رمضان وعلو الهمة
لقد حث الله المؤمنين في كتابه العزيز على علو الهمة والاكثار من العبادة والأعمال التي يحبها الله ويتقرب المؤمن من خلالها إلى الله، ومما جاء به القرآن الكريم في الحث على علو همة المؤمن ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، فالمؤمن ينال بعلو همته الدرجات العليا وخير منازل الجنة يوم القيامة فقد أعد الله للمؤمن من الثواب على علو همته ومسارعته في الخيرات من الثواب الكثير حيث قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133]، وقد رغّب الله المؤمنين في الإقبال على الأعمال الصالحة بهمة عالية لما يتحصلون عليه من الأجر الحسن فقال تعالي: ﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26].
مفهوم ومعنى علو الهمَّة لغةً واصطلاحًا
1- معنى العلو لغةً:
"العلوُّ مصدر من علا الشيءُ عُلُوًّا فهو عَليٌّ وعَلِيَ وتَعَلَّى،... ويقال: عَلا فلانٌ الجبل إذا رَقِيَه وعَلا فلان فلانًا إذا قَهَره، والعَليُّ الرَّفيعُ، وتَعالَى تَرَفَّع، وأصل هذه المادة يدلُّ على السموِّ والارتفاع" (مقاييس اللغة، لابن فارس)،و (لسان العرب، لابن منظور).
2- معنى الهمَّة لغةً:
"الهِمَّةُ: ما هَمَّ به من أمر ليفعله، تقول: إنه لعظيمُ الهَمِّ، وإِنه لَصغيرُ الهِمَّة، وإِنه لَبَعيدُ الهِمَّةِ والهَمَّةِ بالفتح" (لسان العرب، لابن منظور ).
وقال ابن القيم في تعريف الهمة: "والهمة فعلة من الهمِّ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهمُّ مبدؤها، والهمَّة نهايتها" (مدارج السالكين ).
3- معنى علو الهمَّة اصطلاحًا:
الهمة في الاصطلاح هي: "توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره" (التعريفات، للجرجاني).
4- وأما علو الهمة فهو (استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وطلب المراتب السامية" (تهذيب الأخلاق للجاحظ).
وقال الراغب الأصفهاني: "والكبير الهمة على الإطلاق: هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه، فلا يصير عبد رعاية بطنه، وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة" (الذريعة إلى مكارم الشريعة).
5- الفرق بين الهمَّة والهمِّ :-
"الهمَّة: اتساع الهم وبعد موقعه، ولهذا يمدح بها الإنسان، فيقال: فلان ذو همة وذو عزيمة. وأما قولهم: فلان بعيد الهمة وكبير العزيمة، فلأنَّ بعض الهمم يكون أبعد من بعض وأكبر من بعض، وحقيقة ذلك أنَّه يهتمُّ بالأمور الكبار.
والهمُّ: هو الفكر في إزالة المكروه، واجتلاب المحبوب، ومنه يقال: أهمُّ بحاجتي" (الفروق، لأبي هلال العسكري).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى واصفاً الهمّة العالية: ((علو الهمّة ألا تقف (أي النفس) دون الله, ولا تتعوض عنه بشيء سواه, ولا ترضى بغيره بدلاً منه, ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الخسيسة الفانية. فالهمّة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور,لا يرضى بمساقطهم, ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم, فإن الهمّة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها, وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان)).
وهمة الانسان ترفعه حيث علت وتضعه حيث قصرت قال الفاروق عمر رضي الله عنه: ((لاتُصُغِّرَنّ همتك , فإني لم أرَ أقْعَدَ بالرجل من سقوط همته)) .
وقد ذمّ أعرابيٌّ رجلاً فقال : ((هو عبد البدن, حُرُّ الثياب, عظيم الرُّواق, صغير الأخلاق, الدهر يرفعه وهمته تضعه) .
والناس متفاوتون في أمرين : الأمر الأول : مطالبهم وأهدافهم. والآخر : الهمم الموصلة إلى هذه المطالب و الأهداف . فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها, فهذا متمنٍّ مغرور. فعالي الهمة لا ينظر إلى سفاسف الأمور وينظر إلى عظيمها فوقته أكبر من أن يضيع في أمور تافهة تضيع عليه وقته وجهده. فهو يستفيد من أوقاته أيَّما استفادة، فتكون مثمرةً بنَّاءةً، فساعاته محسوبة، وأيامه لا تضيع سدًى.
قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها". وكان صلى الله عليه وسلم يدعوا الله دائماً بأن يعيذه من العجز والكسل وكان يعلم أصحابه هذا الدعاء للارتقاء بأنفسهم وهممهم ...
وإن سقوط الهمم هودوما حليف الهوان، وقرين الذل والصغار، وهو أصل الأمراض التي تفشت في أمتنا، فأورثتها قحطًا في الرجال، وتقليدًا أعمى، وتواكلاً وكسلاً، واستسلامًا لما يسمى الأمر الواقع.. فإذا تفشت في أمة هذه الأمراض دب فيها الهوان والذل والانكسار وكانت في ذيل الأمم.
فكل ذل يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره: قريب شفاؤه، ويسير إزالته، أما إذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب، فهو الداء الدوي، والموت الخفي.. الذي يُذهب تاريخ الأمم وحاضرها بل ومستقبلها.
إن أصحاب الهمم العالية هم الذين يقوون على البذل في سبيل المقاصد العليا والأهداف الجليلة، وهم من يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بثباتهم وتضحياتهم، ومن ثَمَّ فهم القلة التي تنقذ الأمة، وهم الصفوة التي تباشر مهمة "الإنقاذ" لامتهم وللبشرية من حال الوهن والإحباط.الى مدارج الرقي والنهوض. وصدق المتنبي حيث قال:-
وإذا كانتِ النُفوسُ كِباراً ... تَعِبَتْ في مُرادِها الأَجسامُ
ولله دره حيث قال :-
عدل سابقا من قبل محمد بن يوسف الزيادي في 2024-03-25, 9:41 am عدل 1 مرات