تسلط هذه المادة شيئا من الضوء على ملف شبه مهمل وغير متداول في وسائل الإعلام، بما فيها الغربية، ويتعلق باستعباد الإيرلنديين في أمريكا، وهي من دراسة أجراها الباحث الكندي جون مارتن...
بدأ استعباد الإيرلنديين حينما باع ملك إنكلترا جيمس السادس ثلاثين ألفا من المساجين الإيرلنديين كرقيق في العالم الجديد. وقد جاء في إعلان أصدره، عام 1625، ضرورة ترحيل الإيرلنديين المحكومين بالسجن على ذمة قضايا سياسية إلى ما وراء البحار، وبيعهم هناك للمستعمرين الإنكليز في الهند الغربية.
وقد شكل العبيد الإيرلنديون، منتصف القرن الـ 17، السواد الأعظم من الرقيق في أنتيغوا ومونت سيرات. فقد بلغت نسبتهم في مونت سيرات آنذاك 70% من إجمالي السكان.
وتحولت إيرلندا، وبخطوات سريعة، إلى المورّد الرئيس للسلع الحية إلى التجار الإنكليز. ويُذكر أن العبيد الأوائل في العالم الجديد كانوا من ذوي البشرة البيضاء. وقد لقي 5 آلاف إيرلندي حتفهم في الفترة ما بين عامَي 1641 و1652 على يد الإنكليز، فيما تم بيع 300 ألف آخرين. وقد تقلص تعداد السكان في إيرلندا من 1.5 مليون نسمة إلى 600 ألف نسمة في غضون عقد واحد.
وقد تفككت أُسر كثيرة بسبب حظر الإقطاعيين الإنكليز اصطحاب العبيد الإيرلنديين زوجاتهم وأبناءهم في الرحلة عبر المحيط الأطلسي، ما أسفر بدوره عن ظهور شريحة مستضعفة من النساء والأطفال لا مأوى لهم. وقد اتخذ قرار إنكليزي في حق هؤلاء يقضي ببيعهم هم أيضا.
يصنف الإيبيريون على أن جذورهم تعود إلى إفريقيا ومنها انتقلوا إلى أوروبا الغربية مرورا بإسبانيا خلال آلاف السنوات. وقد تم العثور على رفات هؤلاء في مدافن منتشرة بأرجاء تلك الأراضي.
وقد وصلوا إلى إيرلندا واختلطوا بسكانها الأصليين في الغرب والجنوب على وجه التحديد. وكان هؤلاء السكان يعدون أحفاد إنسان العصر الحجري الذين تقوقعوا على أنفسهم وانعزلوا عن العالم الخارجي، ففقدوا القدرة على الصراع من أجل الحياة، مقارنة مع غيرهم من ممثلي الإثنيات والعرقيات المجاورة، ما أدى إلى تراجعها لحساب "الإثنيات الأرقى" كما جاء في الدراسة.
في خمسينيات القرن الـ 17 تم انتزاع 100 ألف طفل إيرلندي، تتراوح أعمارهم بين 10 و14 عاما، من أُسرهم وبيعهم كعبيد في الهند الغربية وفيرجينيا وإنكلترا الجديدة (إقليم نيو إنغلاند شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية). في تلك السنوات العشر أيضا تم بيع 52 ألف إيرلندي، معظمهم من النساء والأطفال، في باربادوس وفيرجينيا.
كما تم جلب 30 ألف إيرلندي، من الرجال والنساء، وبيعهم للتجار الذين كانوا يعرضون السعر الأغلى. وقد رُحل ألفي طفل إيرلندي إلى جامايكا بناء على أمر من القائد العسكري الإنكليزي، أوليفر كرومويل. وهناك تم بيعهم للمستوطنين من التجار الإنكليز.
ويُشار إلى سعي الكثيرين لتفادي إطلاق مسمّى "العبيد" على الإيرلنديين، إذ كان يُطلق على المستعبدين ذوي البشرة البيضاء مسميات على غرار "عامل بالتعاقد"، علما أنهم كانوا مستعبدين فعلا. وبشكل عام كانوا في القرنين الـ 17 والـ 18 مجرد بضاعة حية.
يُذكر أن التجارة بالعبيد السود قد بدأت تنتشر على نطاق واسع في تلك الفترة. ووفق المعلومات الموثقة فإن التعامل مع الأفارقة، الذين لم يلحق بهم عار الكراهية للعقيدة الكاثوليكية، كان أفضل من التعامل مع إخوتهم في البؤس والشقاء القادمين من إيرلندا.
