كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة صباحاً، تسلّلت أشعة الشمس حتى غمر سنا ضوئها جوانب الغرفة كلها، وعلى الرغم من الدفء الذي منحني وهج الشمس إياه، إلا أنّ أسناني كانت تصطك من شدة الصقيع الذي كان يسري داخلي، ولا عجب في ذلك؛ فأنا شخصٌ متعدّدُ الأمزجة، أتمتّعُ بعصبيةٍ مفرطة على الدوام، ولأقل الأشياء.
ساعاتٌ مرّت، وأنا أحاول أن أفسّر ما حدث، وما يحدث.
لا جدوى من سؤال سارة؛ فسواء كانت مخطئةً أم لا، فقد اعتادت ألّا تجيب سوى بحمرة الخجل التي تغلّّف وجهها، مع صمتٍ لا ينقطع.
مشهد متكرر منذ أن عرفتها.
بخطواتٍ حسيسة اقتربتُ منها أتأملُ تقاسيمها الهادئة وهي نائمة على مخدعها، بشغفٍ حدّقت في وجهها كي أرتوي من بسمتها التي تزين ثغرها.
لمعت بعينيّ دمعة حتى سالت على وجنتيّ بضع قطرات تندُّم، ألزمتُ بعدها شفتيّ المرتجفتين وهمستُ لها:
تذكرين يا سارة لقاءنا الأول، حين تشاجرت معك وقت أن أفلتّ الكتاب من يدك وأنت تحملينه من أحد أرفف المكتبة دون عمد منك؛ فصرخت في وجهك، وأخذتُ أُعاتبك على سهوك وإهمالك .. وأنت لا تجيبين .. فقط هي حمرة الخجل التي كست وجهك الملائكي.
لقاءات عدة شهدناها سويًّا دون أن يتحدّث أحدٌ منّا إلى الآخر.
فقط كنت ترتادين المكتبة للقراءة، وأنا أتابعك في صمت.
لم أجد تفسيرًا واضحاً لتعلّقي بك..
هل هو شعور بالأسف لأسلوبي الفظّ أثناء حديثي معك؟! أم أنّ روحك الطيبة التي تنساب من بين عينيك هي التي جذبتني نحوك، وإن كنت أعتقد بل أجزم أن صفاء سريرتك، وقلبك الطاهر الذي لم تشوهه آفات الزمن هو الأقرب لي، بيد أنّني لست ممن يبالي بمشاعر
الآخرين إلى هذا الحد!
وتزوّجنا - وكنت نعم الزوجة - فكانت الطاعة سمتك بلون صمتك! ولكن لا عجب في ذلك؛ أليس من واجبات الزوجة أن تطيع زوجها ولو خالف ذلك هواها؟
أذكرُ وقت أن خالفتني الرأي ذات مرة، وقسوت عليك بكلماتي وأنت لا تجيبين، فماذا عساك أن تقولي؟
فأنت امرأة، والمرأة ساذجة بفطرتها؛ لا خبرة لديها في الحياة، ومهما اعتصر ذهنها، وأعملت عقلها، فلن ترقى أبداً لمستوى عقل الرجل،
هكذا تربّينا وهكذا كانت أمهاتنا، وأنت تعلمين هذا يا سارة، لا أدري إن كان عن قناعة أم لا، لكن شأني أنّك تدركينه وكفى.
قطع حديثي الخافت صوت العصفور وهو في قفصه الحديدي ينقرُ بشدة في القفص علَّه يتكسَّرُ ويطير، نظرتُ إليه ويكأنني أراه لأول مرَّة كان صراعه من أجل حريَّته يهزّني، عدتُ بعينين تترقرقان بالدمع تُكملان بثَّ أطيافي لسارة:
كم أنت جميلة يا سارة!
هكذا أنت دوماً.. ألوم وتصمتين، أثور وتهدّئين، أقسو وتسامحين، لا أبالي وتحترقين.
كنت أراقب حيرتك؛ كأنّني أتلذّذ بها، ومرّات كنت أرى دموعك المنسابة في محراب صمتك
فكنت أنصرف سريعاً...
لا أدري يا سارة لم كنت أفعل ذلك، رغم أنّ قلبي أحياناً كان يجعلني أخطو خطوات نحوك لأمسح على وجنتيك الحمراوتين، وأُقبّلُ شفتيك المرتعشتين، ولكنّها كرامة الرجل!
