عند الخامسة من بعد عصر يوم الثلاثاء الموافق 15 أغسطس كان صالون نون الأدبي على موعد مع رواده للقاء حول مائدة الدكتور عاطف أبو سيف والدكتورة سهام أبو العمرين ورواية الحاجة كرستينا
افتتحت الأستاذة فتحية صرصور اللقاء مرحبة بالحضور فقالت: الحضور الكريم .. رواد الصالون .. كتاب ومثقفين ومبدعين أهلا بكم في لقاء جديد من لقاءاتنا في صالون نون الأدبي
نبدأ لقاءنا مهنئين حجاج بيت الله الحرام الذين بدأت قوافلهم في الانطلاق لأطهر البقاع، تقبل الله منهم، وجعله حجا مبرورا وسعيا مشكورا وتجارة لن تبور وعودا حميدا سالما، والعقبى لنا جميعا
أما بعد،،،
نلتقي وإياكم للمرة الثانية بضيفين عزيزين؛ لقد التقينا بالدكتور عاطف أبو سيف عبر روايته (حياة معلقة)، والتقينا بالدكتورة سهام أبو العمرين في قراءة لقصائد الهايكو، واليوم نلتقيهما معا في الحاجة كريستينا
الدكتور عاطف أبو سيف، روائي فلسطيني ولد عام 1973 في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، لأبوين هجّرت عائلتهما من مدينة يافا.
درس اللغة الانجليزية وآدابها في جامعة بيرزيت، وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة فلورنسا بإيطاليا.
كتب القصة والرواية، كما كتب في الفكر السياسي، وأصدر كتابا في الفكر السياسي حول المجتمع المدني والدولة، صدر عن دار الشروق في عمان
دخلت روايته “حياة معلقة” في القائمة النهائية “القصيرة” للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) لعام 2015.
أنتج أدبيا:
• “ظلال في الذاكرة”، 1997 - • “حكاية ليلة سامر”، 2000
• “كرة الثلج”، 2001 - • “حصرم الجنة”، 2003
• “حياة معلقة”، 2014 - • “الحاجة كريستينا”، 2016
وله أيضا:
• “مستر بيرفيكت” (مسرحية)، 2002 - • “في شي عم بيصير” (مسرحية)، 2003
• “إسرائيل والاتحاد الاوروبي الشراكة الناعمة”، 2011
• “حياة ميتة – قصص من غزة”، 2013
ثم قالت فتحية: عودا إلى الحاجة كريستينا رواية الدكتور عاطف موضوع حديثنا اليوم نراه جمع فيها بين حيوات ثلاث، وبيئات جغرافية ثلاث؛ فمن يافا إلى لندن فالمخيم في غزة، ومسميات ثلاث لفضة أو كريستينا، فمن مواطنة في يافا، لإنكليزية تحيا بفلسطينيتها في لندن، انتهاء بلاجئة في مخيم من مخيمات غزة، ففضة ابنة يافا، والحاجة كريستينا التي عاشت الشتات، تعود كمتضامنة مع أهل غزة فتأتي ضمن سفينة كسر الحصار.
من خلال الحاجة كريستينا يلج الدكتور عاطف في روايته لسرد أهم مفاصل القضية الفلسطينية؛ حيث تطرق إلى مرحلة الانتداب، فالنكبة، ثم الانشغال في المقاومة ببيروت، لينتهي بمرحلة الحصار المفروض على غزة، ولم يغفل أهم التحولات في حياة الشعب الغزي والتي أفرزها الانقسام، وما جلبه على الشعب من المعاناة الجماعية ..
عند هذا الحد اكتفت الأستاذة فتحية فقالت: لن أطيل الحديث لأفسح المجال للدكتورة سهام تحدثنا عن سؤال الهوية في رواية "الحاجة كريستينا"
بدأت الدكتورة سهام حديثها مقدمة التحية لجمهور صالون نون الكرام، ثم قالت: إنه لشرف لي مشاركتي في صالون نون - للمرة الثانية - الذي يمضي بثبات نحو ثقافة واعية
ومن قراءتها للرواية كانت دراسة مستفيضة من الدكتورة سهام جاءت فيما يزيد عن عشر صفحات قالت فيها:
سؤال الهوية في رواية الحاجة كريستينا للروائي عاطف أبو سيف
يقدم الفن الروائي عالمًا يشبه الواقع بتحولاته وتبدلاته، يشبه الواقع ولا ينسخه، فالرواية لا تؤرخ الوجود وإنما تعيد إنتاجه مشفرًا عبر اللغة، وهي في ذلك تسعى لتعميق رؤيتنا لهذا الواقع وإدراكنا لمقوماته ومحرضًا لتغييره عبر إثارة الأسئلة المعرفية التي تغني التجربة الإنسانية. هي "عملية بحث مستمر" كما تقول ناتالي ساروت، ورواية الحاجة كريستينا هي "بحث مستمر" عن الهوية والذات التي أضحت منقسمة تائهة في عالم تتبدل قيمه يبحث عن المعنى وسط الخراب.
الحاجة كريستينا هي التجربة الروائية السادسة للكاتب عاطف أبو سيف، الذي يمتلك مشروعًا روائيًّا ذا خصوصية بإثارته لقضايا جوهرية تمس الذات الفلسطينية الباحثة عن الخلاص. روايته الأولى كانت بعنوان ظلال في الذاكرة والثانية حكاية ليلة سامر والثالثة كانت بعنوان كرة ثلج، أما الرابعة فحملت عنوان حصرم الجنة، ثم حياة معلقة التي وصلت للقائمة القصيرة للبوكر.
يتكون النص الروائي "الحاجة كرستينا" من ثلاثة عشر فصلا معنونًا: "الشبح، اختفاء كرستينا، أيدٍ لا تلوح في الهواء، الحياة في يافا، لندن 1947، الحياة التي كانت، مجلس النساء، مجلس الرجال، الحنين لا يجف على الطريق، الركض في ممرات الماضي، رجعات لم تتحقق، قديسة في قارب، عودة كرستينا". ويقع النص الروائي في 312 ثلاثمائة واثنتي عشرة صفحة.
