ماركس يتبرأ من الماركسيين!!
( تاريخ القرن العشرين هو تراث ماركس *ماركس رد على إبلاغه ان حزبا ماركسيا جديدا نشأ في فرنسا بقوله:" أنا ماركس ولكني متأكد أني لست ماركسيا"* مشكلة معظم الماركسيين أنهم لم يطلعوا على التراث العلمي- الفلسفي العظيم بعد ماركس)
هدفي من هذا النشر لحقات الفلسفة المبسطة، إثارة التفكير والحوار العقلاني والتوعية العامة خاصة للأجيال الناشئة وليس توجيه انتقادات إلى حركات سياسية، لكني ألاحظ ان بعض من يدعون أنهم ماركسيون، حتى ولو كانوا مستقلين لا ينتمون لتنظيم ماركسي أيا كان نوعه، انتمائهم على الأغلب هو مجرد لغو كلامي، لديهم معرفة ببعض المواضيع بشكل سطحي وبدون تعمق، ربط أنفسهم بتيار الماركسية هو موقف سياسي وليس وعيا إيديولوجيا.
لا بد من الإشارة إلى مسألة هامة جدا وهي ان معظم الماركسيين في شرقنا العربي لم يطلعوا على التراث العلمي الفلسفي العظيم الذي نشا بعد ماركس.. وأكاد أقول ان اطلاعهم على تراث ماركس سطحي للغاية.هذا لا يقلل من أهمية ماركس الفلسفية... لكن ماركس ليس نهاية الفلسفة ولا خاتم الفلاسفة .
لم يخلق الفلاسفة كأنبياء.. المستهجن ان بعض من بقايا اليسار الماركسي يطرحون مواقف مضحكة، مثلا شيوعي أردني اسمه فؤاد ألنمري يكتب حلقات عن ماركس تحت عنوان مثير للضحك :"ليس للماركسية ما قبلها أو ما بعدها" ويجعل من ستالين نبي الماركسية. ويضيف مثل رجل الكهنوت: "لا يجوز لأي أحد أن يتحدث عما قبل الماركسية أو ما بعدها إلا بعد أن يحيط بأدق مبادئ وقوانين علوم الماركسية " أي ان الماركسية كانت خاتمة العلوم أيضا ولا اعرف مدى فهمه للعلوم ، مثلا الفيزياء الذرية?
النمري قد يكون مناضلا يستحق التقدير والتبجيل، لكنه باقتحامه الفلسفة ضمن رؤية دينية للماركسية، ضرره أضعاف ما يفيد الفكر الماركسي. فهو ينفي كل الفلسفة الإنسانية قبل ماركس وكل الفلسفة التي تطورت بعد ماركس، هذا الشخص نموذج للفكر السائد في التنظيمات الماركسية كلها. ربما بعضها لا يتكلم لأنه لا يعرف من الماركسية إلا اصطلاحات أولية معظمها عفا عنه الدهر..كما حدث معي مرة في محاضرة ألقاها زعيم شيوعي معلنا ان حزبه "ماركسي لينيني يؤمن بالصراع الطبقي ألتناحري وانتصار البروليتاريا". فحبست ضحكتي شاعرا بالأسف على ما وصله الماركسيون في الشرق.
لا مكان لأن اوضح له ان كل مفهوم الصراع الطبقي التناحري تلاشى من المجتمعات الإنسانية مثل فقاقيع الصابون، وان البروليتاريا ظاهرة أوروبية لم تنشا خارج اوروبا واليوم لم تعد قائمة اطلاقا. ولا بد من توضيح لأصل اصطلاح "البروليتاريا، اول من استعمل هذا الاصطلاح اقتصادي بريطاني واصفا فئة العمال المسحوقين ، وهم بالأصل فلاحون ورعاة صودرت اراضيهم وخربت مزارعهم ومراعيهم في بداية النهضة الرأسمالية في أوروبا، تحولوا الى عمال غير مهنيين في الصناعات الرأسمالية، وقد ميزهم عن العمال المهنيين..الفئة الطبقية الأرقى ماديا واجتماعيا.
أحزاب بدون فكر وتثقيف أيديولوجي لكوادرها، بجهل للفلسفة التي يدعون تمثيلها، بجهل كامل لأوليات الفكر الماركسي والفكر الفلسفي عبر التاريخ وما بعد ماركس، الى جانب ضحالتها الثقافية، وتمسكها بأوهام تنسب للماركسية، كذلك رؤية مشوهة وسطحية للتجربة السوفييتية، ينتهي دورها بالتفكك وهذا هو واقع اليسار الماركسي العربي كله، وواقع الشيوعية في العالم كله. لا اتهم ماركس، بل من يدعون انهم ماركسيون، وقد أجابهم ماركس في حينه ، انه ليس ماركسيا .. اذا كانوا هم ماركسيون!!
طبعا أختلف مع بعض أفكار ومفاهيم ماركس بالذات التي أرى انها فقدت قيمتها مع مرور الزمن ومع تغير وتبدل الظروف والشروط التاريخية. وهو أمر طبيعي، العلوم أيضا ترقى وتنفي ما سبقها من مفاهيم. وتطور الجديد.. وإلا أصبحت العلوم أكثر تخلفا من داعش!!
