(لقاءٌ بلا موعد)
مقدمة :
هذه الرواية من التراث الشعبي الفلسطيني .. تبدأ أحداثها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ... وتنتهي في منتصف الستينيات من القرن الماضي .. وبما أنها طويلة بعض الشيء سيتم نشرها على حلقات ... أرجو أن تنال إعجابكم ... ولكم أجمل تحياتي وتقديري ...
الكاتب رجب الجوابرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحلقة (1)
قد يكون جمال المرأة في بعض الأحيان مشكلة كبيرة وعبئاً ثقيلاً في حياتها .. فهي تكون دائماً مطمعاً لمرضى النفوس .. ومن هم يتصفون بصفة الجشع والطمع في ملك غيره .. وخصوصاً إذا كان في مركز قوة يتيح لهُ هذا التصرف دون أن يجد من يردعهُ ..
(صفية) زوجة محمود الريان .. وهبها اللهُ هذا الجمال .. حيث تتمتع بأحلى صفات جمال المرأة الريفية .. وجهٌ كنجمة الصبح وقت ظهورها وتألقها ... إضافةً إلى ذلكَ .. ما تركَ زوجها من أراضٍ شاسعةٍ مزروعةٍ بأنواعٍ شتى من الحمضيات .. وأخرى تحتاج للفلاحة وزراعتها بالحبوب كالقمح والشعير والذرة البيضاء ... وكذلك قسم كبير يحتاج لمن يزرعها بالخضروات .. نتيجة توفر المياه الارتوازية ... فيها بئر يروي ما يزرع فيها ...
لم يكن لصفية سندٌ يحميها ويدافع عنها ويقف في وجه الطامعين..سوى ابنها الذي ما زال في العاشرة من عمرهِ .. بعد أن تركها زوجها محمود الريان .. الذي أخذ عنوةً ليلتحق بالجيش العثماني .. والذي يعاني من الضعف الشديد أمام أعدائهِ من الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ..
صفية رغم جمالها وما تتمتع بهِ من رقة المشاعر والإحساس كأي أنثى لها هذه الصفات .. إلا أن شخصيتها قوية .. تعرف كيف تتصرف وتدافع عن نفسها أمام أكبر الجشعين مختار القرية (حمدان الغوري).. الذي كان يطمع في الزواج منها وضم أملاكها وأملاك ابنها إلى ما يملكهُ من أطيان .. لكنها كانت تقف سداً منيعاً .. وقلعةً شامخةً أمام هذا المتغطرس الجبار .. تحمل فأسها وتنكش الأرض لتهيئها لبذر بعض انواع الحبوب .. لتتمكن من سد حاجتها وحاجة ابنها لقوتهما اليومي ... رأته من بعيد ممتطياً فرسهُ ومتجهاً نحوها .. ابنها (عبد الحميد) يحمل فأسهُ الصغيرة ويلعب بها حول أمهِ ... وصل اليهما حمدان ...توقف أمامهما وقال بصوتهِ الجهوري الذي يخرج من فمٍ ملثمٍ بكوفيتهِ الرقطاء .. ومن تحت شنبهِ الطويل :
ــ ألم تفكري فيما قلتهُ لكِ ..؟ هاتان اليدانِ لم تخلقا لحمل المعول ..؟ لماذا لا تريحيني وتريحي نفسكِ من هذا العناء ...؟
انتصبت واقفة تضعُ فأسها على كتفها وقالت بحزم :
ــ الأفضل لكَ أن تريّح نفسك مما تطلب .. نجوم السماء أقرب لكَ مما تفكر فيه .. قريباً سيعود من يستطيع الرد عليك ..! ويكيل لكَ الصاع صاعين .. !
ضحكَ ضحكةً هستيريةً وقال :
عشم ابليس في الجنة .. وأنا أطمئنكِ بأنهُ لن يعود ..! وعليكِ أن تسمعي كلامي .. إذا لم يكن اليوم فإن غداً لناظرهِ قريب ...!
ما زالت على حالها في وقفتها الثابتة . وابنها إلى جانبها يمسك بثوبها قالت :
ــ ابق في أحلامك ...!!! أغرب عن وجهي ولا تعد هنا مرةً أخرى .. !!!
قال وهو يهم بالرجوع من حيث أتى :
ــ سنتقابل قريباً ... ونرى من هو على حق ....!!
