تأليف: محمود فنون
الحلقة (15)
12- جهاز كشف الكذب:
هذا الاسلوب يمكن أن يندرج تحت الأساليب العصبية، إلا أنه ذو آثار نفسية يهدف إلى الخداع الذي يسبب الزعزعة والمحاصرة وكأن الأمر انتهى ولم يبق سوى الاعتراف..
ما هو جهاز كشف الكذب: ليس المقصود هنـا وصف تركيبه الميكانيكي بل دوره في التحقيق، فبالرغم من ندرة استعماله إلا أنه موجود ومن ضمن إمكانيات طواقم التحقيق.. وهو عبارة عن آلة مركبة وظيفتها قياس خصائص ونشاطات فيزيائية في الجسم مثل درجة الحرارة، الضغط، دقات القلب... إنه كأي جهاز طبي ولكنه يستعمل بناء على تقديرات تفيد بأن المقاسات المذكورة ستتغير إذا تعرض الإنسان للإحراج أو الارباك أو حصلت عنده إثارة داخلية معينة.
مثلاً، الخائف تزداد دقات قلبه، ربما ترتفع درجة حرارته ويتصبب عرقه ويزداد ضغطه.
هذه الصفات الانسانية الطبيعة تستغل من قبل المحققين بعد الإيحاء الأسير بأنه سيوضع على جهاز كشف الكذب الذي سيبين ما إذا كانت اقواله صحيحة أم كاذبة.
فيقتادوا المعتقل إلى المكان الذي يوجد فيه هذا الجهاز. وهو عادة موجود في مراكز رئيسية أو عيادات ومستشفيات. ويهيأ قبل وأثناء الرحلة بما يلزم.
ثم يوضع على الجهاز ويتم وصل أطرافه بالأجهزة المتعددة وهي 1- جهاز قياس ضغط الدم 2- جهاز قياس دقات القلب 3- جهاز قياس الومضات العصبية والعضلية في الأصابع 4 ـ جهاز قياس الإفرازات العرقية 5- جهاز قياس الحرارة واختلافات الحرارة 6 - جهاز قياس التنفس....
وعلى فرض أن المعتقل لا يعرف خصائص هذا الجهاز، فإنه سيتعامل معه على أنه جهاز سحري يكشف من خلال الحديث الدائر ما هو صدق وما هو كذب. إن المعتقل بسبب جهله بهذا الجهاز سيعتقد أنه يكشف الأفكار وخفايا النفس. هكذا يوحي له رجال التحقيق والفنّي المتخصص على الجهاز بعد أن يكون تلقى العديد من التهديدات بوضعه على جهاز فحص الكذب عندما كان ولا يزال في أقبية التحقيق الأول.
إنه مهيأ نفسياً لملاقاة شيء غامض، يجول بخاطره دون أن يدري أن في معظم بيوت الناس اليوم موازين حرارة لقياس حرارة أطفالهم وأن في كل عيادة طبية جهاز لقياس الضغط، ومع كل طبيب سماعة لفحص نبضات القلب وكل مستشفى فيه أجهزة عديدة من هذا النوع.
إنه يعتقد أن هذا الجهاز خاص فقط بالتحقيق وهو عبارة عن حفارة تنقب عما في باطن النفس، وعلى ذلك فليس مستغرباً أن يبادر أحد الأغبياء لتفضيل الاعتراف دون الذهاب لهذه الآلة الكاشفة السحرية. وهذا هو هدف المحقق بالأساس من تهديداته.
ماذا سيفعل الجهاز؟ إنه سيقيس هذه الظواهر الفيزيائية في الجسم كما ذكرنا وليس أكثر بحال من الأحوال. إن جوهر هذه اللعبة، الخدعة، يكمن في أن المعتقل بعد وصل جسمه بالأجهزة، وهو ملقى على ظهره أو واقفاً أو جالسا وتتشابك أمامه الأسلاك ومن حوله.
بعد وصله بالأجهزة، تتم القياسات المذكورة سلفاً، ثم توجه بعض الأسئلة منها أسئلة عادية جداً عن اسمه، عمله تعليمه، ثم يسأل أسئلة أخرى عن أنشطته، وعن مسائل أخرى تتعلق بنضاله وانتمائه ونشاطه.
وأثناء طرح هذه الاسئلة تقوم الأجهزة باستمرار بتسجيل القياسات التي يجري فيما بعد دراستها ولو بصورة شكلية على الأقل مع الافتراض أن بعض الأسئلة ستثير المناضل أو تثير أعصابه أو تسبب له الحرج والضيق وغير ذلك من المؤثرات المفترضة، مما يؤدي إلى درجة من الاختلاف في عمل أجهزة الجسم وهرموناته وبالتالي تظهر قياسات النشاط الفيزيائي بصورة متذبذبة.
من المفترض أن بعض الأسئلة لا تُحدث إثـارات وانفعالات داخلية في الجسم، وأن بعضها ستحدث درجة من التغير في عمل الأجهزة، ومن المفترض أن الأسئلة ذات المساس بالقضية قيد التحقيق ستؤثر في درجة ثبات وأعصاب المناضل إذا فوجئ بها وأن بعضها الآخر لا يؤثر فيه.
من المفترض أن الأسئلة ذات المساس بالقضية ستؤثر وبالتالي تتغير القياسات وهذا ما يمكن أن يستعمله المحقق كذريعة يجابه بها المعتقل.
غير أنه في غالب الأحيان ستتأثر القياسات، حتى لو كانت الأسئلة عن الحب والطعام والعمل، مما يجعل ثقة المحقق بالنتائج واهية جداً.. لكن من المعقول أيضاً أن يجيب المعتقل على جميع الأسئلة بكل أنواعها دون أن تهتز له قناة ودون أن يشعر بأي خوف خاصة بعد أن يعرف سر هذا الجهاز (السحري)، ولكن المحقق سيصر على أن الجهاز كشف عن أنه كاذب ولكن هذه المرة بشكل خجول (لأن الجهاز اكتفى بالاشارة إلى كذب الحديث ولم يقل ما هو الصدق)!
إن المحقق سيصر دائماً على القول بأن الجهاز كشف كذب المعتقل والمعتقل يقول بينه وبين نفسه على الأقل.. ليكن... ولكن هل يعرف الصحيح.
يف نفشل عمل الجهاز عن قصد:
من معرفتنا لشروط عمله يمكننا الإخلال بها رغم أنف خبير الجهاز والمحقق.. فالجهاز يعمل ويقيس ويمكن ان تكون قياساته دقيقة جداً.
يتوجب أن يجلس المفحوص، أو يستوي ساكناً تماماً وينظر في اتجاه واحد فقط ولا يحرك أي جزء من أجزاء جسمه، وتطرح عليه الأسئلة ويجيب عليها في الغالب بكلمة..