لا زال العصفور يثور داخل قفصه بغضب لم أعهده عليه؛ فنهضتُ واقتربت منه علَّه يهدأ لكنَّ آثار القيود كانت قد حطّمتْ صمته، وأشعلت فيه تمرده.
نظرتُ إليه وأنا أتذكّرُ وقت أن حرّرتهُ سارة ذات مرة بعدما رأته يثور داخل قفصه لتهبه حريته، صحت حينها بوجهها متوعداً إياها بأقصى العقاب، ولم تجب كعادتها سوى بالعبرات التي تنسال من عينيها.
كان لسانُ حال فِعلها يقول:
-هِب الحريَّة لمن تُحب ولا تحيك من قيودكَ قفصٌ يُسجن فيه، فإن أحبَّكَ سيكون قلبكَ قفصه الذي لا يتركه أبداً بمحض إرادته!
كنت أعلم أنها صائبة، لكنَّني لست ممن يتحمَّل بلاء غياب من أحبَّ أو تملَّكْ! لذا حينما رأيته حاول الهَرَب، قتلتُ حريته وكُلّي يقين بأنّ الحرية دون قيود إهدار لمشاعر شتَّى.
حاولت تهدئته ولكنني فشلت، فاستدرت ناح سارة أُكملها بقايا بثِّي:
أذكرُ يا سارة وقت أن أخبرتني ذات مرّة أنّ لي ابتسامةً جميلة، وقت أن تعالت ضحكاتنا إثر مشاهدتنا لمسرحية كنّا نستمتع بها سويًّا، أو دعيني أقول التي كنت أشاهدها أنا، بينما كنت- أنت- تراقبينني كطفلٍ يراقب أباه، يتتبّعُ أفعاله، ويُقلّدُ تصرّفاته، كيف يتحدّث، ومتى يبتسم؟
وما الذي يجعله يغضب؟
كنت تتهلّلين معي، وتقتربين منّي، علّى أطويك بين ذراعيّ، ولكن أيّ جفاء هذا الذي كنت أعاملك به؟! وأي حب ذاك الذي كنت أراه في عينيك.
هل الحب ضعف؟! هل الرجولة لابد وأن يبطنها القسوة والجفاء؟!
هكذا تربيت، وهكذا حكمتُ عليك يا زهرتي أن تذبلي، شاهدتُك تضوين يوماً بعد يوم، وتتحملينني دون امتعاضٍ أو اعتراض.
كان الصمت إجابتك، والدموع رسائلك، ولكنني تغافلت عنها بحمقي وأنانيتي؛ فقراءة المشاعر في قاموس الرجال ضربٌ من مُحال، فقليلون هم من يفقهون!
ها أنت يا وضّاءة الوجه، أسبرُ بأغوارك، ويكأنك فيلماً سينمائياً، ما أبهاك حين أبدأ يومي بطلتك البهيّة! تبتسمين فأنصرف عنك، ثم أعود لأجد واحةً قد أُعدّت لي...
احتضنتني كطفل، فغرستُ أشواك الأذى في صدرك، كنت أتهكّم على كلّ ما تقومين به، منعت عنك كل شيء، ولم أكتف بذلك بل اتخذتك لنفسي دون العالم، وتركتك تعانين الوحدة بين جدران بيتي، والصقيع بين جدران قلبي.
أتذكّر يوم أن كنت مريضة، وجلست بجوارك، تحسّست حبّات العرق التي نبتت على جبينك، نظرة عينيك فاضت بالكثير، وكأنّها تقرُّ بسعادة احتضنتها كالملهوف الذي وصل لمبتغاه.
شعرتُ وقتها كأنك مضغةٌ تشقُّ رحمها لكي تولد من جديد، فأيناه ذاك الاهتمام الذي لمستيه منّي من قبل!
كنت كثيراً ما تحتارين لأمري، وتسألين عقلك إن كنت أحبك أم لا؟ فيجيبك باضطراب:
إن كان لا يحبك فلم تزوجك؟ فيباغتك قلبك الفقير قائلاً:
إن كان كذلك فلم تقتربين ويبتعد، لم لا يبادلك نظرات الحنين والشوق التي تبثّينها إليه؛ فأنت امرأته وهو فارسك.
أعلمُ يا سارة كل ما كان يدور بخلدك، والحقيقة إنّني أحببتك؛ فأنت أمنيتي وحُلمي الذي طالما صلّيت من أجله، وما تحفّظي معك إلا لشخصي الذي يأبى الخضوع لمن يحب، حتّى ولو كان ذلك بكلمة أو نظرة يطمئن لها قلبك المضطرب.