الرواية وإن حملت اسم شخصية وهو "كريستينا" والتي تعد مركز الأحداث، ومفعول الحكي ومادته، والنقطة التي تلتقي عندها خيوط الحكي المتشعبة، فلا يمكن أن نعدها رواية شخصية/ رواية البطولة الفردية بالمفهوم الكلاسيكي. "كريستينا" هي صوت الجماعة، وصورة للذات الباحثة عن هوية، ورمز للتشريد الفلسطيني وتغريبته، إن حكاية "كريستينا"، كما يقول السارد، "أكبر من مجرد سرد ذاتي لقصة شخصية ولمصابٍ خاص، إنها حكاية أوسع يدخل فيها المجتمع ويتغير في أتونها المكان، وتتبدل في رحمها العلاقات والمواقع الاجتماعية"(ص 101/102) هي ذاكرة ال، ونقطة وصل بين الحاضر الذي يحتضر بالماضي بزخم أحداثه.
تلقي الرواية أضواء كاشفة على حياة الشخصية المركزية بالرواية "كريستينا" منذ طفولتها وحتى وصولها عقد الثمانين من العمر، وهي في الشتات حيث ارتحالاتها القدرية في المكان لتكون سيرتها بمثابة صورة لتحولات مصيرية ومفصلية في حياة الوطن.
ولدت "كرستينا" بـ "يافا" أثناء إضراب 1936 (والزمن له دلالته فقد ولدت في زمن ثورة فارقة) وهي ابنة "عوني السعيد" الذي تزوح من "حياة" عن قصة حب، وأسماها "فضة" التي قضت طفولة سعيدة بصحبة عائلتها في "يافا" التي استقرت حلمًا جميلا في مخيلتها طيلة حياتها، وما أن بلغت الحادية عشر من عمرها حتى أصيب إصبعها الإبهام بورم، وما كان من والدها بعد محاولات يائسة لعلاجها بالداخل إلى أن وافق أن يصطحبها صديقه الحميم "جورج" الإنجليزي لـ "لندن للعلاج حتى تعود بعد ثلاثة أشهر كما هو متفق، وما أن سافرت حتى حدثت "النكبة" والتهجير القسري للأسر الفلسطينية من قراها، وانقطعت سبل التواصل بينهما إلى أن توفيت أسرتها بعد خروجها من يافا في قرية "برقة"، وما كان من جورج لاحقا إلا أن يتبنى "فضة" و يسميها "كرستينا" التي قضت بلندن إحدى عشرة سنة لترجع لغزة بعد وفاته أواخر الخمسينات لتسكن أكبر مخيمات الشمال لتعيش بهويتين، "فضة" العربية، و"كرستينا" الإنجليزية، ويستمر بها المقام بغزة مدة واحد وخمسين عامًا ليتفاجأ سكان المخيم باختفاء "الحاجة كرستينا" في اليوم الرابع عشر من حرب 2008 على غزة عندما جاء جيب لاندروفر ليقلها إلى حيث لا يدري سكان المخيم، وتختفي من المخيم وتتناسل الأسئلة أين اختفت؟ ولماذا؟ هذا هو زمن الحكاية وخط الأحداث المحوري الذي يقام عليه البناء القصصي، ومنه تقدم شخصيات الرواية الذين يجمعهم المخيم وذكريات "الحاجة كرستينا" عن حياتها في "يافا" و"بريطانيا" لتكون أيقونة المخيم وخيطًا جامعًا للأحداث المتلاحقة.
أما زمن الخطاب الروائي فلم يخضع للترتيب النسقي الكرونولوجي، بل بدأ ببنية زمنية لاحقة لزمن الحكاية محددة ببعض المؤشرات الزمنية "أربعة أسابيع قبيل حرب 2014 على غزة، أي بعد اختفاء الحاجة كريستينا بخمس سنوات تقريبا، حيث انشغال أهل غزة بالحديث عن شبح ضخم يظهر ويختفي في البحر، لتكون بداية الأحداث بداية غرائبية سحرية. ويلاحظ أن الفصل الأول والذي يحمل اسم الشبح مستقل بنائيًّا، ويمكن أن يتلقاه المتلقي باعتباره قصة قصيرة مكتملة البناء، كما يلاحظ أن هذا الفصل لم يأت الروائي على ذكر أي شخصية من شخصيات الرواية بل تحدث عن الخوف والحذر اللذين أصابا أهل غزة لظهور هذا الشبح. تبدأ الأحداث اللاحقة في الفصل الثاني تسير صوب الماضي حيث حدث اختفاء كريستينا من المخيم في اليوم الرابع عشر من الحرب على غزة عام 2008-2009، ويعتمد السارد على العودة للماضي باشتغال تقنية الاسترجاع على الجسد النصي.
وقد قدم مشاهده الماضوية المسترجعة كما لو أنها تحدث الآن، إذ اعتمد على تقنية الاسترجاع المشهدي حيث تقديم الماضي طازجًا للمتلقي، مع تقديم بعض المحددات الزمنية لتنتظم الحكاية في ذهن المتلقي. ثم تمعن الرواية في التوغل في الماضي لتصبح رحلة غوص في الماضي ببعديه القريب والبعيد، وتلك العودة قد أسهمت في تشكيل صورة للحاضر الذي بات مستلبًا مأزومًا. فكانت العودة للماضي محاولة لفهم الحاضر، ومحاولة لإيجاد إجابات عن أسئلة الحاضر الملتبسة والمعلقة.
نسج السرد عبر تفعيل تقنية ضمير الغائب والذي عده رولان بارت أكثر الضمائر روائية، فهو بالنسبة للكاتب كما يقول في كتابه الكتابة في درجة الصفر "الوسيلة الأولى لحيازة الكون".