الجهاز يعمل باستمرار ويقيس ما أنيط به بمنتهى الدقة ويسجل أي تغير مهما كان طفيفاً حتى درجة الإفرازات العرقية مهما كانت غير ملحوظة. ويرسم خطوطاً معبّرة عن القياسات على شريط من الورق، وعندما يتلفظ المعتقل بكلمة (لا) كإجابة على أي سؤال فإن الجهاز يسجل وتظهر التغيرات. فإذا التزم المعتقل بالهدوء والسكينة تكون تسجيلات الجهاز دقيقة، لكن إلى حد معقول؛ وبالتالي تظهر التغيرات التي تشير إلى التوترات وبسبب أي سؤال كانت حسب الترتيب المعد سلفاً.. أما إذا قام المعتقل بتحريك جسمه أو أجزاء منه أو افتعال أية حالة نفسية داخلية، فإن التسجيل الذي ينشأ سيظهر في أعين الخبير مشوشاً فقد يظهر اختلاف لدى سؤاله عن عمل عادي قام به كأن يكون تناول وجبة في وقت من الأوقات.
وبمعنى آخر، لو نظرنا من زاوية الاعتقاد بصحة تقديرات الخبير والمحقق لنتائج القياس، يمكننا أن نجعل الجهاز يسجل ما يخالف رغبات الخبير بأن نبذل جهداً ما بدلا من السكوت، أو نتذكر أشياء تجلب الراحة أو تثير الأعصاب على هوانا وهذا بالتالي يؤثر على عمل الأجهزة الجسمية فتكون الأجهزة الجسمية قد تلقت أكثر من مؤثر واحد مما يجعل فحص القياسات ودراستها مشوشاً ولا يعطي النتيجة المطلوبة.
افترضنا في السابق أن المعتقل الذي اقتيد لجهاز كشف الكذب وقبل بالخضوع لهذا الفحص كان جاهلاً بهذا السر، فإذا كان عارفاً وأدرك المحقق ذلك فإنه لن يقوده إليه، أما إذا اعتقد المحقق أنه من الممكن أن تنطلي الحيلة على المعتقل فسيقوده إليه إذا قبل بذلك، أي أنه سيقوده إلى حيث يمكن للمناضل أن يسجل تفوقاً جديداً وموقفاً تيئيسياً آخر عند المحقق.
يمكن إفشال هذا الأسلوب بكلمتين ومنذ البداية، فحينما يعد المحقق العدة للذهاب لمكان الجهاز ويأخذ في تهيئة المعتقل لذلك، بإمكان المعتقل أن يسخر من المحقق ويشعره بأنه يعرف هذا الجهاز ولا يهتم له فهو ليس أكثر من جهاز طبي. أما إن قاده إليه فإن كل إنسان بإمكانه أن يزيد سرعة تنفسه كيفما يشاء كي يربك مخطط المحقق مثلا: شخص (س) من الخليل يوضع على الجهاز، يسأله المحقق هل أنت من القدس؟ الجواب لا. هذا السؤال والإجابة عليه لا تثير أيـة توترات غير عادية. ولكن بإمكان المعتقل أثناء الإجابة تحريك قدمه، وزيادة سرعة تنفسه وإحداث أي شيء يسبب التوتر فتكون نتيجة القياس نفس درجة قياس ناتجة بعد سؤال آخر مثير.
قلنا إن جهاز كشف الكذب قليل الاستعمال، بل هو غير منتشر، وذلك لأن كل استخدامه يعتمد بالدرجة الأولى على الخداع والتضليل المبني على جهل المعتقل بطبيعة هذا الجهاز وآلية عمله، ومع ذلك يكثر التلويح باستخدامه، ولكن متى؟
1- في الحالة التي يعتقد فيها المحقق أن لدى المعتقل فكرة مسبقة تفيد بأن استخدام هذا الجهاز سيكشف الأسرار المغلقة.
2- في حالة أن المحقق يسعى لمحاصرة المعتقل ويؤكد له بأن أقواله غير صحيحة ومنافية للحقيقة وأنه مستعد لفحصها بجهاز كشف الكذب، ثم التهديد بأنه إذا ما كشف الجهاز كذب المعتقل فإن عليه أن يدلي بالحقيقة أو يستمر التعذيب مما يفترض أنه إيحاء للمعتقل بأن التحقيق لن ينتهي دون الاعترافات، ما دام المحقق لا يثق بأقوال المعتقل.
الحالة الأولى لا تزيد عن كونها تهديدا فارغا. فكما ذكرنا، هذا الجهاز ليس آلة سحرية قادرة على كل شيء وحتى لو استخدمت فلن تجدي نفعاً.
أما الحالة الثانية فأساسها افتراض لدى المحقق أن المعتقل يريد إقناعه بصحة ما يقول وأن المعتقل مهتم جداً بإقناع المحقق وكأن المسألة كلها معتمدة على صحة المنطق.
في هذه الحالة يقوم المحقق بتعميق توجهات المعتقل أحيانا ويهدده باللجوء إلى جهاز كشف الكذب وقد يقوده إليه فعلاً.
إن كل عمل المحقق يقوم على أساس صياغة فرضيات عن وضعية وحالة المعتقل. ومن المناسب إذا قدنا المحقق لتكوين فرضيات معينة عن حالتنا، أن نقوده بعد وقت إلى تكوين فرضية أخرى يفضل أن تكون معاكسة أو تحافظ على الصورة الافتراضية التي لديه على أساسها يفكر باختيار هذا الأسلوب أو ذاك مما يجعله يختـــار الأسلوب غير المناسب وهذا ينطبق على سلوك المحقق عندما يفكر باللجوء إلى جهاز فحص الكذب.
إن إفشال هذا الأسلوب المحاط عادة بهالة مضخمة في متناول يد كل معتقل مهما كانت درجة وعيه، ومهما كانت صلابة انتمائه ومن أي نوع من المعتقلين ومهما كانت درجة التهيئة التي وصل إليها التحقيق ومهما كانت الأساليب المتبعة قبله.
13- التنويم المغناطيسي:
لم يحدث من قبل أن اتّبع هذا الأسلوب، بل هو نادر الاستعمال في جميع بلدان العالم وذلك لأن المنوم مغناطيسياً لا يتصرف وفق إرادته ووعيه، بل وفق إرادة النوم. هذا أولاً.
وثانياً أن التنويم المغناطيسي ليس مطلقاً في ارتباطه بالمنوّم، بل يمكن أن يزول خلال التنويم لأي سبب كان وخاصة إذا ما أثار المنوم مسائل حساسة بالنسبة للمنوم.
ثالثاً، إذا أبدى المنوم استعداده لفعل شيء أو قول شيء كاستجابة أثناء التنويم فإن الأمر يختلف بعد التنويم.
رابعاً، لا بد أن تكون لدى المنوِّم معرفة دقيقة جداً وسلفاً بكل ما لدى المنوَّم والأماكن التي يرغب في البحث فيها عن المعلومات. وإذا كانت لديه هذه المعرفة فليس من داع لأي تنويم.
