==========
قال (تعالى) في سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)".
لطالما حرت في قوله (تعالى): "قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ". ما هو الذي يعلمه الله وجهلته الملائكة عندما قالوا: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ"؟
لم يقنعني قول كثير من المفسرين إن الله (سبحانه وتعالى) رد على قول الملائكة "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ"، لسبب بسيط هو أن ما تخوفت منه الملائكة حصل بالفعل، فلم يمض زمن طويل حتى قتل (قابيل) أخاه (هابيل)، واستمر بنو آدم في الإفساد وسفك الدماء إلى يومنا هذا وما زالوا مستمرين في هذا "المسلسل"، فكيف لذلك أن يخفى على الله (سبحانه وتعالى)؟! (حاشى لله).
حتى قول الذين قالوا إن معنى ذلك أن حسنات الإنسان من وجود الأنبياء والصالحين والموحدين والعباد إلخ ترجح على مساوئه من إفساد وسفك للدماء غير مقنع تماما، فهو لا يجيب على التساؤل المطروح!
ما يرجح عندي بعد تفكر في هذه المسألة دام سنوات، وقراءتي للكثير عن تفسيرها، هو ما يحاول كثير من المفسرين أن يتحاشى الحديث عنه!
تناول حديث الملائكة نقطتين مرتبطتين ببعضهما البعض:
(1) "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ": علم/توقع الملائكة أن بني آدم سيفسدون في الأرض وسيسفكون الدماء.
لن أخوض هنا في الأقوال حول كيف عرف/توقع الملائكة ذلك فما يرجح عندي هو أن كلمة "خليفة" تعني أن آدم ونسله خلفوا قوما آخرين كانوا في الأرض أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فتوقع الملائكة أن هذا المخلوق سيكون مثل من سبقوه في الأرض.
(2) "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ": تلميح لطيف من الملائكة بأنه إذا كانت الغاية الرئيسة من استخلاف الإنسان في الأرض هي عبادة الله، فإن الملائكة تقوم بهذا الدور، وبالتالي فإنه لا داعي لوجود هذا الخلق الجديد، أو تلميح إلى أن الملائكة قادرة على القيام بدور الخلافة في الأرض إذا كان الهدف منها العبادة فقط.
رد الله (سبحانه وتعالى) كان إقرارا بالنقطة الأولى بعدن التعقيب عليها مباشرة، بينما رد على النقطة الثانية بدليل عملي دامغ وضحته الآيتان 31 و 32.
لنقرأ الآيتين 31 و 32 مرة أخرى: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33)".
لقد وضح الله (سبحانه وتعالى) سبب عدم أهلية الملائكة ليكون جنسهم "الخليفة" في الأرض، وذلك لأنهم لا يمتلكون "المعرفة/العلم" الذي يؤهلهم لهذه الخلافة، في حين بين لهم بالدليل الحي الملموس أن آدم أوتي من العلم وعنده من قابلية التعلم ما ليس لديهم وهذا هو المطلوب للخلافة.
سبب ابتعاد كثير من المفسرين عن هذا التفسير الذي يبدو واضحا جدا لي الآن نقطتان:
(1) تحرجهم من القول بأن الملائكة قد تلمح بأهليتها لخلافة الأرض على اعتبار أنهم "لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ" (التحريم: 6).
والرد على هذا بسيط: لم يكن قول الملائكة اعتراضا على مشيئة الله أو استنكارا لها (حاشى لله)، بل "استغرابا" و"استفسارا عن الحكمة" من استخلاف هذا المخلوق الذي سيفسد في الأرض ويسفك الدماء. وسبب إخبار الله (سبحانه وتعالى) لهم بعزمه خلق "خليفة" لم يكن استشارة لهم (كما قالت بعض الأقوال الشاذة) بل كان إخبارا لهم بمهام جديدة موكلة إلى قسم منهم تترتب على وجود هذا "الخليفة" في الأرض.
(2) غموض في فهم الحكمة من خلق آدم. لقد وقع كثير من المفسرين في ما وقع فيه الملائكة!
ظنت الملائكة أن الهدف من وجود آدم هو تسبيح الله وتقديسه (العبادة بمفهومها الضيق) ولذلك قالوا "وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ". ماذا كان رد الله (سبحانه وتعالى)؟
لم يخبرهم (ٍسبحانه) أن آدم سيكون نبيا يعبد الله أو أنه سيكون من نسله صالحون يعبدون الله. كان الرد في جهة مختلفة مفاجئة وغير متوقعة!
كان الرد في جانب المعرفة والعلم! قال (تعالى): "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (31).
عندما فشل الملائكة في معرفة أسماء المخلوقات التي سئلوا عنها، والأرجح أنها كانت أسماء مخلوقات في الأرض، أدركوا أن الغاية من خلق آدم لم تكن العبادة بالمفهوم القاصر (التسبيح والتقديس والشعائر التعبدية فقط)، لذا كان ردهم الفوري: "قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)".
وربما سبب ووقع كثير من المفسرين في هذا الخطأ الذي وقعت فيه الملائكة هو خطأهم في تفسير قوله (تعالى): " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" (الذاريات: 56) حيث اعتبر بعضهم أن الغاية "الوحيدة" من خلق آدم هي عبادة الله، وهذا لا يستقيم مع ما تقدم.
رغم أن هؤلاء المفسرين ردوا على قول من يقول إن عبادة الله لا يمكن أن تكون الغاية الرئيسة من وجود البشر لأن كثيرا من الإنس، بل أغلبهم، لا يعبدون الله، بأقوال عدة إلا أنها غير مقنعة تماما.
ما يرجح عندي أن التعارض بين ما تقدم من أن الغاية "الرئيسة" من خلق آدم هي "الخلافة في الأرض"، وبين أنها "عبادة الله" كما في آية الذاريات شكلي. وأوضح عدة نقاط:
(1) أنقل عن الشيخ بسام جرار: ضرورة التفريق بين الهدف من خلق أصل سلالة بني آدم من العدم وهو الخلافة في الأرض، والهدف من استمرار خلق بني آدم وهو عبادة الله (سبحانه وتعالى).
(2) العبادة مفهوم واسع وليست مجرد "التسبيح والتقديس" (كناية عن الشعائر التعبدية) فالعبادة هي: "كل عمل إيجابي يقصد به التقرب إلى الله ووافق شرعه كما بينه أنبئاؤه"، ولذلك فإن كل عمل يساهم في عمارة الأرض وتحقيق خلافة الإنسان فيها بشكل الإيجابي يعتبر عبادة إذا قصد به إرضاء الله (سبحانه وتعالى).
الخلاصة: لقد أقر الله (سبحانه وتعالى) بأن بني آدم سيفسدون في الأرض وسيسفكون الدماء، وبين لهم أن الغاية من خلق آدم ليست العبادة بمفهومها الضيق فقط (التسبيح والتقديس)، بل هي أن يكون خليفة في الأرض، ومؤهله الأول في هذه الخلافة المعرفة والعلم.
لهذا لم يكن غريبا أن تكون أول آية نزلت على محمد (صلى الله عليه وسلم) "اقرأ باسم ربك الذي خلق"؛ كثيرا ما يركز المفسرون على كلمة "اقرأ" ولا يركزون على كلمة "اسم" التي تربط بشكل واضح بين ما تعلمه أول نبي آدم (عليه السلام): "الأسماء"، وما أمر أن يقرأ به آخر نبي محمد (صلى الله عليه وسلم): "اسم ربك".
جواد يونس