وفي نهاية القرن الـ 17 كان العبيد الأفارقة يقدّرون بأسعار باهظة نسبيا.. 50 جنيها إسترلينيا. أما العبيد الإيرلنديين فكانوا أرخص بكثير، إذ لم يتجاوز سعر أي منهم 5 جنيهات فقط. وإذا جلد الإقطاعي عبده الإيرلندي أو وسمه أو ضربه حتى الموت فلا يعد ذلك جريمة. موت العبد الإيرلندي كان يلحق بمالكه الخسارة المادية، ولكنها تظل خسارة أقل بكثير من قتل عبد إفريقي غالي الثمن.
انهمك المُلّاك الإنكليز للعبيد سريعا بمعاشرة النساء الإيرلنديات، وذلك بهدف الاستمتاع ومن ثم الحصول على سلعة رخيصة الثمن، إذ أن أطفال العبيد عبيد أيضا، ما كان يضمن قوى عاملة رخيصة للإقطاعي.
وحتى في حال تسنى لأي امرأة إيرلندية نيل حريتها بوسيلة ما، فإن أبناءها سيظلون مستخدمين كعبيد لدى سيدهم. لذا لم تعتد السيدات الإيرلنديات اللاتي حصلن على الحرية ترك أطفالهن، وكن يفضلن غالبا البقاء للخدمة بالقرب منهم.
وشيئا فشيئا اكتشف الإقطاعيون الإنكليز طريقة مُثلى للاستفادة من تلك النساء بغية تحسين مواقعهم في السوق. فقد راح المستوطنون يزاوجون النساء الإيرلنديات والصغار من الفتيات، اللاتي لا تزيد أعمارهن عن 12 عاما في أغلب الحالات، مع العبيد الإفريقيين، وذلك من أجل الحصول على عبيد ذوي مظهر خارجي معين.
العبيد الجدد، الخلاسيون (من وُلد من والدين أبيض وأسود)، يُباعون بأسعار باهظة تجلب أرباحا مرتفعة أكثر قياسا مع الإيرلنديين. علاوة على ذلك فإن عملية المزج بين العرقين الأبيض والأسود وفّرت على المستوطنين أموالا كانوا سيتخلون عنها لشراء عبيد أفارقة.
واستمرت عملية المزج والتلقيح بين الرجال الأفارقة والنساء الإيرلنديات عشرات السنوات، وتحولت إلى ظاهرة منتشرة، حتى أنه في عام 1681 صدر مرسوم يحظر هذه الممارسة "الرامية إلى إنتاج عبيد للبيع". وباختصار فإن الدافع الرئيس وراء إصدار هذا المرسوم تمثل في الخسائر الكبيرة التي تكبدتها واحدة من أهم شركات استقدام العبيد.
واصلت إنكلترا توريد عشرات الآلاف من العبيد الإيرلنديين لأكثر من قرن كامل. وبحسب المعلومات المتوفرة عن هذا الشأن، فإنه وبعد انتفاضة الإيرلنديين، عام 1798، تم عقد صفقات لبيع آلاف الإيرلنديين المحتجزين ومن ثم نقلهم إلى أمريكا وأستراليا.
ما من شك في أن الإيرلنديين قاسوا كل أهوال الاستعباد في القرن الـ 17 بنفس مستوى معاناة العبيد الأفارقة.. إذا لم يكن أكثر. كما أنه يمكن الترجيح أن السكان المحليين ذوي البشرة المائلة إلى السمرة الذين يمكن مصادفتهم في الهند الغربية هم من نسل التزاوج المختلط، وأنه تجري في عروقهم دماء إفريقية وإيرلندية.
في عام 1839، قررت بريطانيا التخلي عن هذا المسار الشيطاني المتمثل في الاتجار بالرق والعبيد. وعلى الرغم من أن هذا القرار لم يؤثر على نشاط القراصنة، إلا أن القانون الجديد بدأ يشغل حيز التنفيذ تدريجيا.. ليضع في نهاية المطاف حدا لمعاناة الإيرلنديين.
من هنا.. من يعتقد أن استعباد البشر اقتصر على الرق من إفريقيا فهو مخطئ. لذا يجب أن تظل ذكرى استعباد الإيرلنديين كذلك حاضرة في الأذهان.
ولكن يا تُرى، لماذا لا تُطرح هذه القضية إلا نادرا؟ هل يُعقل أن ذكريات مئات الآلاف من الضحايا الإيرلنديين غير جديرة بالاهتمام لدى أكثر من مجرد كاتب مغمور؟ أم أن حكايتهم يجب أن تظل طيّ النسيان بناء على رغبة "الأسياد".. والتستر عليها كما لو لم تكن يوما؟
لم يتمكن إيرلندي واحد ممن عانوا هذه التجربة القاسية من العودة إلى شواطئ بلده كي يحدّث عنها. إنهم عبيد مفقودون.. نجح الزمن بنسيانهم كما تم تطهير كتب التاريخ من أي ذكر لهم.