خامسا، أن ما يمارسه المنوِّم على المنوَّم، والتي تهدف إلى إقناعه أو إرغامه على الكلام وقول ما عنده سوف يفقد أثره بعد زوال التنويم بسبب تعرّض المنوَّم للدهشة والمفاجأة بعد زوال التنويم مباشرة بسبب انقطاعه عن ذاته لفترة ما يجعله يصحو ليس من التنويم فحسب بل من الآثار التي تركها. سادسا، الأمر الرئيسي في التنويم يعتمد على مرحلة ما بعد التنويم مباشرة وكيف يجيد المحقق استغلالها من خلال التأكيد للمنوَّم بأنه قال شيئا والاستمرار في إحداث تأثيرات بأقوال وأساليب متعددة. غير أن حالة الدهشة والعودة للوعي والحديث الحساس الذي يدلي به المحقق تخلق حالة رد فعل معاكسة تضع التحقيق كله في حالة ما قبل التنويم لتكون آثار التنويم قليلة الفاعلية وربما ذات أثر إيجابي لصالح المعتقل الذي تم تنويمه.
سابعاً، وهذا مهم جداً، أن نجاح عملية التنويم ذاتها منذ البداية أثر مشكوك فيه لأن التنويم يحتاج إلى تفاعل تام وانسجام بدرجة كبيرة بين المنوِّم والمنوَّم، بل يتطلب نوعا من الرضا والموافقة التامة على التنويم واستعداداً داخلياً للعملية، أو على الأقل خضوعاً تاماً من قبل المنوَّم، وإلا فإن الاستعداد الداخلي لدى المناضل لعدم قبول التنويم سوف يفشل العملية ذاتها من أساسها.
كل هذه عقبات في طريق استخدام التنويم المغناطيسي.
بماذا يتميز أسلوب التنويم عن غيره؟
قلنا إن السقوط والاعتراف يحدث نتيجة لتوفر استعداد داخلي عند المعتقل، واعٍ ومدرك مهما كانت الحالة النفسية التي يعيشها، ومهما كانــت أنواع وأساليب التحقيق، ومهما كانت شدة التعذيب الجسدي. إن الضرب على القدمين لا يمكن أن يحرك اللسان تلقائياً إلا إذا رغب الإنسان في ذلك، والضرب على اللسان يخرسه أكثر فأكثر عن الكلام، والضرب يمكن أن يحدث ألماً، والتهديد يمكن أن يسبب الخوف وإثارة فكرة معينة يمكن أن تثير فكرة أخرى. لكن كل ذلك لا يمكن أن يدفع بشكل أتوماتيكي إلى الكلام.
والأساليب المتبعة قلما تؤثر بشكل جدّي على الحالة النفسية للمعتقل، وهي لا يمكن أن تؤثر بشكل ميكانيكي على حالة الثبات والإصرار والتحدي ما لم يتجاوب المعتقل ويتفاعل مع المحقق بدرجة ما من التعاون الإرادي الذي يساعد المحقق على إحداث المزيد من التأثيرات السلبية وهكذا.
أي أن المسألة في كل أساليب التحقيق تكمن في درجة معينة من درجات التعاون الواعي إلى هذه الدرجة أو تلك، والاستجابة الإرادية للتحقيق سلباً أو إيجاباً والاستعداد للاعتراف أولاً وأخيراً.
أما التنويم المغناطيسي فهو بالاضافة إلى أنه يشبه غيره في الحاجة للتعاون إلا أنه يحتاج إلى درجة كبرى من التعاون الراضي، أو إلى درجة كبرى من الخضوع، خضوع المنوم للمنوم، وأثناء التنويم تختلف الاستجابة من استجابة واعية في الأساليب الأخرى إلى استجابة غير ارادية.
كيف يحدث التنويم؟
قطعاً لسنا هنا بصدد شرح المسألة من زاوية علمية بحتة، إنما بالقدر الذي يمكن أن يعني أي إنسان فيما لو تعرض لعملية التنويم المغناطيسي.
من الممكن أن يلاحظ المرء في حياته بعض السلوكيات المثيرة، فإذا ما جلس واحد في قبالة سعدان ولفــت انتباهه بصورة جيدة ثم أخذ في التثاؤب مرات متلاحقة، فإن السعدان أيضاً يأخذ في التثاؤب وقد ينام إذا استمرت الحالة. وإذا ما جلس فرد في مجموعة وتحدث بشكل مثير يدفع الآخرين لتركيز كل انتباههم له ثم أخذ في التثاؤب، والتصرف كما لو أنه أخذ ينعس شيئاً فشيئاً فإن الجميع يحذون حذوه، بينما الشخص الذي كان يجلس مع نفس المجموعة مشغولاً عنها فإنه سيلتفت بعد قليل ليجد الجميع يتثائبون دون أن يدري ما السبب فهو لم ينخرط في الجو الخاص الذي نشأ وبالتالي لم يتأثر به.
في التنويم المغناطيسي يحتاج الأمر إلى خبرة عالية وتدريب على التنويم، والمدرب أو الخبير ذو صلة مباشرة بالتحقيق وفي الأحوال العادية التي يرغب فيها شخص بأن ينوَّم يطلب منه المنوِّم أن يجلس بطريقة ملائمة وفي حالة استرخاء تام، وأن يحصر تفكيره بشكل جيد في الحالة المطلوبة، ثم يبدأ الخبير عمله فيركز بصر الشخص في اتجاه معين ويحرك يده أو إصبعه أمام عينيه مع التلفظ بعبارات معينة وتسليط النظر في عيني الشخص.. وهكذا. وقد يحتاج الأمر إلى احتوائه بطريقة معينة حتى يحصل على التركيز والتهيئة اللازمة.
خلال العملية تجري السيطرة شيئاً فشيئاً على القسم الواعي من نشاط الدماغ وإضعاف فعاليته إلى الحد الذي يمكن الخبير من السيطرة على الشخص المنوم. وفي حالة وجود مقاومة يلجأ الخبير إلى استعمال كلمات مؤثرة في الشخص ليركز تفكيره في مسألة محددة يرغب بها الخبير ومن ثم يمارس عمله.
على أية حال، فإن الحالات التي يتم فيها التنويم فعلاً أقل بكثير من الحالات التي تفشل. وإذا ما مارس الخبير نشاطه دون أن يشعر الشخص المرغوب تنويمه بهدف هذا النشاط (إذا كان لا يثق بتعاونه)، فإنه لا يحدث تنويم فالتنويم عبارة عن حالة استرخاء عميق لا أكثر. وليست قليلة الحالات التي يعتقد فيها الخبير أنه نجح في التنويم ويتصرف على هذا الأساس بينما الشخص المقابل يكون في وضعه العادي ، وليس في المسألة أي سحر وإنما تكمن أهميتها في المناخ العام الذي يخلق حول الشخص أو المعتقل قيد التحقيق لخلق حالة من التوتر والخوف من أشياء يفترض أن يراها هائلة وجبروتية مما يجعله أكثر استعداداً للإدلاء بالاعترافات.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلافا لكيفية تصوير التنويم المغناطيسي أحيانا على شاشات التلفزيون، فإن الشخص لا يفقد السيطرة على سلوكه وهو تحت التنويم المغناطيسي. كما أنه يبقى، بشكل عام، على علم وتذكر لما حدث وهو تحت تأثير التنويم المغناطيسي.