يتمظهر سارد الحاجة كريستينا باعتباره ساردًا عليمًا يجوب الأمكنة والأزمنة، عارفًا بما تضمره الشخصيات وما تفكر به، لكن الحدث المحوري في الرواية وهو حدث اختفاء كريستينا حجم من علمه وشمولية معرفته، ليصبح محدود العلم، إذ بدا مستفسًرا مستفهمًا، فلا يعرف ماذا حل بكريستينا؟ وما مبررها في الاختباء المفاجئ؟ فهذا الحدث قد خلخل وعي الشخصيات، وفتح السرد على ثنائية الشك – اليقين التي انسحبت على موقف السارد من محكيه، إذ لم يعد متأكدًا بكريستينا. لذلك تكرر في السرد بعض الكلمات والعبارات من قبيل "ربما ..."، "يمكن افتراض ..."، "هل يمكن أن يكون هذا هو الجزء الناقص من الحكاية" (الرواية، ص 27).
ليعلن لاحقًا: "هذه افتراضات لا يمكن الجزم بصحة أي منها، لكن يمكن التأكيد بان شيئًا ما في هامش هذه الافتراضات أو على تخومها قد حدث فعلا، لكننا لا يمكن الجزم بذلك.." (الرواية، ص 219).
ليتحول اختفاؤها للغز.
ليقول بعد ذلك بين قوسين (لا بأس فلا دليل. أن الحاجة قد ماتت. اختفت على الأقل) (الرواية، ص 217). لكن السارد سابقا في الفصل المعنون بـ "مجلس النساء" وعبر تقنية الخط المائل قد بئر على كريستينا وهي تستقل الجيب اللاندروفر وصاحبها للمطار وعرض ما يجول بذهنها وبعض ذكرياتها وهي على متن الطائرة في طريقها للندن.
بدا السارد معلقًا شارحًا بعض الكلمات كما وردت في بعض السياقات النصية، كان صوته هو المهيمن وهذا ما فسر تقلص الحوار مقارنة باتساع الرقعة النصية للسرد، فضلا عن أنه قد لجأ لتكرار الحدث المفصلي في النص وهو اختفاء كريستينا في أكثر من موضع نصي.
ازدواجية الهوية:
مفهوم الهوية من المفاهيم الملتبسة متعددة الدلالات، هو مصطلح أيديولوجي أكثر منه مصطلح علمي، يستخدمه السياسي ورجل الدين والاقتصادي وعالم النفس والأنثروبولوجي إلخ بالكيفية التي تتلاءم مع الاختصاص الذي ينطلق منه. وهو كمفهوم يرتبط بمجموعة من السمات التي تشترك فيها الجماعة الواحدة مثل الدين واللغة والعرق، وهذه السمات متغيرة حسب طريقة توظيفها، وبالتالي طرح سؤال الهوية يرتبط بالبحث عن الثابت والمتغير، الأصيل والدخيل.
كلمة الهوية تتكون من ضمير الغائب المفرد "هو" المعرف بـ "ال" ومن اللاحقة المتمثلة في ياء النسب المشددة إلى جانب تاء التأنيث. وتعني "عين الذاتية" و"تمييز شيء عن غيره"؛ فهوية الشيء هي جوهر كينونته، ويشير المفهوم إلى امتياز الفرد والمجتمع عن الغير بما يتميز به من خصائص وقيم وميول.
ويتم النظر للهوية باعتبارها تمفصلاً بين الذات والآخر؛ فهوية شخص ما تتحدد من خلال علاقته كذات بآخر، والحديث عن هويةٍ ثابتة راسخة هو حديث غير صائب، ذلك أن الفرد الواحد ذاته تتنازعه عدة هويات، كل هوية تظهر في سياق ما. فالهوية تتحول تبعًا لتحول المجتمع، وقد تتبدل وفق صيرورة التحول.
وللهوية مستويات دائرية عدة متداخلة؛ هوية فردية، جماعية، وطنية، قومية، إنسانية؛ فالشخص يمتلك هوية فردية باعتباره ذاتًا متميزة عن غيره من ذوات مجتمعه، هذه الهوية تمتد به لتصل إلى مستوى أعم وهي الهوية الإنسانية حيث المشترك الإنساني.
قد يمر الإنسان الذي ينتقل من ثقافة لأخرى، بما يمكن تسميته بقلق الهوية وذلك عندما يجد نفسه أمام منظومة قيمية مختلفة عن ذلك المجتمع الذي خرج منه، ليستعمل لغة مشحونة بثقافة وأعراف مغايرة، ليعيش قلقًا وازدواجية لتشرذم ذاته بين عدة ثقافات، وهذا يعد خللا إذا ما لم يستطع الإنسان التجاوب مع ثقافة الغير مع الحفاظ على هويته الخاصة. وبالتالي فالهوية ليست بنية ثابتة راسخة بل هي بناء منفتح على الآخر، من شأنها أن تنحصر من مبدأ الانحياز الثقافي لمجتمعه الذي ينتمي إليه أو تتمدد من منطلق الانفتاح على الآخر.
ويرى أدونيس أن للإنسان هوية ثنائية، عكس ما يروج له البعض من تعريفهم للهوية الأحادية، يقول:
هكذا للإنسان اسمان:
واحد في سجل التكوين: المخلوق الخلاق
وآخر في سجل التاريخ: المتغير المغير" (أدونيس، باقة نيلوفر لميادين التحرير العربي، دفتر أفكار، مارس، مجلة دبي الثقافية، 2011، ص11)
لا وجود إذن لهوية ذات بعد واحد ولكن الهوية مركبة وذات مستويات. فهي ليست جامدة بل قابلة للتجدد، ولا سيما في فلسفة ما بعد الحداثة حيث الوعي بلا مركز، فالعالم في حالة تبدل وتغير مستمرين يسير ضد فكرة الثبات.
عنوان الرواية:
العنوان علامة نصية مختزلة مكثقة ذو سلطة دلالية تقود المتلقي لإنتاج المعنى، هو بنية إشارية دالة وعتبة أولية لا يمكن تجاوزها، هو مفتاح النص، وقد يكون لعبة لغوية يراوغ بها الناص متلقيه الذي يورطه نصيًّا بدعوته للاشتباك دلاليًّا لإنتاجية النص، وقد يخيب أفق توقعه باختياره عنوان يحمل دلالة عكسية.
