بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد اكرم الله العلماء واهل العلم وجعلهم احق الناس بخشيته لما علموا له من العظمة سبحانه ولما ورثوا من النبوة وعلمها ونورها ولكنهم ان عظموا الدنيا واهلها سقطوا وهانوا على الله تعالى واصبحوا وبالا على انفسهم يوردونها مهاوي الردى ووبالا على الامة يوردنها طريق الفتنة والضلال......
أخرج العسكري، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الفقهاء أمناء الرسل، ما لم يدخلوا في الدنيا ويتبعوا السطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم » .
لقد ذكر لناالقران الكريم بعض صور تعمّد الخطأ من اهل العلم فمنها ما ذكره الله تعالى في قوله (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) البقرة: ٤٢، وقوله تعالى (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ) النساء: ٤٦، وقوله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ) البقرة: ٧٩. هذه بعض صور تعمّد الخطأ وكلها تؤدي إلى تضليل الناس، وهذا موجود في الفرق الضالة قديما وحديثا، وفي علماء السوء في كل مِلّة وكل زمان ومكان، فلبس الحق بالباطل: منه الاستدلال بالنصّ في غير موضعه، وكتم الحق: بالامتناع عن الجهر به وتبليغه، وتحريف الكلم: منه التأويل الفاسد وتحميل النصوص مالا تحتمله من المعاني.
أما سبب تعمد الخطأ، فسبب واحد - وإن كانت له صور متعددة - وهو استحباب الحياة الدنيا والحرص عليها، ومن صور ذلك حب المال وكنزه وحب الجاه والمنصب والرتبة والجاه والمكانة، وإنما قلنا إنه سبب واحد إذ قد قرن الله تعالى تعمّد علماء السوء للخطأ باستحباب الدنيا كما في قوله تعالى (فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) البقرة: ٧٩. وقوله تعالى (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) آل عمران: ١٨٧، وقال تعالى (إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ) التوبة: ٣٤.
وهكذا ترى أن الله تعالى قرن كتمان الحق والصد عن سبيله بشراء الثمن القليل وهى الدنيا ومتاعها، كما قال تعالى (قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ) النساء: ٧٧.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا) الحجرات: ٦، فأمر سبحانه بالتوقف في قبول خبر الفاسق، فوجب على المسلمين معرفة حال العلماء لمعرفة من يُقبل خبره وفتواه في دين الله تعالى ممن لا يُقبل خبره أو فتواه في الدين.
ولهذا قال محمد بن سيرين رحمه الله [إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم] ، وروى عنه أيضا قال:[لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ منهم وإلى أهل البدعة فلا يؤخذ منهم]. فدَلَّ هذا على وجوب البحث في حال من يؤخذ عنهم العلم.
وروي ابن عَدِيّ الجرجاني بإسناده عن إبراهيم النخعي رحمه الله (ت 96 هـ) قال: [كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ، سألناه عن مطعمه، ومشربه، ومُدْخله، ومُخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه، وإلا لم نأته] .ومن هنا يجب على المسلم البحث عن العالم الصالح ليأخذ عنه العلم - سواء كان من العلماء الأموات أو الأحياء .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا) ، وقال النووي في شرحه [وأن من دعا إلى هدىً كان له مثل أجور متابعيه، أو ضلالة ٍ كان عليه مثل آثام تابعيه سواء كان ذلك الهدى والضلالة هو الذي ابتدأه أم كان مسبوقا إليه، وسواء كان ذلك تعليم علم أو عبادة أو أدب أو غير ذلك] .
أخرج الحسن بن سفيان في مسنده، والحاكم في تاريخه، وأبو نعيم، والعقيلي، والديلمي، والرافعي في تاريخه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا خالطوا السلطان، فقد خانوا الرسل فاحذروهم، واعتزلوهم ».وأخرج أبو الشيخ في « الثواب » عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ الرجل القرآن وتفقه في الدين، ثم أتى باب السطان، تَمَلُّقاً إليه، وطمعا لما في يده، خاض بقدر خطاه في نار جهنم ».