يتناول هذا الأسلوب التأثير في الجانب العصبي من الانسان وهو بالتالي من الأساليب العصبية، لكن الغاية النهائية من التأثيرات العصبية المرجوة هي التأثير على الحالة النفسية للمعتقل لخلق ما يفترض أنه استعداد للتعاون مع المحقق. وهو بالتالي يتطلب إضعاف النشاط العصبي للنهايات العصبية في القشرة الدماغية والإبقاء بشكل مركّز على النشاط البصري مما يمكن الخبير من السيطرة على الشخص المرغوب تنويمه وإخضاعه للعملية في حال تعاونه.
قلنا أن عملية التنويم تتطلب استجابة تامة أو خضوعاً تاماً لرغبات خبير التنويم، فإذا طلب أن يركز البصر على جهةٍ فعل، وإن طلب أن لا يفكر بشيء فعل، وأن يتحرك بهذه الصورة أو يردد عبارة معينة فعل. ولكن إذا رفض، وإذا تصرّف بصورة أخرى وصرف تفكيره عما يطلبه المحقق، وإذا طلب منه أن يفكر في شيء وفكر في شيء آخر وإذا كرر على سمعه عبارات معينة تجاهلها.. وغير ذلك من ردود الفعل المقصودة مما يجعل التنويم غير فعّال.
إذا ما صادف ونجحت عملية التنويم فهي لن تعطي شيئاً، إن أكثر ما يمكن عمله كما ذكرنا هو نوع من التعبئة للمنَّوم ليدلي بالاعترافات بعد الصحو لأنه أثنـاء التنويم
وهكذا لو كانت عملية التنويم مجدية لاستعملت، وعلى نطاق واسع، لكنها غير مجدية أساساً ومن المناسب أن يعرف المرء دواخلها مع ذلك.
كغيره من الأساليب، من السهل إفشاله والمحافظة بالتالي على أكبر قدر من التماسك والصلابة والصمود.
لم يكن القصد من هذا العرض الإحاطه الكاملة بكل أساليب التحقيق النفسي وأشكال التعذيب، وإنما تقديم أعمق صورة ممكنة من التجربة الفلسطينية الحية. فكل الأساليب المذكورة جرى استخدامها باستثناء التنويم المغناطيسي، ووقف المعتقلين أمام هذه الأساليب كل المواقف الممكنة التي يطرحها الواقع؛ فبعضهم اكتفى بالاعتراف بانتمائه ولكن بصورة غير صحيحة ولا تشير إلى ما جرى فعلاً، بل ربط نفسه بشخص خارج البلاد أو بشخص لا يستطيع التعرف عليه، وبعضهم اكتفى بأنه شاهد شيئاً ما بمحض الصدفة، وآخرون اكتفوا فقط بالاعتراف بأنهم كانوا موجودين في المكان المعين وأخفوا بقية الحقائق، ولم يقدموا أي تفاصيل تفيد العدو، وبعضهم اعترف بانتمائه كما حصل وأخفى كل الأنشطة، وبعضهم ظن أن من المناسب له الاعتراف بما يعرفه المحقق والإدلاء بمعلومات عنه بطريقة من الطرق صيانة لما هو مخفي، وبعضهم فضل أن يقدم للعدو إدانة عن نفسه تكفي لمحاكمته والحكم عليه بمدة معقولة ظناً منه أن هذا أفضل من الاعتقال الإداري الذي لا فترة زمنية محددة له. وبعضهم اعترف بكل ما سئل عنه وأخفى تفاصيل أخرى، وبعضهم اعترف بما سئل عنه وتبرع بنفسه بكل ما يعرف بعضهم دون أن يسأله (إثباتا لحسن النية الرخيصة)، أما البعض الآخر فقد أطبق فمه عن كل ما يتعلق بالقضية وصمد حتى النهاية.
بعض المعتقلين أدلى بكل ما لديه من أول جولة وبعضهم بعد عدة جولات من التحقيق، والبعض الآخر ظـل صامداً حتى النهاية.
بعض المعتقلين استرد نفسه بعد التحقيق وظل على تصميمه الوطني، وهم الغالبية الساحقة من المعتقلين، وبعضهم الآخر تسلل اليأس والخذلان والندم إلى نفسه جزئياً أو كلياً.
إلا أنه، وفي جميع الأحوال، يلاحظ تصاعدٌ ملموسٌ في خط الصمود، فبقدر ما اكتسبت أجهزة التحقيق خبرة ودراية وازدادت شراسة وهمجية، في المقابل اكتسب مناضلو الحركة الوطنية خبرة ودراية ووعيا وتصميما على الاستمرار في الكفاح وبصلابة لدرجة أن مجموعات بكاملها تعتقل تحت ظروف معينة، وينتهي التحقيق معهم دون أن يفشوا أسرار المنظمات والأحزاب التي ينتمون لها ويواجهون وضعهم في التحقيق بصبر وصلابة.
لقد ارتبطت مسيرة الصمود والصلابة في التحقيق بمسيرة الحركة الوطنية ذاتها، ففي غياب التوعية الجماهيرية السياسية وغير السياسية كان المعتقلون يواجهون التحقيق كمفاجأة لهم، غير أن المسألة اختلفت عندما أخذ دور الحركة الوطنية يبرز أكثر فأكثر في مجال التوعية والتثقيف، مع النهوض الوطني الواسع الذي أخذت تترسخ جذوره منذ عام 1976م.
ما دام العدو عنصريا فاشيا فإنه يعتبر كل نشاط سياسي تقوم به الجماهير الفلسطينية خطرا ومحرَّما، مهما كانت أوجه الرد التي يستعملها ضد هذا النشاط، والتي تتوج على المستوى الجماعي بالقمع بأشكاله المختلفة وعلى المستوى الفردي بالاعتقال والتنكيل.
وما دام العدو فاشيا فإنه لا يعدم الأساليب المتزايدة قذارة في أقبية التحقيق، تلك الأساليب المصحوبة دوما بالتعذيب النفسي والجسدي المتمثل بالضرب المبرح والتجويع والشبح والتعليق والصدمات الكهربائية والوضع في الزنازين الضيقة المظلمة وتعصيب العينين لمدة طويلة، وإحكام القيود في الأيدي والأرجل واستعمال الكلاب الشرسة وتحطيم الأسنان والأظافر وكسر الأيدي والأرجل وشبح الرأس...إلخ.
وإلى جانب التعذيب النفسي هناك الأساليب العصبية التي تستخدم بالمرافقة مع الأساليب النفسية وقد أشرنا في ما سبق إلى الأساليب النفسية والآن سنتعرض للأساليب العصبية.