يحقق عنوان الرواية هدفه بإغراء القارئ وجذبه، فهو تركيب غير متجانس؛ إذ كيف يقترن الاسم الغربي "كريستينا" والذي يعني "المؤمنة بالمسيح" باللقب "الحاجة" المشحون بدلالة إسلامية؟
"كريستينا" اسمها الحقيقي "فضة" وهو الاسم الذي اختاره والدها "عوني السعيد" بعدما أوجد علاقة بين "لمعان الفضة ولمعان الحب ووهجه"، وأن هذا الاسم، كما يصرح السارد، سيعمل كتعويذة سحرية سيحميها من عصف الأيام المقبلة؛ فـ"فضة ستظل قادرة على درء أشعة الحياة القاتلة مثل قطعة المعدن تعكس أشعة الشمس فلا تحترق"(الرواية، ص 59).
أما اسم "كريستينا" فهو الاسم الذي اكتسبته وهي بلندن بعدما تبناها "جورج" وقد انقطعت بها سبل الرجوع لـ "يافا" بعد قتل أسرتها، هذا الاسم هو تذكير بالمأساة التي نتجت عن الخروج من يافا"، فهو "من مرحلة ما بعد يافا" (ص 123) كما تقول "سلطانة" صديقة طفولتها.
ثنائية الاسم ما هي إلا صورة لازدواجية الهوية، هذه الازدواجية جاءت نتيجة انتقال كريستينا لبيئة وثقافة مغايرة، وقد وجدت ذاتها مندمجة فيها حد التشبع بانكبابها على قراءة أدبها والاستماع لموسيقاها والتغني بأغانيها، حتى صارت جزءًا من المكان مدة أحد عشر عامًا قضتها بلندن وهي المدة ذاتها التي قضتها بيافا سابقا، ليتشارك المكانان بخلفياته الثقافية المتباينة في تشكيل وجدان كريستينا وعقليتها، وهي عندما عادت لغزة قسرًا ، بعد وفاة جورج وبتنسيق أخوته للتخلص منها، عادت بتلك الهوية المزدوجة، لها اسمان وعالمان مختلفان، الجميع كان يناديها "كريستينا" فقط زوجها "يوسف" وصديقتها "سلطانة" من كانا ينادياها "فضة"، ولم تجد حرجًا في مناداتها بالاسم الغربي.
حافظت "كريستينا" على هيئتها الإنجليزية إثر عودتها لمخيم اللاجئين بغزة، فقد كانت ترتدي البنطال والسترة، وقد كانت النساء يرتدين الأثواب المحلية المطرزة، ويمكن" الاستدلال على هوية المرأة من الثوب الذي تلبسه" (ص 110) كما يقول السارد حيث تتعرف على بلداتهم من خلال شكل الثوب، ولكن هيئتها المختلفة لم يسبب أزمة لكرستينا أو لأهل الحارة، فمن المنطقي أن ترتدي "كرستينا" هذا اللباس لأنها تربت بلندن فترة من الزمن، كما أن أهل الحارة الذين هاجروا من يافا كانوا معتادين هذا التنوع.
ولعل شكلها الأوروبي هو الذي جعل موظفة وكالة الغوث تسألها باستغراب عندما تقابلا في المخيم عن سبب وجودها بهذا المكان الذي تبدو فيه "كريستينا" مختلفة عنه، فأجابتها كريستينا: "أنا من هنا" لكن "خطواتها المتعثرة صوب البيت تقول لها بكثير من القلق أنها غير واثقة فعلا من أن هذه كانت الإجابة الصحيحة" (الرواية، ص 46).
لم تملك "كريستينا" عندما عادت لغزة أوراقًا ثبوتية رسمية تؤكد أن اسمها "فضة" وأنها ابنة "عوني السعيد"، وهذا ما جعل أهل المخيم يشكون في روايتها ونسبها؛ فجميع الأوراق الثبوتية الرسمية من عقد الزواج وبطاقة الهوية وشهادة ميلاد ابنها "ياسر" مثبت فيها اسم "كريستينا" (انظر الرواية، ص 219، 220). ولا يوجد شيء يشير لهويتها الأولى باعتبارها فتاة ولدت بيافا وحملت اسم "فضة".
لقد كانت النكبة، في حقيقة الأمر، هي الحدث الصاعق الذي غير مسار حياة الفلسطينيين وغيرت من طريقة إدراكهم للعالم. فالاقتلاع والتشريد زعزعت نظرة الذات لذاتها وللعالم وعمقت مفهوم الاغتراب. فلولا النكبة لعادت فضة/ كريستينا" لـ "يافا" وعاشت هويتها العربية.
وتجدر الإشارة أن "كريستينا" كانت لديها هوية دينية مزدوجة كذلك، فهي مسلمة تصلي الصلوات الخمس، وفي الوقت ذاته تذهب للكنيسة في الأعياد، حتى أن كاهن الكنيسة لكثرة ترددها على الكنيسة يختلط عليه الأمر ويعدها أحد الرعية. هذا التناقض الذي يعتري "كريستينا" ما هو إلا انعكاس لتناقض واقعها كذلك: "عالم كريستينا الخاص الذي يجعلها تذهب للكنيسة في الأعياد، هو نفس العالم الذي يطلق عليها لقب "حجة" رغم أنها لم تصل مكة مطلقًا في حياتها" (الرواية، ص 129).
كما أنها كانت زوجة "يوسف" أحد الثوار الذي قدم حياته فداءً للوطن إثر نكسة 1967، وهي ذاتها التي واظبت على زيارة قبر النقيب "إدموند" الأخ الأكبر لـ "جورج" المدفون بمدافن الإنجليز بغزة والذي قتل في معركة "غزة الثانية" 1917، كانت تزوره بانتظام وفاء لـ "جورج" الذي عاملها كابنته.
هذه العادات نتجت عن ارتباطها بالماضي، هذا الماضي الذي فرض عليها واقعًا لم تختره بل فُرض عليها؛ فهي واقعة بين "ماضيها المضطرب مشوش الهوية وغير واضح الطرق والمسالك، وبين حاضرها الذي اختارت أن تعيشه حتى ولو كُتب عليها في البداية ولم يكن باختيارها" (الرواية، ص 126).
