وحجة "القرآنيين" في الفصل بين لفظي النبي والرسول تبرز في قولهم أن الله لم يعلق الطاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم إلا على صفته كرسول وأن الطاعة لم تقترن بلفظ النبي مطلقاً واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر} النساء 59، ويقولون أن عتاب الله لمحمد تعلق في القرآن بصفته كنبي لا بصفته كرسول واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك}وهذا يدل على أن ما سنه النبي من قوانين فإنها تخضع للخطأ والصواب ولا تعني الأمة بشئ وإنما هي خاصة بشخصه وزمانه وعليه فلسنا مطالبون باتباعه وطاعته كنبي ما دام يُخطئ ويصيب.
ان الفصل في الطاعة بين لفظ النبي ولفظ الرسول لا يستقيم شرعاً؛ لأن النبي والرسول هما صفتان لازمتان لذات واحدة هي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه تلقى رسالة وأمر بتبليغها، فهو نبي ورسول كما وصفه الله في كتابه: {الذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ..} الأعراف (157)، فالآية لم تفرق في الاتّباع بين صفتي النبي والرسول بل قررت اتباعه بصفته "الرسول النبي" دون أن تعلق الاتباع على لفظ دون آخر ودون أن تفرق بين ما يقوله كنبي أو يقوله كرسول، والاتباع يتضمن في معناه الخضوع والانقياد ويلزم منه الطاعة لأنه يحتوي تكاليف شرعية، وهذا يجعل الطاعة واجبة له في التبليغ كنبي ورسول دون الفصل أو التمييز بين الصفتين. ويتضح ذلك أكثر إذا علمنا أن وظيفة الأنبياء والرسل واحدة وهي التبليغ عن الله وأن ميزة الرسول عن النبي ليست في التبليغ وإنما في الرسالة التي يبلغها عن الله، بدليل قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ} البقرة – 213 وقوله أيضاً: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} النساء 165، فهذه الآيات دليل على أن مهمة الأنبياء والرسل -على حد سواء- هي التبليغ عن الله بلا تمييز بين نبي ورسول حيث قال في الاولى: {النبيين مبشرين ومنذرين} وقال في الثانية : {رسلاً مبشرين ومنذرين}، فمهمة الأنبياء والرسل واحدة وهي التبليغ عن الله والآيات واضحة في ذلك ودلالتها شاخصة لا تحتاج إلى بيان، وأما الفرق بين النبي والرسول فتكمن في أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأُمِرَ بتبليغه، وأما النبي فهو من أُوحي إليه بشرع غيره وأُمِرَ بتبليغه، فالرسول هو من يُبلِغ شرع نفسه الذي أُوحاه الله إليه والنبي هو من يُبلِغ شرع غيره من الرسل . لذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً من جهة تلقيه شريعة لم تنزل على أحد قبله وكان نبياً لأنه أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. هذا هو الفرق بين النبي والرسول ويتلخص في واقع الرسالة التي يبلغونها وليس في مهمتهم لأنهم يشتركون بها، وبالتالي لا فرق بين النبي والرسول في التبليغ عن الله ووجوب طاعته؛ لأن الفرق بين اللفظين يكمن في دلالتهما على الشريعة وليس على المهمة التي جاءوا بها ، وبهذه الإضاءة القرآنية ندرك بأن الطاعة ليست متعلقة بالألقاب وإنما بكون الأنبياء والرسل كُلّفوا بأمر يقتضي الطاعة وهو التبليغ الذي يشتركون فيه. ولذلك لا يقال بأن ما ينطق به كرسول فهو مطاع وما ينطق به كنبي لا يطاع فيه، وهذا ينقض فلسفة الفصل بين النبي والرسول في التبليغ والطاعة وينسف ما بني عليها من فَدْرَلَةٍ لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وعَلمَنةٍ لرسالته ويُبطل تخصيص الطاعة بصفة الرسول أو حصر العمل بالشريعة في النبي وحده من دون أمته؛ لأن النبي هو ذاته الرسول المبلغ عن الله والخطاب له هو خطاب لأمته ما لم يرد دليل يخصص الخطاب به لأنه مخاطب كحامل رسالة وليس كأي إنسان: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} الأعراف 28.
في بيعة النساء جاء القرآن يخاطبه بلفظ النبي: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الصف(12) وموضوع الآية يتعلق بعقد البيعة على الحكم وأنظمته وتشريعاته لا على النبوة وهو ما يستوجب طاعة النبي في الحكم، كما نصت على عدم عصيانه بصراحةٍ ووضوح مع تعلقها بصفته كنبي {ولا يعصينك}.
ومن الآيات التي علّقت الرسالة والدعوة على لفظ النبي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شاهدا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} الأحزاب 45-46، وموضوع الرسالة والشهادة هي الشريعة وهو ما يوجب الطاعة.
كما أن هناك آيات جاءت تخاطب محمداً صلى الله عليه وسلم دون أن تتصل بلفظ النبي أو الرسول، مما يجعلها عامة بصفتي النبي والرسول كما في قوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} الشعراء : 215 و 216 . وفي هذه الاية ذكر عصيانه {فإن عصوك} مما يفيد بوجوب طاعته، وقوله {لمن اتبعك} لم تعلق الحكم على صفة من صفتيه فتبقى عامة وتخصيصها بصفة يحتاج إلى دليل. وقوله أيضاً {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} النساء(65)، وقوله: {إن الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} الفتح(10)، وفي هاتين الآيتين لم يعلق الحكم على أي من اللفظين، مما يوجب إعمال الحكم المستفاد منهما في الصفتين، والآيتان توجبان الرجوع في الحكم والطاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولعل من أوضح البراهين على وجوب تسييد الشريعة وعدم تعلقها بلفظ الرسول أو النبي تحديداً قوله تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون} الجاثية 18، فلم يحدد الخطاب في هذه الآية لفظ النبي أو الرسول ودعاه بشكل مطلق دون تقييد لاتباع الشريعة وعدم اتباع أهواء الذين لا يعلمون، والاتباع هنا يعني الخضوع والانقياد وبما أن الله لم يعلق الحكم على أحد اللفظين فيبقى مطلقاً فيهما؛ لأن تخصيص الخطاب بأحد الصفتين يستلزم دليلاً للتخصيص ولم يرد أي دليل يخصص الخطاب بصفة دون غيرها.