● ● ●
الحلقة (15)
12- جهاز كشف الكذب:
هذا الاسلوب يمكن أن يندرج تحت الأساليب العصبية، إلا أنه ذو آثار نفسية يهدف إلى الخداع الذي يسبب الزعزعة والمحاصرة وكأن الأمر انتهى ولم يبق سوى الاعتراف..
ما هو جهاز كشف الكذب: ليس المقصود هنـا وصف تركيبه الميكانيكي بل دوره في التحقيق، فبالرغم من ندرة استعماله إلا أنه موجود ومن ضمن إمكانيات طواقم التحقيق.. وهو عبارة عن آلة مركبة وظيفتها قياس خصائص ونشاطات فيزيائية في الجسم مثل درجة الحرارة، الضغط، دقات القلب... إنه كأي جهاز طبي ولكنه يستعمل بناء على تقديرات تفيد بأن المقاسات المذكورة ستتغير إذا تعرض الإنسان للإحراج أو الارباك أو حصلت عنده إثارة داخلية معينة.
مثلاً، الخائف تزداد دقات قلبه، ربما ترتفع درجة حرارته ويتصبب عرقه ويزداد ضغطه.
هذه الصفات الانسانية الطبيعة تستغل من قبل المحققين بعد الإيحاء الأسير بأنه سيوضع على جهاز كشف الكذب الذي سيبين ما إذا كانت اقواله صحيحة أم كاذبة.
فيقتادوا المعتقل إلى المكان الذي يوجد فيه هذا الجهاز. وهو عادة موجود في مراكز رئيسية أو عيادات ومستشفيات. ويهيأ قبل وأثناء الرحلة بما يلزم.
ثم يوضع على الجهاز ويتم وصل أطرافه بالأجهزة المتعددة وهي 1- جهاز قياس ضغط الدم 2- جهاز قياس دقات القلب 3- جهاز قياس الومضات العصبية والعضلية في الأصابع 4 ـ جهاز قياس الإفرازات العرقية 5- جهاز قياس الحرارة واختلافات الحرارة 6 - جهاز قياس التنفس....
وعلى فرض أن المعتقل لا يعرف خصائص هذا الجهاز، فإنه سيتعامل معه على أنه جهاز سحري يكشف من خلال الحديث الدائر ما هو صدق وما هو كذب. إن المعتقل بسبب جهله بهذا الجهاز سيعتقد أنه يكشف الأفكار وخفايا النفس. هكذا يوحي له رجال التحقيق والفنّي المتخصص على الجهاز بعد أن يكون تلقى العديد من التهديدات بوضعه على جهاز فحص الكذب عندما كان ولا يزال في أقبية التحقيق الأول.
إنه مهيأ نفسياً لملاقاة شيء غامض، يجول بخاطره دون أن يدري أن في معظم بيوت الناس اليوم موازين حرارة لقياس حرارة أطفالهم وأن في كل عيادة طبية جهاز لقياس الضغط، ومع كل طبيب سماعة لفحص نبضات القلب وكل مستشفى فيه أجهزة عديدة من هذا النوع.
إنه يعتقد أن هذا الجهاز خاص فقط بالتحقيق وهو عبارة عن حفارة تنقب عما في باطن النفس، وعلى ذلك فليس مستغرباً أن يبادر أحد الأغبياء لتفضيل الاعتراف دون الذهاب لهذه الآلة الكاشفة السحرية. وهذا هو هدف المحقق بالأساس من تهديداته.
ماذا سيفعل الجهاز؟ إنه سيقيس هذه الظواهر الفيزيائية في الجسم كما ذكرنا وليس أكثر بحال من الأحوال. إن جوهر هذه اللعبة، الخدعة، يكمن في أن المعتقل بعد وصل جسمه بالأجهزة، وهو ملقى على ظهره أو واقفاً أو جالسا وتتشابك أمامه الأسلاك ومن حوله.
بعد وصله بالأجهزة، تتم القياسات المذكورة سلفاً، ثم توجه بعض الأسئلة منها أسئلة عادية جداً عن اسمه، عمله تعليمه، ثم يسأل أسئلة أخرى عن أنشطته، وعن مسائل أخرى تتعلق بنضاله وانتمائه ونشاطه.
وأثناء طرح هذه الاسئلة تقوم الأجهزة باستمرار بتسجيل القياسات التي يجري فيما بعد دراستها ولو بصورة شكلية على الأقل مع الافتراض أن بعض الأسئلة ستثير المناضل أو تثير أعصابه أو تسبب له الحرج والضيق وغير ذلك من المؤثرات المفترضة، مما يؤدي إلى درجة من الاختلاف في عمل أجهزة الجسم وهرموناته وبالتالي تظهر قياسات النشاط الفيزيائي بصورة متذبذبة.
من المفترض أن بعض الأسئلة لا تُحدث إثـارات وانفعالات داخلية في الجسم، وأن بعضها ستحدث درجة من التغير في عمل الأجهزة، ومن المفترض أن الأسئلة ذات المساس بالقضية قيد التحقيق ستؤثر في درجة ثبات وأعصاب المناضل إذا فوجئ بها وأن بعضها الآخر لا يؤثر فيه.
من المفترض أن الأسئلة ذات المساس بالقضية ستؤثر وبالتالي تتغير القياسات وهذا ما يمكن أن يستعمله المحقق كذريعة يجابه بها المعتقل.
غير أنه في غالب الأحيان ستتأثر القياسات، حتى لو كانت الأسئلة عن الحب والطعام والعمل، مما يجعل ثقة المحقق بالنتائج واهية جداً.. لكن من المعقول أيضاً أن يجيب المعتقل على جميع الأسئلة بكل أنواعها دون أن تهتز له قناة ودون أن يشعر بأي خوف خاصة بعد أن يعرف سر هذا الجهاز (السحري)، ولكن المحقق سيصر على أن الجهاز كشف عن أنه كاذب ولكن هذه المرة بشكل خجول (لأن الجهاز اكتفى بالاشارة إلى كذب الحديث ولم يقل ما هو الصدق)!
إن المحقق سيصر دائماً على القول بأن الجهاز كشف كذب المعتقل والمعتقل يقول بينه وبين نفسه على الأقل.. ليكن... ولكن هل يعرف الصحيح.
يف نفشل عمل الجهاز عن قصد:
من معرفتنا لشروط عمله يمكننا الإخلال بها رغم أنف خبير الجهاز والمحقق.. فالجهاز يعمل ويقيس ويمكن ان تكون قياساته دقيقة جداً.
يتوجب أن يجلس المفحوص، أو يستوي ساكناً تماماً وينظر في اتجاه واحد فقط ولا يحرك أي جزء من أجزاء جسمه، وتطرح عليه الأسئلة ويجيب عليها في الغالب بكلمة..