ازداد هياج العصفور وعلا صوت تخبُّطه في قفصه الحديدي، ثم توقف صياحه فجأة، هرعت نحوه بعد أن قررت تحريره، كان العصفور قد بدأ يهدأ رويداً رويداً حتى خارت قواه، فاقتربتُ منه بخطًى متوجسة فوجدته غارقاً في دمه يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد اختار حريته بموته بعد أن آيس أن ينالها بحياته.
فتحتُ القفص وأمسكت بالعصفور وهو مُسجى بين يدي والدم يهمى من رأسه بشدة، كان ينتفض مصدراً أنيناً خافتاً، اقتربت من سارة ودم العصفور في يدي اليسرى والدموع تنسال مني حتى شقّت وجنتي، أمسكت يدها اليُمنى، ثم بادلت النظرات لكليهما، تلوَّنت يد سارة بحمرة دم العصفور الذي يتقاطر من يدي اليُسرى،
أواااه أ أختار العصفوران حريتهما، كسَّرا طوقهما الحديدي وطارا.... هذا ما حدّثت به نفسي
خارت قواي وعجزت عن الوقوف فاستلقيت جانب الأريكة أنظر لكلتي يدي النازفتين بدمائهما.
اعتدلت مذعوراً... اتجهت نحو سارة ... هززت كتفها... جحظت عيناي من مشهد الدماء المتناثرة حولها، ثم صرخت بنحيب يبكي:
سارة..
إلى متى ستمطرينني برسائلك الصامتة؟!
أجيبيني يا سارة، كيف استطعت أن تتركيني في هذه الحياة وحيدًا فقيرًا إليك؟
لماذا لم تتريّثي في قرارك؟ لم لم تثوري وتخرجين من محراب صمتك؟
كان بإمكاني أن أتغيّر ما دامت هذه رغبتك، وحتّى وإن لم أتحسّن للأفضل كان بإمكانك أن تبتعدي وتهجريني، كنت حينها سأعبأ بكرامتي وأتركك؛ فقد كان يكفيني أنّ روحك الطيبة الملائكيّة تظلّل دنيانا بنقائها وعفتها.
فلم آثرت الموت إذن؟!
أهو لرغبة منك في الحفاظ على ألا ينقص حبي من قلبك؟ أم لهذا الحد تحتقرينني؟!
لم فعلت هذا بنفسك؟ إنّ الكون - يا سارة - لم يتأثر لموت أحد، لن تتوقف الحياة حداداً لروحك، ولن يبكي أحداً فراقك.
صدّقيني يا سارة لن يعبأ بموتك سواي، وأنا لا أستحقّ كلّ ما اقترفتيه بحق نفسك.
فأنا حقيرٌ، وأنت عظيمة.
كنت الجنة لقلبي وكنت الجحيم لروحك.
أجيبيني .......أ وُئدت كل حروف الضاد فلم تجدي ما تفصحين به عما يجول في خاطرك؟ أم كنت لهذه الدرجة لا أستحق ؟!
أهكذا انتهى المشهد؟ أسأصحو غداً فلم أجدك جواري؟
أسأعود وحيداً بعد ما كنت مؤنستي ورفيقة دربي؟
المنزل موحش بدونك يا سارة، حتى الأزهار التي أحبّها وكنت أنت تعتنين بها، باتت شاحبةً لا حياة فيها.
زججتُك إلى الموت زجًّا، كنت أسمع أصوات ضلوعك تعتصرُ حزنًا، دفعتك بيديّ إلى حافة الإكتئاب، فهويت فيه حتى اقتلع جذور روحك، أشعر بغصتك فها هي تبتلعني، تلهبني بسياط الندم، ولكن هل يجدي ويعيدك ولو لطخت وجهي بدمائك النقية؟
ها أنا أتوسل تحت قدميك، أقبّل وجهك الشاحب، وأنادي فيك الحياة أن تعود، ولكن أي حياة؟! فلقد وأدتها فيك منذ أيامنا الأولى، وها أنا قد فقدتُ الإحساس بكلّ ما حولي.
ساارة...
الحياة دونك موت .. قاسيةٌ هي الحياة التي نتجرّعها غصباً!