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله - في علامات العلماء الصالحين [فمنها أن لا يطلب الدنيا بعلمه، فإن أقل درجات العالم أن يدرك حقارة الدنيا وخسّتها وكدورتها وانصرامها، وعِظَم الآخرة ودوامها وصفاء نعيمها وجلالة مُلْكِها ويعلم أنهما متضادتان، وأنهما كالضرتين مهما أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى، فإن من لا يعرف حقارة الدنيا وكدورتها وامتزاج لذاتها بألمها ثم انصرام ما يصفو منها فهو فاسد العقل. فإن المشاهدة والتجربة ترشد إلى ذلك فكيف يكون من العلماء مَن لا عقل له؟، ومن لا يعلم عظم أمر الآخرة ودوامها فهو كافر مسلوب الإيمان فكيف يكون مِن العلماء مَن لا إيمان له ومن لا يعلم مضادة الدنيا للآخرة وأن الجمع بينهما طمع في غير مطمع؟ فهو جاهل بشرائع الأنبياء كلهم، بل هو كافر بالقرآن كله من أوّله إلى آخره، فكيف يعدّ من زمرة العلماء؟ ومن علم هذا كله ثم لم يؤثر الآخرة على الدنيا فهو أسير الشيطان قد أهلكته شهوته وغلبت عليه شقوته فكيف يعد مِن حزب العلماء مَن هذه درجته؟.
ولذلك قال الحسن رحمه الله: عقوبة العلماء موت القلب، وموت القلب طلب الدنيا بعمل الآخرة،...
وقال عمر رضي الله عنه: إذا رأيتم العالم محباً للدنيا فاتهموه على دينكم، فإن كل محب ٍ يخوض فيما أحب،...وقد وصف الله علماء السوء بأكل الدنيا بالعلم، ووصف علماء الآخرة بالخشوع والزهد، فقال عز وجل في علماء الدنيا: (وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) آل عمران: ١٨٧، وقال تعالى في علماء الآخرة: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ) آل عمران: ١٩٩] .
قال ابن القيم رحمه الله [كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها، فلا بد أن يقول على الله غير الحق في فتواه وحكمه، في خبره، وإلزامه، لأن أحكام الرب سبحانه كثيراً ما تأتي على خلاف أغراض الناس ولا سيما أهل الرياسة والذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيراً، فإن كان العالم والحاكم محبين للرياسة متبعين للشهوات لم يتم لهما ذلك إلا بدفع ما يضاده من الحق، لاسيما إذا قامت له شبهة فتتفق الشبهة والشهوة ويثور الهوى فيخفى الصواب وينطمس وجه الحق، وإن كان الحق ظاهراً لا خفاء به ولا شبهة فيه أقدم على مخالفته وقال لي مخرج بالتوبة، وفي هؤلاء وأشباههم قال تعالى (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) مريم: ٥٩ وقال تعالى فيهم أيضاً (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ) الأعراف: ١٦٩ فأخبر سبحانه أنهم أخذوا العرض الأدنى مع علمهم بتحريمه عليهم وقالوا سُيغفر لنا وإن عَرَض لهم عرض آخر أخذوه فهم مُصرون على ذلك، وذلك هو الحامل لهم على أن يقولوا على الله غير الحق فيقولون هذا حكمه وشرعه ودينه وهم يعلمون أن دينه وشرعه وحكمه خلاف ذلك، أَوْ لا يعلمون أن ذلك دينه وشرعه وحكمه فتارة يقولون على الله مالا يعلمون، وتارة يقولون عليه ما يعلمون بطلانه] .
اللهم نعوذ بك من من علماء السوء ودعاته وأئمة الضلال واتباعهم ونسالك اللهم علما نافعا وعملا متقبلا صالحا ونرجوك رضاك والجنة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. —