الجهاز يعمل باستمرار ويقيس ما أنيط به بمنتهى الدقة ويسجل أي تغير مهما كان طفيفاً حتى درجة الإفرازات العرقية مهما كانت غير ملحوظة. ويرسم خطوطاً معبّرة عن القياسات على شريط من الورق، وعندما يتلفظ المعتقل بكلمة (لا) كإجابة على أي سؤال فإن الجهاز يسجل وتظهر التغيرات. فإذا التزم المعتقل بالهدوء والسكينة تكون تسجيلات الجهاز دقيقة، لكن إلى حد معقول؛ وبالتالي تظهر التغيرات التي تشير إلى التوترات وبسبب أي سؤال كانت حسب الترتيب المعد سلفاً.. أما إذا قام المعتقل بتحريك جسمه أو أجزاء منه أو افتعال أية حالة نفسية داخلية، فإن التسجيل الذي ينشأ سيظهر في أعين الخبير مشوشاً فقد يظهر اختلاف لدى سؤاله عن عمل عادي قام به كأن يكون تناول وجبة في وقت من الأوقات.
وبمعنى آخر، لو نظرنا من زاوية الاعتقاد بصحة تقديرات الخبير والمحقق لنتائج القياس، يمكننا أن نجعل الجهاز يسجل ما يخالف رغبات الخبير بأن نبذل جهداً ما بدلا من السكوت، أو نتذكر أشياء تجلب الراحة أو تثير الأعصاب على هوانا وهذا بالتالي يؤثر على عمل الأجهزة الجسمية فتكون الأجهزة الجسمية قد تلقت أكثر من مؤثر واحد مما يجعل فحص القياسات ودراستها مشوشاً ولا يعطي النتيجة المطلوبة.
افترضنا في السابق أن المعتقل الذي اقتيد لجهاز كشف الكذب وقبل بالخضوع لهذا الفحص كان جاهلاً بهذا السر، فإذا كان عارفاً وأدرك المحقق ذلك فإنه لن يقوده إليه، أما إذا اعتقد المحقق أنه من الممكن أن تنطلي الحيلة على المعتقل فسيقوده إليه إذا قبل بذلك، أي أنه سيقوده إلى حيث يمكن للمناضل أن يسجل تفوقاً جديداً وموقفاً تيئيسياً آخر عند المحقق.
يمكن إفشال هذا الأسلوب بكلمتين ومنذ البداية، فحينما يعد المحقق العدة للذهاب لمكان الجهاز ويأخذ في تهيئة المعتقل لذلك، بإمكان المعتقل أن يسخر من المحقق ويشعره بأنه يعرف هذا الجهاز ولا يهتم له فهو ليس أكثر من جهاز طبي. أما إن قاده إليه فإن كل إنسان بإمكانه أن يزيد سرعة تنفسه كيفما يشاء كي يربك مخطط المحقق مثلا: شخص (س) من الخليل يوضع على الجهاز، يسأله المحقق هل أنت من القدس؟ الجواب لا. هذا السؤال والإجابة عليه لا تثير أيـة توترات غير عادية. ولكن بإمكان المعتقل أثناء الإجابة تحريك قدمه، وزيادة سرعة تنفسه وإحداث أي شيء يسبب التوتر فتكون نتيجة القياس نفس درجة قياس ناتجة بعد سؤال آخر مثير.
قلنا إن جهاز كشف الكذب قليل الاستعمال، بل هو غير منتشر، وذلك لأن كل استخدامه يعتمد بالدرجة الأولى على الخداع والتضليل المبني على جهل المعتقل بطبيعة هذا الجهاز وآلية عمله، ومع ذلك يكثر التلويح باستخدامه، ولكن متى؟
1- في الحالة التي يعتقد فيها المحقق أن لدى المعتقل فكرة مسبقة تفيد بأن استخدام هذا الجهاز سيكشف الأسرار المغلقة.
2- في حالة أن المحقق يسعى لمحاصرة المعتقل ويؤكد له بأن أقواله غير صحيحة ومنافية للحقيقة وأنه مستعد لفحصها بجهاز كشف الكذب، ثم التهديد بأنه إذا ما كشف الجهاز كذب المعتقل فإن عليه أن يدلي بالحقيقة أو يستمر التعذيب مما يفترض أنه إيحاء للمعتقل بأن التحقيق لن ينتهي دون الاعترافات، ما دام المحقق لا يثق بأقوال المعتقل.
الحالة الأولى لا تزيد عن كونها تهديدا فارغا. فكما ذكرنا، هذا الجهاز ليس آلة سحرية قادرة على كل شيء وحتى لو استخدمت فلن تجدي نفعاً.
أما الحالة الثانية فأساسها افتراض لدى المحقق أن المعتقل يريد إقناعه بصحة ما يقول وأن المعتقل مهتم جداً بإقناع المحقق وكأن المسألة كلها معتمدة على صحة المنطق.
في هذه الحالة يقوم المحقق بتعميق توجهات المعتقل أحيانا ويهدده باللجوء إلى جهاز كشف الكذب وقد يقوده إليه فعلاً.
إن كل عمل المحقق يقوم على أساس صياغة فرضيات عن وضعية وحالة المعتقل. ومن المناسب إذا قدنا المحقق لتكوين فرضيات معينة عن حالتنا، أن نقوده بعد وقت إلى تكوين فرضية أخرى يفضل أن تكون معاكسة أو تحافظ على الصورة الافتراضية التي لديه على أساسها يفكر باختيار هذا الأسلوب أو ذاك مما يجعله يختـــار الأسلوب غير المناسب وهذا ينطبق على سلوك المحقق عندما يفكر باللجوء إلى جهاز فحص الكذب.
إن إفشال هذا الأسلوب المحاط عادة بهالة مضخمة في متناول يد كل معتقل مهما كانت درجة وعيه، ومهما كانت صلابة انتمائه ومن أي نوع من المعتقلين ومهما كانت درجة التهيئة التي وصل إليها التحقيق ومهما كانت الأساليب المتبعة قبله.
13- التنويم المغناطيسي:
لم يحدث من قبل أن اتّبع هذا الأسلوب، بل هو نادر الاستعمال في جميع بلدان العالم وذلك لأن المنوم مغناطيسياً لا يتصرف وفق إرادته ووعيه، بل وفق إرادة النوم. هذا أولاً.
وثانياً أن التنويم المغناطيسي ليس مطلقاً في ارتباطه بالمنوّم، بل يمكن أن يزول خلال التنويم لأي سبب كان وخاصة إذا ما أثار المنوم مسائل حساسة بالنسبة للمنوم.
ثالثاً، إذا أبدى المنوم استعداده لفعل شيء أو قول شيء كاستجابة أثناء التنويم فإن الأمر يختلف بعد التنويم.
رابعاً، لا بد أن تكون لدى المنوِّم معرفة دقيقة جداً وسلفاً بكل ما لدى المنوَّم والأماكن التي يرغب في البحث فيها عن المعلومات. وإذا كانت لديه هذه المعرفة فليس من داع لأي تنويم.