ياليتك تمهّلتي قليلاً ... أو شاركتني قرارك فلربما كنت أنقذت روحك النقية التي لا تستحق سوى السعادة والهناء، لكنّك كعادتك صامتة.
حتى في موتك يا سارة ... صامتة!
#حتى_في_موتك_صامتة
#رانيا_اللبودي
ساعاتٌ مرّت، وأنا أحاول أن أفسّر ما حدث، وما يحدث.
لا جدوى من سؤال سارة؛ فسواء كانت مخطئةً أم لا، فقد اعتادت ألّا تجيب سوى بحمرة الخجل التي تغلّّف وجهها، مع صمتٍ لا ينقطع.
مشهد متكرر منذ أن عرفتها.
بخطواتٍ حسيسة اقتربتُ منها أتأملُ تقاسيمها الهادئة وهي نائمة على مخدعها، بشغفٍ حدّقت في وجهها كي أرتوي من بسمتها التي تزين ثغرها.
لمعت بعينيّ دمعة حتى سالت على وجنتيّ بضع قطرات تندُّم، ألزمتُ بعدها شفتيّ المرتجفتين وهمستُ لها:
تذكرين يا سارة لقاءنا الأول، حين تشاجرت معك وقت أن أفلتّ الكتاب من يدك وأنت تحملينه من أحد أرفف المكتبة دون عمد منك؛ فصرخت في وجهك، وأخذتُ أُعاتبك على سهوك وإهمالك .. وأنت لا تجيبين .. فقط هي حمرة الخجل التي كست وجهك الملائكي.
لقاءات عدة شهدناها سويًّا دون أن يتحدّث أحدٌ منّا إلى الآخر.
فقط كنت ترتادين المكتبة للقراءة، وأنا أتابعك في صمت.
لم أجد تفسيرًا واضحاً لتعلّقي بك..
هل هو شعور بالأسف لأسلوبي الفظّ أثناء حديثي معك؟! أم أنّ روحك الطيبة التي تنساب من بين عينيك هي التي جذبتني نحوك، وإن كنت أعتقد بل أجزم أن صفاء سريرتك، وقلبك الطاهر الذي لم تشوهه آفات الزمن هو الأقرب لي، بيد أنّني لست ممن يبالي بمشاعر
الآخرين إلى هذا الحد!
وتزوّجنا - وكنت نعم الزوجة - فكانت الطاعة سمتك بلون صمتك! ولكن لا عجب في ذلك؛ أليس من واجبات الزوجة أن تطيع زوجها ولو خالف ذلك هواها؟
أذكرُ وقت أن خالفتني الرأي ذات مرة، وقسوت عليك بكلماتي وأنت لا تجيبين، فماذا عساك أن تقولي؟
فأنت امرأة، والمرأة ساذجة بفطرتها؛ لا خبرة لديها في الحياة، ومهما اعتصر ذهنها، وأعملت عقلها، فلن ترقى أبداً لمستوى عقل الرجل،
هكذا تربّينا وهكذا كانت أمهاتنا، وأنت تعلمين هذا يا سارة، لا أدري إن كان عن قناعة أم لا، لكن شأني أنّك تدركينه وكفى.
قطع حديثي الخافت صوت العصفور وهو في قفصه الحديدي ينقرُ بشدة في القفص علَّه يتكسَّرُ ويطير، نظرتُ إليه ويكأنني أراه لأول مرَّة كان صراعه من أجل حريَّته يهزّني، عدتُ بعينين تترقرقان بالدمع تُكملان بثَّ أطيافي لسارة:
كم أنت جميلة يا سارة!
هكذا أنت دوماً.. ألوم وتصمتين، أثور وتهدّئين، أقسو وتسامحين، لا أبالي وتحترقين.
كنت أراقب حيرتك؛ كأنّني أتلذّذ بها، ومرّات كنت أرى دموعك المنسابة في محراب صمتك
فكنت أنصرف سريعاً...
لا أدري يا سارة لم كنت أفعل ذلك، رغم أنّ قلبي أحياناً كان يجعلني أخطو خطوات نحوك لأمسح على وجنتيك الحمراوتين، وأُقبّلُ شفتيك المرتعشتين، ولكنّها كرامة الرجل!
لا زال العصفور يثور داخل قفصه بغضب لم أعهده عليه؛ فنهضتُ واقتربت منه علَّه يهدأ لكنَّ آثار القيود كانت قد حطّمتْ صمته، وأشعلت فيه تمرده.
