعارفين بالمخططات العدوانية التوسعية ، ولكن ما يثير الإستغراب ذلك التهافت الذي أطلّ في الأونة الأخيرة باندفاعةٍ قوية من أبطال لوبي التطبيع المجاني إذ يكثّف من لقاءاته المتكررة مع رموز الأحزاب الصهيونية تارة في مقر منظمة التحرير الفلسطينية ، وتارةً أخرى بمقر الكنيست ، وغيرها الكثير في الخارج تحت شعار تهيئة المناخ والرأي العام الفلسطيني "لعملية السلام" في ظل الترويج السياحي للهيكل المزعوم على انقاض المسجد الأقصى ومصادرة الأراضي المحيطه به والشروع ببناء حديقة ترفيهية وانهيارات تحت أساساته ، فهل مايجري من عبث يعبر عن حالة عدم الإتزان والإرباك الذي يسود الساحة الفلسطينية ؟ خاصةً أن هناك شبه إجماع رسمي وشعبي يتّفق على استحالة التوصل إلى اتفاق مع حكومة نتنياهو خلال الشهور التسعة المقرّرة للمفاوضات .
إن الإدارة الأمريكية التي تراجع تأثيرها الدولي بشكل كبيرفي مجال السياسة الخارجية خاصة أمام التطورات والتحولات الجارية في المنطقة لاتجد امامها من بدّ سوى الحفاظ على ماتبقى لها من هيبة إن وجدت ، بالإمساك بالقضية الفلسطينية باعتبارها أم القضايا التي سيتوقف عليها مصير المنطقة لحماية مصالحها ومصالح حليفتها الإستراتيجية لهذا لا يتوقع خطوات عملية من شأنها تخطي حدود إدارة الأزمة وإتاحة الوقت اللازم لتنفيذ مخططات الإحتلال وفرض سياسة الأمر الواقع ، وبالتالي ينبغي إعادة النظر بالسياسات الفلسطينية الإنتظارية وتفعيل عوامل قوة الموقف الفلسطيني بالإ نضمام إلى مؤسسات المنظمة الدولية ومحكمة الجنايات وجرائم الحرب ضد الإنسانية وتفعيل فتوى لاهاي ذو الصلة بجدار الفصل العنصري وتقرير غولدستون بعد الحرب العدوانية على قطاع غزة ، كما يتطلب الإجابات والحلول لإنهاء الإنقسام في ضوء التطورات المتلاحقة وتراكم الأزمات التي فرضت نفسها وأبرزها مايواجه شعبنا من تهجير وقتل وتدمير للمتلكات في مخيمات اللجوء والشتات ، فضلا عن مواجهة الإحتلال وعدوانه وحصاره المستمر ، ألا يتطلب كل ذلك فريق عمل قيادي من نوع استثنائي ؟ ...