خامسا، أن ما يمارسه المنوِّم على المنوَّم، والتي تهدف إلى إقناعه أو إرغامه على الكلام وقول ما عنده سوف يفقد أثره بعد زوال التنويم بسبب تعرّض المنوَّم للدهشة والمفاجأة بعد زوال التنويم مباشرة بسبب انقطاعه عن ذاته لفترة ما يجعله يصحو ليس من التنويم فحسب بل من الآثار التي تركها. سادسا، الأمر الرئيسي في التنويم يعتمد على مرحلة ما بعد التنويم مباشرة وكيف يجيد المحقق استغلالها من خلال التأكيد للمنوَّم بأنه قال شيئا والاستمرار في إحداث تأثيرات بأقوال وأساليب متعددة. غير أن حالة الدهشة والعودة للوعي والحديث الحساس الذي يدلي به المحقق تخلق حالة رد فعل معاكسة تضع التحقيق كله في حالة ما قبل التنويم لتكون آثار التنويم قليلة الفاعلية وربما ذات أثر إيجابي لصالح المعتقل الذي تم تنويمه.
سابعاً، وهذا مهم جداً، أن نجاح عملية التنويم ذاتها منذ البداية أثر مشكوك فيه لأن التنويم يحتاج إلى تفاعل تام وانسجام بدرجة كبيرة بين المنوِّم والمنوَّم، بل يتطلب نوعا من الرضا والموافقة التامة على التنويم واستعداداً داخلياً للعملية، أو على الأقل خضوعاً تاماً من قبل المنوَّم، وإلا فإن الاستعداد الداخلي لدى المناضل لعدم قبول التنويم سوف يفشل العملية ذاتها من أساسها.
كل هذه عقبات في طريق استخدام التنويم المغناطيسي.
بماذا يتميز أسلوب التنويم عن غيره؟
قلنا إن السقوط والاعتراف يحدث نتيجة لتوفر استعداد داخلي عند المعتقل، واعٍ ومدرك مهما كانت الحالة النفسية التي يعيشها، ومهما كانــت أنواع وأساليب التحقيق، ومهما كانت شدة التعذيب الجسدي. إن الضرب على القدمين لا يمكن أن يحرك اللسان تلقائياً إلا إذا رغب الإنسان في ذلك، والضرب على اللسان يخرسه أكثر فأكثر عن الكلام، والضرب يمكن أن يحدث ألماً، والتهديد يمكن أن يسبب الخوف وإثارة فكرة معينة يمكن أن تثير فكرة أخرى. لكن كل ذلك لا يمكن أن يدفع بشكل أتوماتيكي إلى الكلام.
والأساليب المتبعة قلما تؤثر بشكل جدّي على الحالة النفسية للمعتقل، وهي لا يمكن أن تؤثر بشكل ميكانيكي على حالة الثبات والإصرار والتحدي ما لم يتجاوب المعتقل ويتفاعل مع المحقق بدرجة ما من التعاون الإرادي الذي يساعد المحقق على إحداث المزيد من التأثيرات السلبية وهكذا.
أي أن المسألة في كل أساليب التحقيق تكمن في درجة معينة من درجات التعاون الواعي إلى هذه الدرجة أو تلك، والاستجابة الإرادية للتحقيق سلباً أو إيجاباً والاستعداد للاعتراف أولاً وأخيراً.
أما التنويم المغناطيسي فهو بالاضافة إلى أنه يشبه غيره في الحاجة للتعاون إلا أنه يحتاج إلى درجة كبرى من التعاون الراضي، أو إلى درجة كبرى من الخضوع، خضوع المنوم للمنوم، وأثناء التنويم تختلف الاستجابة من استجابة واعية في الأساليب الأخرى إلى استجابة غير ارادية.
كيف يحدث التنويم؟
قطعاً لسنا هنا بصدد شرح المسألة من زاوية علمية بحتة، إنما بالقدر الذي يمكن أن يعني أي إنسان فيما لو تعرض لعملية التنويم المغناطيسي.
من الممكن أن يلاحظ المرء في حياته بعض السلوكيات المثيرة، فإذا ما جلس واحد في قبالة سعدان ولفــت انتباهه بصورة جيدة ثم أخذ في التثاؤب مرات متلاحقة، فإن السعدان أيضاً يأخذ في التثاؤب وقد ينام إذا استمرت الحالة. وإذا ما جلس فرد في مجموعة وتحدث بشكل مثير يدفع الآخرين لتركيز كل انتباههم له ثم أخذ في التثاؤب، والتصرف كما لو أنه أخذ ينعس شيئاً فشيئاً فإن الجميع يحذون حذوه، بينما الشخص الذي كان يجلس مع نفس المجموعة مشغولاً عنها فإنه سيلتفت بعد قليل ليجد الجميع يتثائبون دون أن يدري ما السبب فهو لم ينخرط في الجو الخاص الذي نشأ وبالتالي لم يتأثر به.
في التنويم المغناطيسي يحتاج الأمر إلى خبرة عالية وتدريب على التنويم، والمدرب أو الخبير ذو صلة مباشرة بالتحقيق وفي الأحوال العادية التي يرغب فيها شخص بأن ينوَّم يطلب منه المنوِّم أن يجلس بطريقة ملائمة وفي حالة استرخاء تام، وأن يحصر تفكيره بشكل جيد في الحالة المطلوبة، ثم يبدأ الخبير عمله فيركز بصر الشخص في اتجاه معين ويحرك يده أو إصبعه أمام عينيه مع التلفظ بعبارات معينة وتسليط النظر في عيني الشخص.. وهكذا. وقد يحتاج الأمر إلى احتوائه بطريقة معينة حتى يحصل على التركيز والتهيئة اللازمة.
خلال العملية تجري السيطرة شيئاً فشيئاً على القسم الواعي من نشاط الدماغ وإضعاف فعاليته إلى الحد الذي يمكن الخبير من السيطرة على الشخص المنوم. وفي حالة وجود مقاومة يلجأ الخبير إلى استعمال كلمات مؤثرة في الشخص ليركز تفكيره في مسألة محددة يرغب بها الخبير ومن ثم يمارس عمله.
على أية حال، فإن الحالات التي يتم فيها التنويم فعلاً أقل بكثير من الحالات التي تفشل. وإذا ما مارس الخبير نشاطه دون أن يشعر الشخص المرغوب تنويمه بهدف هذا النشاط (إذا كان لا يثق بتعاونه)، فإنه لا يحدث تنويم فالتنويم عبارة عن حالة استرخاء عميق لا أكثر. وليست قليلة الحالات التي يعتقد فيها الخبير أنه نجح في التنويم ويتصرف على هذا الأساس بينما الشخص المقابل يكون في وضعه العادي ، وليس في المسألة أي سحر وإنما تكمن أهميتها في المناخ العام الذي يخلق حول الشخص أو المعتقل قيد التحقيق لخلق حالة من التوتر والخوف من أشياء يفترض أن يراها هائلة وجبروتية مما يجعله أكثر استعداداً للإدلاء بالاعترافات.
