الغرفة رقم ٢٤٩ بقلم مروى زيتوني تونس
سمعت نقرا قويّا...هممت بفتح النّافذة التي تطلّ على بيت الجيران إذ به المطر يقرع زجاج النّافذة..البلدة تلبس الغيوم المتراكمة كما تلبس الثّكلى ثياب الحداد، الطّقس ممطر فلكأنّه يبكي بحرقة لشيء ما فقده تماما كما يبكي المغترب شوقا و حنينا لأهله..السّماء ملبّدة بالغيوم تماما كسمائي الممتلئة بالشّجون...تذكّرت ذاك المساء الذي طوته الأيّام"و أنت الآن لا تستطيع أن تراه إلاّ من خلال ذاكرتك". "و هل تستطيع الذّاكرة أن تسجّل كلّ شيء؟" ينبثق ذاك المساء الشّتويّ من باطن الذّاكرة،من أعماق الأعوام الرّاحلة و لكن لماذا الغوص الآن في ذكريات المساء ذاك دون غيره؟ و أيّامك كلّها أمسية قاتمة.
أذكر جيّدا ذاك المساء الذي تحييه الغيوم و زخّات المطر ليولد من جديد في اللّحظة الرّاهنة فتراه ماثلا أمامك بجلّ تفاصيله مهما فتكت بالذّاكرة آفة النّسيان."والنّسيان آفة تلتهم كلّ شيء".
إنّني لا أزال أذكر الآن ذاك المساء عندما عدت من الكليّة بعدما انتهت تلك المحاضرة المملّة...عدت إلى تلك الغرفة الضّيقة التي لا تكاد تتّسع إلّا لبعض أطراف الجسم فما بالك بالأدباش الكثيرة.
عدت إلى تلك الزّنزانة التي تصرخ فيها الأنا اختناقا و تئنّ وجعا..تريد أن ترى الضّياء، تريد من النّسمات أن تخرق ضلوعها اليابسة لتيْنع من جديد..و تتذوّق طعم الحياة،تريد أن تحلّق عاليا حيث لا شيء يعيق تحليقها.
عدت إلى تلك الغرفة رقم 249 في الطّابق العلوي.
أذكر جيّدا المساء ذاك حينما جنّ اللّيل و ألقى الكرى رداءه..الرّيح تعصف و المطر يهطل..سكوت رهيب..صمت مخيف.. ظلام دامس حجب عن العين كلّ الموجودات،ارتميت على فراشي كطائر أصابه سهم الصيّاد،جسم مرهق..عقل يفكّر..كيف ستمرّ هذه اللّيلة بين يقظة مخيفة و نوم مزعج؟ كيف سأنام و شبح اللّيل يخيفني كثيرا؟ كيف سأنام و شبح اللّيل منتصبا أمامي مستهزئا من وحدتي بين تلك الجدران؟ كيف سأنام و الرّيح تعوي فتزيد من خوفي؟
مرهقة جدّا، أريد أن أنام..لكن وحشة اللّيل تخيفني.
غلبني النّعاس...راودتني كوابيس مزعجة. استيقظت مذعورة..أحسست بخوف شديد يقبض على صدري.
رفعت رأسي إذّاك فلم أرَ أمامي سوى طاولة مهترئة فوقها أكداس من الكتب و الأوراق و قلمي الأسود الذي كلّما صرخت سمع صراخ نفسي و أتى ليعزّيني،لم أسمع سوى صوت وابل المطر و عواء الرّياح.
بقيت ليلة كاملة قابعة في ظلمة الليل أترقّب انبلاج الفجر ..أمدّ يدي فلا أراها من شدّة الظّلمة.. أفتح حقيبتي لأبحث عن صورة أمّي بين الأوراق الكثيرة..آخذ تلك الصّورة..أشمّ رائحتها..أضمّها إلى صدري..أمرّر أناملي على خدّ أمي،أقبّله ..أنظر في عينيها..فتغلبني الدّموع المنهمرة تماما كالمطر الذي يهطل في الخارج هاته السّاعة..أشعر ببرد شديد..رغم أكداس الأغطية..لم أتمالك نفسي..صرخت كالطّفل الصّغير الذي يبحث عن رائحة أمّه بين آلاف الحشود.