المادة نقلا عن موقع pikabu.ru مترجمة إلى اللغة الروسية بواسطة الأستاذة تاتيانا بودانتسوفا.
علاء عمر
بدأ استعباد الإيرلنديين حينما باع ملك إنكلترا جيمس السادس ثلاثين ألفا من المساجين الإيرلنديين كرقيق في العالم الجديد. وقد جاء في إعلان أصدره، عام 1625، ضرورة ترحيل الإيرلنديين المحكومين بالسجن على ذمة قضايا سياسية إلى ما وراء البحار، وبيعهم هناك للمستعمرين الإنكليز في الهند الغربية.
وقد شكل العبيد الإيرلنديون، منتصف القرن الـ 17، السواد الأعظم من الرقيق في أنتيغوا ومونت سيرات. فقد بلغت نسبتهم في مونت سيرات آنذاك 70% من إجمالي السكان.
وتحولت إيرلندا، وبخطوات سريعة، إلى المورّد الرئيس للسلع الحية إلى التجار الإنكليز. ويُذكر أن العبيد الأوائل في العالم الجديد كانوا من ذوي البشرة البيضاء. وقد لقي 5 آلاف إيرلندي حتفهم في الفترة ما بين عامَي 1641 و1652 على يد الإنكليز، فيما تم بيع 300 ألف آخرين. وقد تقلص تعداد السكان في إيرلندا من 1.5 مليون نسمة إلى 600 ألف نسمة في غضون عقد واحد.
وقد تفككت أُسر كثيرة بسبب حظر الإقطاعيين الإنكليز اصطحاب العبيد الإيرلنديين زوجاتهم وأبناءهم في الرحلة عبر المحيط الأطلسي، ما أسفر بدوره عن ظهور شريحة مستضعفة من النساء والأطفال لا مأوى لهم. وقد اتخذ قرار إنكليزي في حق هؤلاء يقضي ببيعهم هم أيضا.
يصنف الإيبيريون على أن جذورهم تعود إلى إفريقيا ومنها انتقلوا إلى أوروبا الغربية مرورا بإسبانيا خلال آلاف السنوات. وقد تم العثور على رفات هؤلاء في مدافن منتشرة بأرجاء تلك الأراضي.
وقد وصلوا إلى إيرلندا واختلطوا بسكانها الأصليين في الغرب والجنوب على وجه التحديد. وكان هؤلاء السكان يعدون أحفاد إنسان العصر الحجري الذين تقوقعوا على أنفسهم وانعزلوا عن العالم الخارجي، ففقدوا القدرة على الصراع من أجل الحياة، مقارنة مع غيرهم من ممثلي الإثنيات والعرقيات المجاورة، ما أدى إلى تراجعها لحساب "الإثنيات الأرقى" كما جاء في الدراسة.
في خمسينيات القرن الـ 17 تم انتزاع 100 ألف طفل إيرلندي، تتراوح أعمارهم بين 10 و14 عاما، من أُسرهم وبيعهم كعبيد في الهند الغربية وفيرجينيا وإنكلترا الجديدة (إقليم نيو إنغلاند شمال شرق الولايات المتحدة الأمريكية). في تلك السنوات العشر أيضا تم بيع 52 ألف إيرلندي، معظمهم من النساء والأطفال، في باربادوس وفيرجينيا.
كما تم جلب 30 ألف إيرلندي، من الرجال والنساء، وبيعهم للتجار الذين كانوا يعرضون السعر الأغلى. وقد رُحل ألفي طفل إيرلندي إلى جامايكا بناء على أمر من القائد العسكري الإنكليزي، أوليفر كرومويل. وهناك تم بيعهم للمستوطنين من التجار الإنكليز.
ويُشار إلى سعي الكثيرين لتفادي إطلاق مسمّى "العبيد" على الإيرلنديين، إذ كان يُطلق على المستعبدين ذوي البشرة البيضاء مسميات على غرار "عامل بالتعاقد"، علما أنهم كانوا مستعبدين فعلا. وبشكل عام كانوا في القرنين الـ 17 والـ 18 مجرد بضاعة حية.
يُذكر أن التجارة بالعبيد السود قد بدأت تنتشر على نطاق واسع في تلك الفترة. ووفق المعلومات الموثقة فإن التعامل مع الأفارقة، الذين لم يلحق بهم عار الكراهية للعقيدة الكاثوليكية، كان أفضل من التعامل مع إخوتهم في البؤس والشقاء القادمين من إيرلندا.
وفي نهاية القرن الـ 17 كان العبيد الأفارقة يقدّرون بأسعار باهظة نسبيا.. 50 جنيها إسترلينيا. أما العبيد الإيرلنديين فكانوا أرخص بكثير، إذ لم يتجاوز سعر أي منهم 5 جنيهات فقط. وإذا جلد الإقطاعي عبده الإيرلندي أو وسمه أو ضربه حتى الموت فلا يعد ذلك جريمة. موت العبد الإيرلندي كان يلحق بمالكه الخسارة المادية، ولكنها تظل خسارة أقل بكثير من قتل عبد إفريقي غالي الثمن.