نظرتُ إليه وأنا أتذكّرُ وقت أن حرّرتهُ سارة ذات مرة بعدما رأته يثور داخل قفصه لتهبه حريته، صحت حينها بوجهها متوعداً إياها بأقصى العقاب، ولم تجب كعادتها سوى بالعبرات التي تنسال من عينيها.
كان لسانُ حال فِعلها يقول:
-هِب الحريَّة لمن تُحب ولا تحيك من قيودكَ قفصٌ يُسجن فيه، فإن أحبَّكَ سيكون قلبكَ قفصه الذي لا يتركه أبداً بمحض إرادته!
كنت أعلم أنها صائبة، لكنَّني لست ممن يتحمَّل بلاء غياب من أحبَّ أو تملَّكْ! لذا حينما رأيته حاول الهَرَب، قتلتُ حريته وكُلّي يقين بأنّ الحرية دون قيود إهدار لمشاعر شتَّى.
حاولت تهدئته ولكنني فشلت، فاستدرت ناح سارة أُكملها بقايا بثِّي:
أذكرُ يا سارة وقت أن أخبرتني ذات مرّة أنّ لي ابتسامةً جميلة، وقت أن تعالت ضحكاتنا إثر مشاهدتنا لمسرحية كنّا نستمتع بها سويًّا، أو دعيني أقول التي كنت أشاهدها أنا، بينما كنت- أنت- تراقبينني كطفلٍ يراقب أباه، يتتبّعُ أفعاله، ويُقلّدُ تصرّفاته، كيف يتحدّث، ومتى يبتسم؟
وما الذي يجعله يغضب؟
كنت تتهلّلين معي، وتقتربين منّي، علّى أطويك بين ذراعيّ، ولكن أيّ جفاء هذا الذي كنت أعاملك به؟! وأي حب ذاك الذي كنت أراه في عينيك.
هل الحب ضعف؟! هل الرجولة لابد وأن يبطنها القسوة والجفاء؟!
هكذا تربيت، وهكذا حكمتُ عليك يا زهرتي أن تذبلي، شاهدتُك تضوين يوماً بعد يوم، وتتحملينني دون امتعاضٍ أو اعتراض.
كان الصمت إجابتك، والدموع رسائلك، ولكنني تغافلت عنها بحمقي وأنانيتي؛ فقراءة المشاعر في قاموس الرجال ضربٌ من مُحال، فقليلون هم من يفقهون!
ها أنت يا وضّاءة الوجه، أسبرُ بأغوارك، ويكأنك فيلماً سينمائياً، ما أبهاك حين أبدأ يومي بطلتك البهيّة! تبتسمين فأنصرف عنك، ثم أعود لأجد واحةً قد أُعدّت لي...
احتضنتني كطفل، فغرستُ أشواك الأذى في صدرك، كنت أتهكّم على كلّ ما تقومين به، منعت عنك كل شيء، ولم أكتف بذلك بل اتخذتك لنفسي دون العالم، وتركتك تعانين الوحدة بين جدران بيتي، والصقيع بين جدران قلبي.
أتذكّر يوم أن كنت مريضة، وجلست بجوارك، تحسّست حبّات العرق التي نبتت على جبينك، نظرة عينيك فاضت بالكثير، وكأنّها تقرُّ بسعادة احتضنتها كالملهوف الذي وصل لمبتغاه.
شعرتُ وقتها كأنك مضغةٌ تشقُّ رحمها لكي تولد من جديد، فأيناه ذاك الاهتمام الذي لمستيه منّي من قبل!
كنت كثيراً ما تحتارين لأمري، وتسألين عقلك إن كنت أحبك أم لا؟ فيجيبك باضطراب:
إن كان لا يحبك فلم تزوجك؟ فيباغتك قلبك الفقير قائلاً:
إن كان كذلك فلم تقتربين ويبتعد، لم لا يبادلك نظرات الحنين والشوق التي تبثّينها إليه؛ فأنت امرأته وهو فارسك.
أعلمُ يا سارة كل ما كان يدور بخلدك، والحقيقة إنّني أحببتك؛ فأنت أمنيتي وحُلمي الذي طالما صلّيت من أجله، وما تحفّظي معك إلا لشخصي الذي يأبى الخضوع لمن يحب، حتّى ولو كان ذلك بكلمة أو نظرة يطمئن لها قلبك المضطرب.