فلماذا يجعلون من ماركس شبه اله؟
الا يعلمون انها اهانة لماركس في نظرتهم الدينية لفلسفته وهو الذي طرح التطور الدائم والتغير في فلسفته المادية الجدلية وقوانينها الثلاثة؟
ان الطريقة العلمية هي اسم شامل لتقنيات تستعمل لبحث الظواهر، وتجميع المعلومات الجديدة، او إصلاح ودمج لمعرفة سابقة.هذه التقنيات تفتح الطريق أمام الحسم بين أفكار ومفاهيم مختلفة بطريقة علمية لها آليتها ومختبراتها وطرقها وبنك المعلومات الهائل وليس مجرد تغريدة طارئة نصها أبسط من إعداد فنجان قهوة!!
ان الطريقة العلمية عبرت تطورا واسعا خلال التاريخ وجزء من القفزات الكبيرة في العلوم تعتبر نقاط انطلاق بتغيير الأـسلوب العلمي، لأن تطور العلوم لا يتوقف.
من نفس المنطلق الأمر الطبيعي تماما أن تفقد بعض أفكار ماركس قيمتها وان تأتي مكانها نظريات جديدة ليست ضد الماركسية بل استمرارا للفكر الفلسفي.. فالأفكار والمفاهيم جميعها من دون استثناء هي دائماً بنت تاريخها.. وكل جيل يضيف تطورات تطابق عصره.. مشكلة معظم الماركسيين أنهم لم يطلعوا على التراث العلمي- الفلسفي العظيم بعد ماركس ، فهم لا يقرؤون إلا دينهم!!
الأستاذ في جامعة لندن ماكسيميليان روبل قال: "أن تاريخ القرن العشرين هو تراث ماركس". طبعا ليس تراث ستالين ، ولا تراث ماو .. تراثهم لم يكن ماركسيا.
كتّاب كثيرون من الغرب والشرق كتبوا عن ماركس بحرية، بدون ضغوطات أيديولوجية، كتبوا عن ماركس الإنسان، الفيلسوف، الاقتصادي وعن ماركس الثوري.
عندما كان رفاق ماركس يبلغونه ان حزبا ماركسيا جديدا نشا في فرنسا مثلا، كان يرد عليهم :" الذي انا متأكد منه هو أني لست ماركسيا"
معنى كلامه ان الأحزاب التصقت عنوة بفكر ماركس دون استيعاب مدلولات الماركسية الإنسانية. ماركس كان إنسانا قبل ان يكون منظرا وفيلسوفا وقائدا فكريا وسياسيا. فهل يتحمل ماركس جرائم ستالين ضد الشعوب السوفييتية بقتله ملايين ليفرض عليهم نهجه وسلطته ومشروعة المدمر لإنشاء ما يسمى "شعبا سوفييتيا" من مجمل عشرات القوميات التي كانت في الاتحاد السوفييتي؟
هل هو مذنب بنهج الأحزاب الشيوعية التي تتمسك بقشور لا علاقة لها بإنسانية ماركس وفكره..؟
هل تأليه ماركس يتطابق مع فكر وفلسفة ماركس؟ الم يتأثر ماركس كغيره من الفلاسفة والعباقرة بما أنجزته الإنسانية خلال كل تاريخها من فلسفة وعلوم ورقي حضاري؟
أن أزمة اليسار (خاصة اليسار الماركسي)في بلداننا وفي العالم، تتمثل في تراجعه المتواصل وتهميش دوره ووزنه، هناك أسباب عديدة وعلى رأسها الخلل البنيوي الذي رافق التجربة الاشتراكية منذ البدايات وجعلها تفشل في تحقيق ما ادعى قادتها أنهم يستلهمون فيها مشروع ماركس لتغيير العالم باسم الاشتراكية فلم تتحقق العدالة الاجتماعية أو المساواة أو الحرية والكرامة للمواطنين ، ولم يجر تطوير دولة اشتراكية ، بل ظلت الدولة هي نفسها الدولة الرأسمالية.. وهو موضوع هام سأعود إليه قريبا. طبعا هناك أسباب تتعلق بفساد واسع النطاق، وبطرق "إدارة حزبية" للاقتصاد بدل إدارة مهنية علمية.
نحن اليوم في مجتمعات تختلف عن أواسط القرن العشرين، الثقافة والتعليم والوعي الفكري أصبح مميزا للأكثرية المطلقة من المواطنين، لم يعد القائد السياسي ابرز المثقفين في مجتمعه، كما كان الحال سابقا، لذا ما يدعيه بعض الماركسيين بأنهم يمتلكون شرعية النطق باسم ماركس (مضافا إليه اسم لينين عنوة) والدفاع عن أفكاره واتهام مفكرين ماركسيين بالتحريفية أو الخيانة، صار من مخلفات الماضي.
رؤيتي ليست جديدة، بانه سقطت نهائيا المفاهيم القديمة ان الأحزاب هي التعبير عن مصالح طبقية!!
كذلك انا على قناعة انه حان الوقت للبدء بإنشاء تنظيمات المجتمع المدني بمفاهيم غير حزبية !!
وستبقى الفلسفة منارة للعقل البشري، لبناء مجتمع إنساني عادل، للمساواة والرفاه الاجتماعي لجميع المواطنين، وليس سجنا للتفكير الضيق واجترار الماضي!!
ان المدافعين عن الستالينية صوتهم نشاز.
******
نبيل عودة
يتبع