على الرغم من تراوح "كريستينا" بين عالمين متمايزين فقد كانت تعيش فيهما "بطمأنينة واستقرار، تنتقل من واحد لآخر بسلاسة. كما أنهما لا يتعارضان داخلها. فهي تشعر بالرضا والسعادة في كل عالم (...) كانت ترى واقعها مثاليًّا ومناسبًا لشخصيتها ولماضيها" (الرواية ص126-127). حتى أن السارد يتساءل متعجبًا من تلك القوة التي واجهت بها كريستينا الحياة: " كيف تتصالح مع كل تلك المتناقضات وتجمع بين كل تلك الأطراف، وتظل على علاقة جيدة مع الجميع؟"(الرواية، ص127).
الذاكرة والهوية:
كانت كريستينا صوت الماضي، وراوية المخيم بما تملكه من مخزون الحكايا عن الماضي بمآسيه وتمفصلاته، فهي "مصدر ومُصّدر القصص الوحيد" في المخيم (الرواية، ص 62) لتكون مثل "حكواتي الحارة في يافا" الذي شغفت بقصصه في الصغر، لتصبح قصصها مع الزمن "ملكًا للجميع، جزءًا من التاريخ العام للحارة" (الرواية، ص 62)، فالذكريات هي ما تبقى لهم من قراهم وبلداتهم. وظلت اللحظات المؤلمة التي يجترونها في حكاياهم عندما يسترجعون "أوديسة الخروج" من يافا وقراهم المختلفة للمنافي والشتات، هي المشترك التي تتلاقى فيه جميع الحكايات.
ولأن ذاكرة الناس أقدم من ذاكرة المكان/ المخيم "الذي وجد لمحاولة طمس ذاكرتهم" فقد أعطت هذه الذاكرة المخيم هويته. فالكل في المخيم "غرباء" كما يقول السارد، يشتركون في الغياب/ المنفى والذكرى/ الحكايات المتشابهة.
ومثلما كانت "كريستيا" بمخزونها الحكائي حافظة للذاكرة الجمعية، كذلك كانت حافظة لتاريخ عائلة "جورج" ومستودع حكاياتها، فعندما عادت لبريطانيا وهي في عقدها الثامن، كان يلتف حولها أفراد عائلة "جورج"، الذين ينادونها بالعمة كريستينا، يستمعون لحكاياتها عن العم الأكبر "إدموند" وموته على تخوم غزة وهو يبحث عن أمجاد الإمبراطورية، وتحدثهم عن قبره الذي دأبت على زيارته، وكذلك عن ذكرياتها مع جورج، وتذكر لهم حكاية الجد الأكبر الذي جاء إلى فلسطين نهاية القرن التاسع عشر وحكاية عشقه لفتاة مسيحية من الناصرة. لكنها تعرج على ذكرياتها في المخيم ويختلط في ذهنها شخصيات عالم المخيم، كما سيختلط على المستمعين الحكاية، فلم يستطيعوا التمييز بين ما كانت ترويه عن حياة الآخرين وبين ما ترويه عن نفسها. لتصبح حكايتها الذاتية هي حكاية الوطن المشظى.
رغم ازدواجية عالمها وهويتها ظل الوطن قابعًا داخلها، ولعل المشهد النصي الذي قام فيه السارد بالتبئير على "كريستينا" وقد اصطحبها الرجلان الغربيان في الجيب اللاندروفر متوجهين للمطار قاطعين الطريق بالقرى الفلسطينية المحتلة، من المشاهد التي وضعت المتلقي في مواجهة انتماء كرستينا الحقيقي للوطن، فقد سألت أحد الرجلين عن وجهتهم التي يقصدونها، فرد عليها نحن ذاهبون للوطن، وكان يقصد بريطانيا، باعتبار كرستينا أحد رعاياها. لتشير بيدها للطريق كأنها تقول هنا الوطن. لتسأل باستغراب: الوطن؟ ويعلق السارد بقوله: "السؤال الذي لم تعرف يومًا كيف تستقر على إجابة له" (الرواية، ص 229). لكن مواقفها منذ أن وطئت أرض غزة أواخر الخمسينات قد أجابت على هذا السؤال، لتتحدد هوية "كرستينا" الوطنية وانتماؤها لفلسطين، ولعل موقفها بعد ذلك عندما وصلت بريطانيا ومشاركتها في أكثر من مظاهرة تنديد للحرب على غزة دليل على ذلك، كما أنه عندما تسنت لها فرصة لزيارة يافا بعد عام 1967 رفضت؛ حتى لا تراها محتلة، فقد أرادات ان تحافظ على صورة يافا كما انطبعت في ذهنها منذ الصغر.
لتصبح الرواية رحلة الغوص في الذاكرة للبحث عن الهوية المستلبة.
الذات بين الغياب والحضور:
التيمة الأساسية في الرواية هي الغياب/ اختفاء كريستينا من المخيم فجأة في اليوم الرابع عشر من الحرب الإسرائيلية على غزة 2008، هذا الغياب الذي ضرب استقرار المخيم في مقتل كما يقول السارد (انظر الرواية ص266)، فغيابها وضعهم وجهًا لوجه أمام مصيرهم حيث آلة الحرب التي هددت حيواتهم. فقد تركتهم "يواجهون موتهم المحقق وحيدين، وقررت النجاة بنفسها/ خيانة!/ معقولة الحاجة تخوننا!/ هربت" (الرواية ص28) الأمر الذي جعلهم يتشككون مرة أخرى في هويتها . فهل تعود الحاجة فجأة إلي "بريطانيتها وتترك أهلها"؟ (الرواية ص 31). وهل الاختفاء هزيمة للذات الجمعية؟ ونكوص بالتخلي عنها؟
حياة كريستينا سلسلة من الغياب المتواصل والفقد؛ بدءًا من غياب والديها بالموت إثر النكبة مباشرة، وغياب زوجها "يوسف" إثر النكسة، وغياب ابنها الوحيد "ياسر"، الذي لا تعرف عنه شيئًا في الجنوب اللبناني، أوائل الثمانينات حيث التحاقه بصفوف المقاومة. ثم غيابها عن الحارة أثناء حرب 2008. هذا هو "جزء من الغياب الجمعي" ومصيرها غير المعلوم جزء من المصير الجمعي".