راح يطلق العنان لفرسهِ وكأنهُ يوحي لها بأنهُ هو الأقوى بتهديداته المبطنة ...
عادت إلى ما كانت تفعل قبل قدومهِ وتقول :
ــ إلى جهنم أيها الأحمق ...!
تساءل ولدها عبد الحميد :
ــ ماذا يريد هذا الرجل منكِ يا أمي ..؟
نظرت إليهِ ثم احتضنتهُ وقالت :
ــ لاتُشغل بالك يا ولدي .. ساعدني في حفر الأرض هيا ... ! لنزرعها غداً بإذن الله ...!
لكنَّ عبد الحميد لم يأبه بما قالتهُ أمهُ وقال :
ــ متى يأتي أبي يا أمي ...؟ ليستطيع أن يحميكِ من هذا الوغد ...؟
ما زالت تضم ولدها إلى صدرها ... وقالت :
ــ سيأتي أبوكَ يا ولدي ...! قريباً سيأتي إن شاء الله ...!
نفض نفسهُ من حضنها ورجع إلى الخلف يلوّحُ بفأسهِ الصغيرة وقال :
ــ إذا أتى هذا الأحمق مرةً أخرى سوف أهشم رأسهُ بمعولي هذا ...!
ضحكت الأم ضحكةً ذابلةً .. وقالت ::
ــ تعالَ يا حبيبي ..! ما زلتَ صغيراً .. وهذا الوحش لايهمهُ شيء ..!!
عاد عبد الحميد إلى حضن أمهِ ويقول :
ــ ستري يا أمي .. سأصمدُ في وجههِ ولن يعود إليكِ ثانيةً ...!!!
***********
ظلت صفية ثابتةً على موقفها ولم تعطِ أيَّ فرصةٍ لأي مخلوق ولم ترضخ للتهديدات ولم تنصع وراء المغريات .. وضعت هدفاً واحدً نصب عينيها .. هو أن تربي ابنها تربيةً حسنةً وتعلمهُ تعليماً جيداً .. حتى يستطيع مواجهة مشاق الحياة .. بعد أن يئست من عودة زوجها محمود الريان .. الذي لم تتلقَّ أي خبرٍ عنهُ .. حيثُ عاد معظم من كانوا في مثل حالهِ .. هناكَ همٌ كبيرٌ يشغل بالها ويقضُّ مضجعها .. هو حال الأرض وما أصابها بعد إهمالها وعدم العناية بأشجارها ومزروعاتها .. فكرت كثيراً .. حتى اهتدت إلى ذلك ً الرجل ذو الخبرة الطويلة في العناية بالأرضِ ومزروعاتها ...
ذهبت إليهِ لتجدهُ يجلسُ مع زوجتهِ وأولادهِ في صحن بيتهِ الذي يدل منظرهُ أن هناكَ حالةً من الفقر الشديد تسودُ هذا البيت ..
طرحت السلام قالت :
ــ السلام عليكم ...!
وقف عثمان مرحبا ومجيباً لصفية الذي اعتبر مجيئها إلى بيتهِ حدثاً غريباً وقال :
ــ وعليكم السلام ورحمة اللهِ وبركاتهُ ..! أهلاً وسهلاً ..! تفضلي يا أم عبد الحميد ... تفضلي ...!!!
ترحب زوجتهُ أيضاً بها ... وتنهضُ لاستقبالها وتضع الفراش لتجلس عليه ..
جلست صفية إلى جانب زوجة عثمان وهو يجلسُ مقابلاً لها ... مهتماً بما ستقولهُ وبما ستطلبهُ ...
نظرت إليهِ وملامح الحزن تبدو في عينيها وقالت :
ــ يا سيد عثمان ..! تعلمُ جيداً أننا نملكُ أرضاً واسعةً مزروعةً وغير مزروعةٍ .. ومنذ أن فارقنا محمود وهي على حالها لعدم توفر الأيدي للعمل بها ...!
قال عثمان مقاطعاً :
ــ لقد مررتُ بها منذ أيام ورأيت الحالة التي آلت إليها ...! حزنتُ أشد الحزن لما أصابها ...!
عادت صفية لمواصلة حديثها قائلةً :
يتبع ـــــــــــــــــــــــــــ
إلى اللقاء في الحلقة القادمة
مع تحيات رجب الجوابرة