وتجدر الإشارة إلى أنه خلافا لكيفية تصوير التنويم المغناطيسي أحيانا على شاشات التلفزيون، فإن الشخص لا يفقد السيطرة على سلوكه وهو تحت التنويم المغناطيسي. كما أنه يبقى، بشكل عام، على علم وتذكر لما حدث وهو تحت تأثير التنويم المغناطيسي.
يتناول هذا الأسلوب التأثير في الجانب العصبي من الانسان وهو بالتالي من الأساليب العصبية، لكن الغاية النهائية من التأثيرات العصبية المرجوة هي التأثير على الحالة النفسية للمعتقل لخلق ما يفترض أنه استعداد للتعاون مع المحقق. وهو بالتالي يتطلب إضعاف النشاط العصبي للنهايات العصبية في القشرة الدماغية والإبقاء بشكل مركّز على النشاط البصري مما يمكن الخبير من السيطرة على الشخص المرغوب تنويمه وإخضاعه للعملية في حال تعاونه.
قلنا أن عملية التنويم تتطلب استجابة تامة أو خضوعاً تاماً لرغبات خبير التنويم، فإذا طلب أن يركز البصر على جهةٍ فعل، وإن طلب أن لا يفكر بشيء فعل، وأن يتحرك بهذه الصورة أو يردد عبارة معينة فعل. ولكن إذا رفض، وإذا تصرّف بصورة أخرى وصرف تفكيره عما يطلبه المحقق، وإذا طلب منه أن يفكر في شيء وفكر في شيء آخر وإذا كرر على سمعه عبارات معينة تجاهلها.. وغير ذلك من ردود الفعل المقصودة مما يجعل التنويم غير فعّال.
إذا ما صادف ونجحت عملية التنويم فهي لن تعطي شيئاً، إن أكثر ما يمكن عمله كما ذكرنا هو نوع من التعبئة للمنَّوم ليدلي بالاعترافات بعد الصحو لأنه أثنـاء التنويم
وهكذا لو كانت عملية التنويم مجدية لاستعملت، وعلى نطاق واسع، لكنها غير مجدية أساساً ومن المناسب أن يعرف المرء دواخلها مع ذلك.
كغيره من الأساليب، من السهل إفشاله والمحافظة بالتالي على أكبر قدر من التماسك والصلابة والصمود.
لم يكن القصد من هذا العرض الإحاطه الكاملة بكل أساليب التحقيق النفسي وأشكال التعذيب، وإنما تقديم أعمق صورة ممكنة من التجربة الفلسطينية الحية. فكل الأساليب المذكورة جرى استخدامها باستثناء التنويم المغناطيسي، ووقف المعتقلين أمام هذه الأساليب كل المواقف الممكنة التي يطرحها الواقع؛ فبعضهم اكتفى بالاعتراف بانتمائه ولكن بصورة غير صحيحة ولا تشير إلى ما جرى فعلاً، بل ربط نفسه بشخص خارج البلاد أو بشخص لا يستطيع التعرف عليه، وبعضهم اكتفى بأنه شاهد شيئاً ما بمحض الصدفة، وآخرون اكتفوا فقط بالاعتراف بأنهم كانوا موجودين في المكان المعين وأخفوا بقية الحقائق، ولم يقدموا أي تفاصيل تفيد العدو، وبعضهم اعترف بانتمائه كما حصل وأخفى كل الأنشطة، وبعضهم ظن أن من المناسب له الاعتراف بما يعرفه المحقق والإدلاء بمعلومات عنه بطريقة من الطرق صيانة لما هو مخفي، وبعضهم فضل أن يقدم للعدو إدانة عن نفسه تكفي لمحاكمته والحكم عليه بمدة معقولة ظناً منه أن هذا أفضل من الاعتقال الإداري الذي لا فترة زمنية محددة له. وبعضهم اعترف بكل ما سئل عنه وأخفى تفاصيل أخرى، وبعضهم اعترف بما سئل عنه وتبرع بنفسه بكل ما يعرف بعضهم دون أن يسأله (إثباتا لحسن النية الرخيصة)، أما البعض الآخر فقد أطبق فمه عن كل ما يتعلق بالقضية وصمد حتى النهاية.
بعض المعتقلين أدلى بكل ما لديه من أول جولة وبعضهم بعد عدة جولات من التحقيق، والبعض الآخر ظـل صامداً حتى النهاية.
بعض المعتقلين استرد نفسه بعد التحقيق وظل على تصميمه الوطني، وهم الغالبية الساحقة من المعتقلين، وبعضهم الآخر تسلل اليأس والخذلان والندم إلى نفسه جزئياً أو كلياً.
إلا أنه، وفي جميع الأحوال، يلاحظ تصاعدٌ ملموسٌ في خط الصمود، فبقدر ما اكتسبت أجهزة التحقيق خبرة ودراية وازدادت شراسة وهمجية، في المقابل اكتسب مناضلو الحركة الوطنية خبرة ودراية ووعيا وتصميما على الاستمرار في الكفاح وبصلابة لدرجة أن مجموعات بكاملها تعتقل تحت ظروف معينة، وينتهي التحقيق معهم دون أن يفشوا أسرار المنظمات والأحزاب التي ينتمون لها ويواجهون وضعهم في التحقيق بصبر وصلابة.
لقد ارتبطت مسيرة الصمود والصلابة في التحقيق بمسيرة الحركة الوطنية ذاتها، ففي غياب التوعية الجماهيرية السياسية وغير السياسية كان المعتقلون يواجهون التحقيق كمفاجأة لهم، غير أن المسألة اختلفت عندما أخذ دور الحركة الوطنية يبرز أكثر فأكثر في مجال التوعية والتثقيف، مع النهوض الوطني الواسع الذي أخذت تترسخ جذوره منذ عام 1976م.
ما دام العدو عنصريا فاشيا فإنه يعتبر كل نشاط سياسي تقوم به الجماهير الفلسطينية خطرا ومحرَّما، مهما كانت أوجه الرد التي يستعملها ضد هذا النشاط، والتي تتوج على المستوى الجماعي بالقمع بأشكاله المختلفة وعلى المستوى الفردي بالاعتقال والتنكيل.
وما دام العدو فاشيا فإنه لا يعدم الأساليب المتزايدة قذارة في أقبية التحقيق، تلك الأساليب المصحوبة دوما بالتعذيب النفسي والجسدي المتمثل بالضرب المبرح والتجويع والشبح والتعليق والصدمات الكهربائية والوضع في الزنازين الضيقة المظلمة وتعصيب العينين لمدة طويلة، وإحكام القيود في الأيدي والأرجل واستعمال الكلاب الشرسة وتحطيم الأسنان والأظافر وكسر الأيدي والأرجل وشبح الرأس...إلخ.
وإلى جانب التعذيب النفسي هناك الأساليب العصبية التي تستخدم بالمرافقة مع الأساليب النفسية وقد أشرنا في ما سبق إلى الأساليب النفسية والآن سنتعرض للأساليب العصبية.
● ● ●