تجدر الإشارة إلى أن المخيم الذي بات غير مستقر بغيابها هو في الأساس ليس مكانا للاستقرار بل هو رمز للتشريد والمنفى والشتات، فليس هو الوطن، إنما هو مكان مؤقت للذات المهزومة التي تبحث عن هويتها بالرجوع لأراضيها المحتلة. في المخيم "لا يمكن أن تكون غريبًا، فالكل غرباء" (الرواية ص109) وكأن اختفاء كريستينا من المخيم وزعزعة استقرارهم المزعوم يضعهم مرة أخرى في قلب المأساة، لأن الواقع لم يسفر إلا عن مزيد من الانتظار. وكأن حكايات كريستينا عن الوطن/ يافا في الماضي كان بمثابة الحلم الذي لم يجد أرضية صلبة من الفعل ليتحقق، فالذكريات لم تعد تجدي مع هذا الواقع الذي يسير بهم صوب الهاوية. فشخصيات الرواية وقعوا في دائرة العجز واللا فعل. الحارة ذاتها لا مختار لها؛ فقد مات قبل تسع سنوات فجأة، وبموته "انقسمت الحارة على نفسها" (الرواية ص 174)، ورجال الحارة "ظلوا عاجزين على تجاوز الأمر. وظلت الحسرة والبكاء على الأطلال واستذكار الماضي أفضل ما يبرعون به" (الرواية ص 165)، وموته جاء بعد غضبه الشديد مما آل إليه الوضع السياسي المتأزم الذي أسفر عن الانقسام، ليرى أن "الكل مدان ".
ثنائية الهروب/ العودة:
بالنظر في تحولات هوية بعض شخصيات الرواية، سيتراءى حجم ما آل إليه الحاضر من عجز واستلاب، إذ أضحت غزة مكانًا طاردًا للشخصيات التي تحطمت أحلامهم على أرضها:
- "منار" الذي تراءى في ماضي السرد فتى مناضلاً دخل السجن مدة ثمانية عشر شهرًا على خلفية مشاركته بالانتفاضة الأولى سكنته رغبة الخروج من غزة التي يراها سجنًا كبيرًا، وقد أخفق مرارًا في تحقيق حلمه بالخروج لظروف إغلاق المعبر؛ ولم يجد حلاً سوى المغادرة بطريقة غير شرعية عبر قارب يحمله بحرًا إلى مصر ومن ثم إلى اليونان أو إيطاليا، وتنغلق الرواية على أفق ضبابي لمصير "منار" الذي لا أحد يعرف كيف انتهى به الأمر، إذ تقول أمه لطيفة: "يا خوفي البحر يكون أكله" (الرواية ص 309).
- كذلك أنطون زوج "سلطانة" يخبر "كرستينا" أن :"معظم المسيحيين في غزة يهاجرون " لم يبق منهم إلا بضع مئات "بعد قليل ستصبح بلا مسيحيين. لا أحد يتمسك بالمكان.. بكى وهو يقول" "الكل يترك أرض المسيح.. يتركون الرب وحيدًا على صليبه" (الرواية ص 204).
- كما أن كرستينا طلبت من سامي الذي تعلق بفتاة فلسطينية من مخيم اليرموك التقاها بإحدى ورش العمل ببلجيكا ألا تأخذه للخارج، تقول: "المهم تجيبها هون مش تطلع برا معها" (الرواية، ص 194).
وفي مقابل حركة الشخصية بالهروب من غزة للخارج، نجد حركة عكسية تمثلت في قرار بعض الشخصيات في العودة لتنفتح نافذة على الحلم بالتغيير باختيار مواجهة الواقع لا الانسحاب منه، والعودة تمثلت في قرار "كريستينا" بالعودة الثانية لغزة، فإذا كانت عودتها الأولى، نهاية خمسينيات القرن العشرين، عودة قدرية لم تخترها، فعودتها الثانية التي أخذت طور التنفيذ باستقلالها سفينة أوربية للمتضامنين مع غزة عودة نبعت من الاختيار الحر.
الزمن والوعي
الفصل الأول المعنون بالشبح يمكن اعتباره بنية مستقلة بنائيا، كما تم ذكره، ألقى فيها الروائي الضوء على ما آل إليه الحاضر من استلاب الذي جسده في أهل غزة الذي عصفت بهم حالة من الخوف والاضطراب بسبب الشبح الضخم الذي يظهر ويختفى في البحر، يمكن قراءة هذا الفصل في ضوء المفهومين اللذين قدمهما لوسيان جولدمان رائد البنيوية التكوينية وقد أخذهما من أستاذه لوكاتش. وهما الوعي الفعلي، والوعي الكائن
فوقائع الوعي، وعي الذات بالعالم، تأخذ شكلين متمايزين ومتداخلين في الوقت ذاته:
الوعي الفعلي: وهو آني لحظي، وهو ناجم عن الماضي، والذات تعي المشكلات لكن لا تملك حلولا لمواجهتها والعمل على تجاوزها، فكل مجموعة اجتماعية تحاول فهم الواقع وتفسيره انطلاقا من ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية دون أن يكون لها تصور مستقبلي لاقتراح بديل إيجابي ومثالي لواقعها.
الوعي الممكن: هو وعي التغيير والتطوير، وهو يرتبط بالحلول الجذرية التي تطرحها الطبقة لتجاوز عثراتها لتصل لحالة من التوازن مع غيرها من المجموعات والطبقات. الوعي الممكن يتضمن الوعي الفعلي فهو يستند عليه ولكنه يتجاوزه، لأنه وعي شمولي.
تبدأ الرواية بداية جاذبة للمتلقي تدخله في أجواء سحرية فانتازية يختلط فيها الواقع بالأسطورة، حيث حكاية شبح يظهر في بحر غزة ليلاً ويختفي نهارًا، ويتراءى غاضبًا فيصيب الناس بمشاعر متناقضة، كما يقول السارد، من الخوف والقلق والدهشة وحب الاستطلاع أسابيع عدة قبل أن تدك غزة حرب تموز 2014:
"يدٌ ترتفع وسط العتمة، تنغرس في كبد السماء، تبعثر النجوم وتطيح بها يمينًا ويسارًا، ثم تهوي بيأس فوق خد البحر، تصفعه بقوة وغضب، فينتشر الرذاذ صاعدًا نحو السماء، ثم يهبط مثل بقايا مصابيح مهشمة" (الرواية ص7).