ازداد هياج العصفور وعلا صوت تخبُّطه في قفصه الحديدي، ثم توقف صياحه فجأة، هرعت نحوه بعد أن قررت تحريره، كان العصفور قد بدأ يهدأ رويداً رويداً حتى خارت قواه، فاقتربتُ منه بخطًى متوجسة فوجدته غارقاً في دمه يلفظ أنفاسه الأخيرة، فقد اختار حريته بموته بعد أن آيس أن ينالها بحياته.
فتحتُ القفص وأمسكت بالعصفور وهو مُسجى بين يدي والدم يهمى من رأسه بشدة، كان ينتفض مصدراً أنيناً خافتاً، اقتربت من سارة ودم العصفور في يدي اليسرى والدموع تنسال مني حتى شقّت وجنتي، أمسكت يدها اليُمنى، ثم بادلت النظرات لكليهما، تلوَّنت يد سارة بحمرة دم العصفور الذي يتقاطر من يدي اليُسرى،
أواااه أ أختار العصفوران حريتهما، كسَّرا طوقهما الحديدي وطارا.... هذا ما حدّثت به نفسي
خارت قواي وعجزت عن الوقوف فاستلقيت جانب الأريكة أنظر لكلتي يدي النازفتين بدمائهما.
اعتدلت مذعوراً... اتجهت نحو سارة ... هززت كتفها... جحظت عيناي من مشهد الدماء المتناثرة حولها، ثم صرخت بنحيب يبكي:
سارة..
إلى متى ستمطرينني برسائلك الصامتة؟!
أجيبيني يا سارة، كيف استطعت أن تتركيني في هذه الحياة وحيدًا فقيرًا إليك؟
لماذا لم تتريّثي في قرارك؟ لم لم تثوري وتخرجين من محراب صمتك؟
كان بإمكاني أن أتغيّر ما دامت هذه رغبتك، وحتّى وإن لم أتحسّن للأفضل كان بإمكانك أن تبتعدي وتهجريني، كنت حينها سأعبأ بكرامتي وأتركك؛ فقد كان يكفيني أنّ روحك الطيبة الملائكيّة تظلّل دنيانا بنقائها وعفتها.
فلم آثرت الموت إذن؟!
أهو لرغبة منك في الحفاظ على ألا ينقص حبي من قلبك؟ أم لهذا الحد تحتقرينني؟!
لم فعلت هذا بنفسك؟ إنّ الكون - يا سارة - لم يتأثر لموت أحد، لن تتوقف الحياة حداداً لروحك، ولن يبكي أحداً فراقك.
صدّقيني يا سارة لن يعبأ بموتك سواي، وأنا لا أستحقّ كلّ ما اقترفتيه بحق نفسك.
فأنا حقيرٌ، وأنت عظيمة.
كنت الجنة لقلبي وكنت الجحيم لروحك.
أجيبيني .......أ وُئدت كل حروف الضاد فلم تجدي ما تفصحين به عما يجول في خاطرك؟ أم كنت لهذه الدرجة لا أستحق ؟!
أهكذا انتهى المشهد؟ أسأصحو غداً فلم أجدك جواري؟
أسأعود وحيداً بعد ما كنت مؤنستي ورفيقة دربي؟
المنزل موحش بدونك يا سارة، حتى الأزهار التي أحبّها وكنت أنت تعتنين بها، باتت شاحبةً لا حياة فيها.
زججتُك إلى الموت زجًّا، كنت أسمع أصوات ضلوعك تعتصرُ حزنًا، دفعتك بيديّ إلى حافة الإكتئاب، فهويت فيه حتى اقتلع جذور روحك، أشعر بغصتك فها هي تبتلعني، تلهبني بسياط الندم، ولكن هل يجدي ويعيدك ولو لطخت وجهي بدمائك النقية؟
ها أنا أتوسل تحت قدميك، أقبّل وجهك الشاحب، وأنادي فيك الحياة أن تعود، ولكن أي حياة؟! فلقد وأدتها فيك منذ أيامنا الأولى، وها أنا قد فقدتُ الإحساس بكلّ ما حولي.
ساارة...
الحياة دونك موت .. قاسيةٌ هي الحياة التي نتجرّعها غصباً!
ياليتك تمهّلتي قليلاً ... أو شاركتني قرارك فلربما كنت أنقذت روحك النقية التي لا تستحق سوى السعادة والهناء، لكنّك كعادتك صامتة.
حتى في موتك يا سارة ... صامتة!
#حتى_في_موتك_صامتة
#رانيا_اللبودي