أصرخ..أمّاه أتعلمين ما الوجع؟ أن لا أرى وجهك كلّ صباح..أعلم أنّ يومك بابنتك الغائبة عن ناظرك كلّ يوم لا جدوى منه..أعلم أنّك في كلّ ثانية تتساءلين في أيّ حال هي الآن؟ أعلم أنّك مسكونة بأوجاع كثيرة ابنك الصّغير الذي غيّبه الموت عنك فجأة..أذكر جيّدا شهقاتك عندما قلت يا ابنتي تحلّقنا جميعا حول مائدة الإفطار إلا ذاك الغائب الذي رحل و لن يعود و أنت أيضا يا بنيّتي الغائبة عن ناظري..آه أمّاه كيف سأخفّف عنك أوجاعك؟ أعلم أنّك كلّ يوم تبحثين عن همس ابنتك الغائبة بين أركان الغرفة فلا يجيبك غير الصّدى..ليست هنا..تنادينها و تواصلين النّداء بقلبك متسائلة إن كانت تسمعك..أعلم أنّه لا يهجع لك بال قطّ..أعلم أنّ التّفكير في تلك الغائبة التي حجبتها عنك المسافات أرهقك كثيرا..أعلم أنّ الأسئلة كثيرة تكتمها شفتاك:يا ترى هل هي بخير؟ كيف حالها الآن؟ أتناولت طعامها...؟و يظلّ بالك مشغولا طوال الوقت..و سرعان ما تتراكم تلك الغيوم فتمطر عيناك ثمّ تمسحينها آملة في أنّ اللّقاء قريب.
أرجوك أمّاه رفقا بقلبك..سويعات معدودة و فروض معدودة ثمّ سأعود..سأعود يا قرّة عيني و نحتفي بفرحة اللّقاء رغم أنّه لقاء يتيم دون ضجيج بلبلي رحمه اللّه.سأعود و إلى صدرك ستضمّيني و بين أحضانك ستخبّئيني..أميمتي يا رفيقة دربي الغربة قتلتني و الدّنيا للأحزان ركلتني. ليتك في هاته السّاعة حذوي لتستمعي لأحاديثي و تصغي لأنيني.
الذّاكرة غربال..و للذّكريات تجاعيد تماما كالسّنين..فثمّة تفاصيل مخبّأة لا تضيع في زحام الذّاكرة..إذ تبقى راسخة رغما عن أنفنا تماما كبعض الأماكن التي كلّما تراكمت الغيوم و هطلت الأمطار تشمّ فيها رائحة ماضيك و كأنّها تعيد إليك الزّمن بكلّ طقوسه و بسويعاته...أحيانا نريد أن نطمر تلك الذّكريات القاتمة لكنّها لا تموت...هي تتحرّك فينا..تخبو كي تنجو من محاولة قتلنا لها..لتعود في أوّل فرصة و تطفو على واجهة قلبنا..نحتفي بها كضيف افتقدناه و مرّ يسلّم علينا و يواصل طريقه رغم مرارتها.
عن ألم-الغربة- أتحدّث/"الغرفة رقم 249"
"المغترب في وطنه"
مروى زيتوني
سمعت نقرا قويّا...هممت بفتح النّافذة التي تطلّ على بيت الجيران إذ به المطر يقرع زجاج النّافذة..البلدة تلبس الغيوم المتراكمة كما تلبس الثّكلى ثياب الحداد، الطّقس ممطر فلكأنّه يبكي بحرقة لشيء ما فقده تماما كما يبكي المغترب شوقا و حنينا لأهله..السّماء ملبّدة بالغيوم تماما كسمائي الممتلئة بالشّجون...تذكّرت ذاك المساء الذي طوته الأيّام"و أنت الآن لا تستطيع أن تراه إلاّ من خلال ذاكرتك". "و هل تستطيع الذّاكرة أن تسجّل كلّ شيء؟" ينبثق ذاك المساء الشّتويّ من باطن الذّاكرة،من أعماق الأعوام الرّاحلة و لكن لماذا الغوص الآن في ذكريات المساء ذاك دون غيره؟ و أيّامك كلّها أمسية قاتمة.
أذكر جيّدا ذاك المساء الذي تحييه الغيوم و زخّات المطر ليولد من جديد في اللّحظة الرّاهنة فتراه ماثلا أمامك بجلّ تفاصيله مهما فتكت بالذّاكرة آفة النّسيان."والنّسيان آفة تلتهم كلّ شيء".
إنّني لا أزال أذكر الآن ذاك المساء عندما عدت من الكليّة بعدما انتهت تلك المحاضرة المملّة...عدت إلى تلك الغرفة الضّيقة التي لا تكاد تتّسع إلّا لبعض أطراف الجسم فما بالك بالأدباش الكثيرة.
عدت إلى تلك الزّنزانة التي تصرخ فيها الأنا اختناقا و تئنّ وجعا..تريد أن ترى الضّياء، تريد من النّسمات أن تخرق ضلوعها اليابسة لتيْنع من جديد..و تتذوّق طعم الحياة،تريد أن تحلّق عاليا حيث لا شيء يعيق تحليقها.
عدت إلى تلك الغرفة رقم 249 في الطّابق العلوي.