يتراءى هذا الشبح في مخيلة المتلقي كإله البحر "بوسيدون" في الميثولوجيا الإغريقية غاضبًا، ويرتسم كعلامة استفهام كبيرة، لتثار عدة أسئلة من هذا الشبح؟ وماذا يريد؟ ولماذا يتراءى في البحر؟ ولم هو غاضب؟
تعددت التفسيرات الناس بشأن الشبح؛ يظنه البعض أنه "سيلتهم غزة عما قليل"، وآخرون يعتقدون أنه "عذاب من الله لابتعاد خلقه عن الدين"، والبعض يرى "أنه روح غريق تسكن البحر"، ويتراءى الناس "عاجزين" عن تفسر ما يحدث، ويعتريهم "الخوف" من هول ما يرونه، حتى أن الطرادات الإسرائيلية كانت تطلق نيرانها علها تستكشف ما يحدث في بحر غزة، ورغم أن الناس مروا سابقًا بمآسٍ من حروب ونكبات إلاًّ أن ما يحدث لهم هو "صورة غامضة عن لحظات لم يخبرها الناس من قبل" (الرواية، ص 9) حتى أن القيادة السياسية أعلنت أن وجود الشبح "بات يشكل تهديدًا لمستقبل البلاد" (الرواية ص 12). تبدو غزة التي "ظلت غارقة في العتمة" "فزعة" هدها "التعب والأرق"، إلى أن نسى الناس أمر الشبح بعدما شغلتهم تفاصيل الحكي عنه عندما تعرضت غزة لحرب تموز 2014 حيث "صارت الحياة والنجاة من الموت همهما الوحيدين في حرب ضروس استمرت واحدًا وخمسين يومًا" (الرواية، ص13). ويعلن السارد أن حكاية الشبح لم تختف من دفتر حكاياتهم تمامًا، لكن ظلت حكايته "أحد الأشياء الغامضة التي يموج بها المكان، وأحد علامات الاستفهام التي لم تنجح في أن تجد إجابتها اللائقة" (الرواية، ص 14).
الشبح استعارة حضور الماضي/ الذاكرة غير المعصومة من الخطأ في الحاضر، رغبة التاريخ في تحريك الحاضر للتغيير. لعنة الماضي الذي لا نستطيع تجاوزه بعد، وهو تجسيد للخوف الذي يسكن كل شخص، هو اللاوعي الذي طفى على سطح الحكاية محذرًا وغاضبًا مما آلت إليه الظروف من العجز والاستلاب واللا فعل.
يمكن النظر لهذا الفصل المعنون بـ "الشبح" باعتباره بنية حكائية مستقلة بنائيًّا، يمكن أن نتلقاها على كونها قصة قصيرة مكتملة العناصر البنائية، فهي زمنيًّا وحدة تالية عن الوحدات الزمنية للرواية بفصولها جميعًا، حيث غزة التي تتسربل بحكايات الشبح الذي ظهر فجأة قبل حرب 2014 بعدة أسابيع ثم يخفت الحديث عنه أثناء وبعد الحرب لانشغالهم بقضية "الحياة والموت" تلك الثنائية القدرية لمصيرهم في تلك الحرب الشرسة. ويلاحظ أن هذا الفصل لم تظهر فيه أي شخصية من شخصيات الرواية الكثر أو ذكر لأي حدث ورد في ثنايا الرواية لاحقًا، فقد ركز الروائي على غزة ذاتها تلك البقعة من جغرافيا الوطن "الغارقة في عتمتها ومخاوفها" فالروائي وضعنا أمام الذات الجمعية التي تحاول أن تستفيق على فهم الواقع الملتبس الذي بدأ يخرج عن المنطقية بتناقضاته الصارخة، ولعل سكان غزة وهم يجتمعون على ساحل البحر، يمسكون المصابيح والشموع لرؤية الشبح الغاضب، يحاولون تبصر واقعهم:
"بدا الضوء الكثيف على الشاطئ مثل خط أبيض لامع على طرف لوحة سوداء. التباين الصارخ بين العتمة والنور، بين الخوف والدهشة، بين تبصر الماضي والعجز عن تبصر المستقبل" (الرواية، ص .
ولكن هذا التبصر ينكسر ويتلاشى بفعل الحرب التي هددت وجودهم.
فقد تاهت الذات الجمعية وضلت عن الطريق، ليصبح صوت الشبح صوتًا يستثير فيهم الفعل، ويضعهم وجهًا لوجه أمام مخاوفهم فهو صورة الذات الجمعية التي عكست دواخلهم المضطربة والتائهة، وقد ظهر ليلا محاولا إفاقتهم من غفلتهم التي طالت، أما لماذا ظهر الشبح في البحر؟ فالبحر كان شاهدًا على أحداث عدة في التاريخ الفارق لشخصيات الرواية.
إن البحر هذا الفضاء المترامي هو زمكان شاهد على حركة تحولات مصيرية في تاريخ المكان، يشير للامتداد والرهبة وارتياد المجهول، وقد اتخذه بعض الأدباء استعارة لقوى مخيفة وغامضة
- فقد كان البحر في ماضي السرد شاهدًا على الهجرة والتشريد بفعل النكبة؛ فالعم منصور يسترجع ذاكرة النكبة وهروب أسرته إلي البحر: "يومها ركبوا "الأفلوكة" لا يعرفون أين ترمي بهم الأقدار. لم يقصدوا أن يأتوا إلى غزة" (الرواية، ص 64)، فالبحر هنا كان شاهدًا على المعاناة وقد رمز للتيه والمجهول للجماعات الهابة من الموت. وقد ظل طعم ماء البحر عالقًا في جوفه "يشعره بملوحة لا تنتهي، فقد "اغترف من البحر ليروي ظمأه. لكنه لم يرو ظمأه، حيث ظل طعم الملح عالقًا في جوفه يشعره بمرارة اللحظة وقسوة الرحلة حتى مات" (الرواية، ص 63).