انهمك المُلّاك الإنكليز للعبيد سريعا بمعاشرة النساء الإيرلنديات، وذلك بهدف الاستمتاع ومن ثم الحصول على سلعة رخيصة الثمن، إذ أن أطفال العبيد عبيد أيضا، ما كان يضمن قوى عاملة رخيصة للإقطاعي.
وحتى في حال تسنى لأي امرأة إيرلندية نيل حريتها بوسيلة ما، فإن أبناءها سيظلون مستخدمين كعبيد لدى سيدهم. لذا لم تعتد السيدات الإيرلنديات اللاتي حصلن على الحرية ترك أطفالهن، وكن يفضلن غالبا البقاء للخدمة بالقرب منهم.
وشيئا فشيئا اكتشف الإقطاعيون الإنكليز طريقة مُثلى للاستفادة من تلك النساء بغية تحسين مواقعهم في السوق. فقد راح المستوطنون يزاوجون النساء الإيرلنديات والصغار من الفتيات، اللاتي لا تزيد أعمارهن عن 12 عاما في أغلب الحالات، مع العبيد الإفريقيين، وذلك من أجل الحصول على عبيد ذوي مظهر خارجي معين.
العبيد الجدد، الخلاسيون (من وُلد من والدين أبيض وأسود)، يُباعون بأسعار باهظة تجلب أرباحا مرتفعة أكثر قياسا مع الإيرلنديين. علاوة على ذلك فإن عملية المزج بين العرقين الأبيض والأسود وفّرت على المستوطنين أموالا كانوا سيتخلون عنها لشراء عبيد أفارقة.
واستمرت عملية المزج والتلقيح بين الرجال الأفارقة والنساء الإيرلنديات عشرات السنوات، وتحولت إلى ظاهرة منتشرة، حتى أنه في عام 1681 صدر مرسوم يحظر هذه الممارسة "الرامية إلى إنتاج عبيد للبيع". وباختصار فإن الدافع الرئيس وراء إصدار هذا المرسوم تمثل في الخسائر الكبيرة التي تكبدتها واحدة من أهم شركات استقدام العبيد.
واصلت إنكلترا توريد عشرات الآلاف من العبيد الإيرلنديين لأكثر من قرن كامل. وبحسب المعلومات المتوفرة عن هذا الشأن، فإنه وبعد انتفاضة الإيرلنديين، عام 1798، تم عقد صفقات لبيع آلاف الإيرلنديين المحتجزين ومن ثم نقلهم إلى أمريكا وأستراليا.
ما من شك في أن الإيرلنديين قاسوا كل أهوال الاستعباد في القرن الـ 17 بنفس مستوى معاناة العبيد الأفارقة.. إذا لم يكن أكثر. كما أنه يمكن الترجيح أن السكان المحليين ذوي البشرة المائلة إلى السمرة الذين يمكن مصادفتهم في الهند الغربية هم من نسل التزاوج المختلط، وأنه تجري في عروقهم دماء إفريقية وإيرلندية.
في عام 1839، قررت بريطانيا التخلي عن هذا المسار الشيطاني المتمثل في الاتجار بالرق والعبيد. وعلى الرغم من أن هذا القرار لم يؤثر على نشاط القراصنة، إلا أن القانون الجديد بدأ يشغل حيز التنفيذ تدريجيا.. ليضع في نهاية المطاف حدا لمعاناة الإيرلنديين.
من هنا.. من يعتقد أن استعباد البشر اقتصر على الرق من إفريقيا فهو مخطئ. لذا يجب أن تظل ذكرى استعباد الإيرلنديين كذلك حاضرة في الأذهان.
ولكن يا تُرى، لماذا لا تُطرح هذه القضية إلا نادرا؟ هل يُعقل أن ذكريات مئات الآلاف من الضحايا الإيرلنديين غير جديرة بالاهتمام لدى أكثر من مجرد كاتب مغمور؟ أم أن حكايتهم يجب أن تظل طيّ النسيان بناء على رغبة "الأسياد".. والتستر عليها كما لو لم تكن يوما؟
لم يتمكن إيرلندي واحد ممن عانوا هذه التجربة القاسية من العودة إلى شواطئ بلده كي يحدّث عنها. إنهم عبيد مفقودون.. نجح الزمن بنسيانهم كما تم تطهير كتب التاريخ من أي ذكر لهم.
المادة نقلا عن موقع pikabu.ru مترجمة إلى اللغة الروسية بواسطة الأستاذة تاتيانا بودانتسوفا.
علاء عمر