أذكر جيّدا المساء ذاك حينما جنّ اللّيل و ألقى الكرى رداءه..الرّيح تعصف و المطر يهطل..سكوت رهيب..صمت مخيف.. ظلام دامس حجب عن العين كلّ الموجودات،ارتميت على فراشي كطائر أصابه سهم الصيّاد،جسم مرهق..عقل يفكّر..كيف ستمرّ هذه اللّيلة بين يقظة مخيفة و نوم مزعج؟ كيف سأنام و شبح اللّيل يخيفني كثيرا؟ كيف سأنام و شبح اللّيل منتصبا أمامي مستهزئا من وحدتي بين تلك الجدران؟ كيف سأنام و الرّيح تعوي فتزيد من خوفي؟
مرهقة جدّا، أريد أن أنام..لكن وحشة اللّيل تخيفني.
غلبني النّعاس...راودتني كوابيس مزعجة. استيقظت مذعورة..أحسست بخوف شديد يقبض على صدري.
رفعت رأسي إذّاك فلم أرَ أمامي سوى طاولة مهترئة فوقها أكداس من الكتب و الأوراق و قلمي الأسود الذي كلّما صرخت سمع صراخ نفسي و أتى ليعزّيني،لم أسمع سوى صوت وابل المطر و عواء الرّياح.
بقيت ليلة كاملة قابعة في ظلمة الليل أترقّب انبلاج الفجر ..أمدّ يدي فلا أراها من شدّة الظّلمة.. أفتح حقيبتي لأبحث عن صورة أمّي بين الأوراق الكثيرة..آخذ تلك الصّورة..أشمّ رائحتها..أضمّها إلى صدري..أمرّر أناملي على خدّ أمي،أقبّله ..أنظر في عينيها..فتغلبني الدّموع المنهمرة تماما كالمطر الذي يهطل في الخارج هاته السّاعة..أشعر ببرد شديد..رغم أكداس الأغطية..لم أتمالك نفسي..صرخت كالطّفل الصّغير الذي يبحث عن رائحة أمّه بين آلاف الحشود.
أصرخ..أمّاه أتعلمين ما الوجع؟ أن لا أرى وجهك كلّ صباح..أعلم أنّ يومك بابنتك الغائبة عن ناظرك كلّ يوم لا جدوى منه..أعلم أنّك في كلّ ثانية تتساءلين في أيّ حال هي الآن؟ أعلم أنّك مسكونة بأوجاع كثيرة ابنك الصّغير الذي غيّبه الموت عنك فجأة..أذكر جيّدا شهقاتك عندما قلت يا ابنتي تحلّقنا جميعا حول مائدة الإفطار إلا ذاك الغائب الذي رحل و لن يعود و أنت أيضا يا بنيّتي الغائبة عن ناظري..آه أمّاه كيف سأخفّف عنك أوجاعك؟ أعلم أنّك كلّ يوم تبحثين عن همس ابنتك الغائبة بين أركان الغرفة فلا يجيبك غير الصّدى..ليست هنا..تنادينها و تواصلين النّداء بقلبك متسائلة إن كانت تسمعك..أعلم أنّه لا يهجع لك بال قطّ..أعلم أنّ التّفكير في تلك الغائبة التي حجبتها عنك المسافات أرهقك كثيرا..أعلم أنّ الأسئلة كثيرة تكتمها شفتاك:يا ترى هل هي بخير؟ كيف حالها الآن؟ أتناولت طعامها...؟و يظلّ بالك مشغولا طوال الوقت..و سرعان ما تتراكم تلك الغيوم فتمطر عيناك ثمّ تمسحينها آملة في أنّ اللّقاء قريب.
أرجوك أمّاه رفقا بقلبك..سويعات معدودة و فروض معدودة ثمّ سأعود..سأعود يا قرّة عيني و نحتفي بفرحة اللّقاء رغم أنّه لقاء يتيم دون ضجيج بلبلي رحمه اللّه.سأعود و إلى صدرك ستضمّيني و بين أحضانك ستخبّئيني..أميمتي يا رفيقة دربي الغربة قتلتني و الدّنيا للأحزان ركلتني. ليتك في هاته السّاعة حذوي لتستمعي لأحاديثي و تصغي لأنيني.
الذّاكرة غربال..و للذّكريات تجاعيد تماما كالسّنين..فثمّة تفاصيل مخبّأة لا تضيع في زحام الذّاكرة..إذ تبقى راسخة رغما عن أنفنا تماما كبعض الأماكن التي كلّما تراكمت الغيوم و هطلت الأمطار تشمّ فيها رائحة ماضيك و كأنّها تعيد إليك الزّمن بكلّ طقوسه و بسويعاته...أحيانا نريد أن نطمر تلك الذّكريات القاتمة لكنّها لا تموت...هي تتحرّك فينا..تخبو كي تنجو من محاولة قتلنا لها..لتعود في أوّل فرصة و تطفو على واجهة قلبنا..نحتفي بها كضيف افتقدناه و مرّ يسلّم علينا و يواصل طريقه رغم مرارتها.
عن ألم-الغربة- أتحدّث/"الغرفة رقم 249"
"المغترب في وطنه"
مروى زيتوني