- وقد كان البحر هو وسيلة "منار" للخلاص بارتياده للهروب من غزة التي أضحت كالسجن الكبير. ورأى أن البحر "سلك شائك، هو خط حدودي يفصل غزة عن العالم ولا يربطها به. أنت لا تستطيع أن تعبر من البحر. كل شيء مغلق" (الرواية، ص 201). ليكون مصيره غير معلوم، وكأن السرد ينتصر لمفهوم العودة؛ حيث الانتقال من عالم الخارج لعالم الداخل، في حين أن الحركة العكسية وترك الوطن لا تسفر إلا عن التيه والضياع.
- كذلك كان البحر شاهدًا على قمع الذات وقهرها من قبل الآخر/ المحتل الذي احتل جغرافيا الوطن بره وبحره، فـ "حسن الصياد"، الذي هجر هو الآخر من يافا لغزة، قد لاحقته الطرادات الإسرائيلية وأغرق الجنود سفينته وأسروا ابنه لمقاومته إياهم. تعلق حسن منذ صغره بالبحر فقد غسله والده بالبحر قبل أن يبلغ السنة، وهي عادة متوارثة عن الأجداد ليتعلق بالبحر ويصبح صيادًا. وبعد النكبة قال أبوه عندما نزل بحر غزة "هادا بحر وبحر يافا بحر" (الرواية، ص 191).
- البحر كان شاهدًا على مغادرة كريستينا "يافا" بصحبة جورج للندن، حتى حدثت النكبة وانعدمت سبل رجوعها لبلدتها، وكان كذلك شاهدًا على عودتها الثانية غير المكتملة لغزة، بعدما قررت الرجوع في قارب مع المتضامنين الأجانب لفك الحصار غزة بإلهام من الرجل الأيرلندي المتضامن الذي منعته إسرائيل من دخول فلسطين لكنه لجأ إلى العبور عبر البحر. ويقول السارد عن كريستينا "عليها أن تعود. لا يمكن أن تنهي حياتها هنا ... كريستينا تحاول إعادة رسم مسار حياتها لو عادت إلى المخيم" (الرواية، ص 277). ورغم أنها ركبت السفينة لكنها لم تعد وتباينت الآراء، من المتضامنين من قال إنه "رأى المرأة تقفز في البحر. يبدو أنها سباحة ماهرة"، والبعض قال إن أحد الجنود دفعها من فوق السفينة "ربما تكون غرقت"، وقال أحدهم ربما أطلق الجندي عليها، وقال آخر ربما نجحت في الوصول لغزة سباحة. فقد تعددت الآراء لكنها التقت في أن كريستينا قد قامت فعلا برحلة العودة لغزة، لكنها لم تعد. ولكن التي عادت نيابة عنها لتقوم بفتح نافذة من الأمل في فضاء النص هي حفيدتها التي سميت باسمها من ابنها "ياسر" الذي غيبته الحرب اللبنانية وانقطعت سبل التواصل معه.
فكان البحر فضاءً مكانيًّا شاهدًا على تحولات الذات الفردية والجمعية وارتحالاتها.
الرواية ثرية وجديرة بالدراسة والقراءة، وتمثل إضافة للأدب الفلسطيني المعاصر.
بعد أن أنهت الدكتورة سهام عرض ورقتها، كانت الكلمة للدكتور عاطف الذي استهل حديثه مقدما الشكر لصالون نون الأدبي؛ فقال: شكرا لصالون نون الأدبي مرتين، الأولى لكونه أحد أهم معالم غزة الثقافية، والشكر الآخر لتنظيمهم هذا اللقاء ومناقشة رواية الحاجة كريستينا
ثم قال: من المؤكد أن كثيرا من الأشياء التي يقولها النقاد لم تدر في عقل الكاتب، فكثير من الأسئلة قد تكون نتاج تأملات كبرى
المرأة الفلسطينية هي البطل، وقد قامت بدور كبير في وعي الكاتب، لقد تعلمت كثيرا من مجلس النساء واجتماعاتهن في حارات المخيم، استمعت منهن لكثير من الروايات والحكايات التي شكلت الوعي لدي، فالمرأة الأم والجدة هي خير راوي للذاكرة، لقد أردت أن أحتفل بتلك النسوة، فكان أول فصل كتبته هو بعنوان (مجلس النساء)
بدأت محتفيا بالمرأة إلى أن ظهرت شخصية كريستينا، ففرضت نفسها وبدأت شخصيتها تنمو بين أقرانها دون تخطيط.
وقال: السؤال الكبير هو: ما المساحة بين الواقع والظن، فثمة مساحات لإعادة تشكيل الواقع ليبقى خيالا.
الرحلة الفلسطينية هي رحلة بحث وفقد، يغترب الفلسطيني ويعود، ومن هنا يبزغ سؤال الهوية طالما أن المكان موجودا.
وأضاف: لقد كتبت جزء من الرواية وأنا في لندن، وجاء وصفي للملابس من خلال زيارتي لمتحف الحروب، حيث رأيت ملابس حقبة الخمسينيات.
كما قمت بالبحث في أرشيف المتحف عن حرب غزة الثالثة وهي أضخم وأهم معركة في غزة، وإن كان نابليون هزم أمام أسوار عكا، فالإنجليز هزموا في غزة، لاحظ رجل عجوز أنني أتردد على المتحف فسألني عمّا أبحث عنه، فقلت له: أبحث عن حرب غزة، فقال هذه أهم معاركنا
من المتحف صورت رسائل الجنود لأهليهم، فمهمة الأديب تقديم الواقع وإعادة تفكيكه، وليست من مهمته الإجابة عن الأسئلة.
اختتم الدكتور عاطف حديثه بالقول: كانت كريستينا تتمتع بثقافة إنجليزية عالية شعرا وغناء، وهنا اذكر مقولة الكاتب: (الماضي بلاد غريبة، حيث يتصرفون هناك بطريقة مختلفة)