الثورة العربية وسحر الأنظمة الملكية
١٥ يونيو ٢٠١١، الساعة ٦:٤١ صالثورة العربية
وسحر الأنظمة الملكية
بقلم د. حاكم المطيري
ذكرت في المقال السابق (الثورة العربية والشعار المبارك) الأسباب الظاهرة للنصر الذي تحقق للشعوب العربية التي رفعت شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، بخلاف من رفعوا شعار (الشعب يريد إصلاح النظام)، حيث لم يتحقق لهم حتى الحد الأدنى مما أرادوا، بل لم تزدد حكوماتهم إلا طغيانا وظلما!
وسأحاول في هذا المقال بيان الأسباب غير الظاهرة التي تحول دون رفع هذا الشعار المبارك في كثير من الدول العربية التي شهدت ثورة أو إرهاصات ثورة، وأكثرها دول ملكية وراثية وهي دول الخليج العربي والأردن والمغرب، مع أنها كلها تقريبا شهدت حركات احتجاج شعبي إلا إنه لم ينتظم فيها عامة الشعب، ولم ترفع شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، مع أن الظلم والفساد، والفقر والاستبداد، والطغيان وانتهاك حقوق الإنسان، أشد في بعضها من الدول التي نجحت فيها الثورة!
بل إن أشد المعارضين في الأنظمة الوراثية لا يستطيع أن يتصور إمكانية وجود الدولة دون وجود الملك وأسرته! ولا يتصور إمكانية التغيير والإصلاح دون إرادتهم السامية!
ويصل الأمر لدى الشعوب في الملكيات والأنظمة الوراثية حد الخوف غير الطبيعي من زوال الملك والنظام الوراثي، فهو بالنسبة لهم محور وحدتهم وأمنهم، وسبب استقرار أوضاعهم، فهم يعيشون في ظل ملكهم أو أميرهم آمنين مهما كان طاغيا، وادعين مهما كان مفزعا، ومن دونهم تضطرب الحياة، وتدب الفوضى في المجتمع!
أي أنهم يؤلهونهم من حيث لا يشعرون، ويتعلقون بهم تعلق العبيد بأربابهم من حيث لا يعون، ويتخذونهم أندادا يرهبونهم ويرغبونهم ويخشونهم ويتزلفون إليهم، ويصرفون لهم كل معاني العبودية من حيث لا يتصورون أن هذا هو الشرك الذي ندد القرآن به، وهذه هي الوثنية البشرية التي حاربها الإسلام، كما قال تعالى {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}!
وكما في الحديث الصحيح (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)!
وقد دار حديث بيني وبين كثير من المعارضين في الملكيات والأنظمة الوراثية، الذين تعرض بعضهم لكل صور التعذيب والسجن والإذلال، فكان بعضهم يدافع عن الأنظمة الملكية ويرفض تغييرها ويعتذر لها عن كل جرائمها، وطائفة أخرى لا يجرؤون على التفكير فضلا عن الدعوة لأسقاطها مع تمنيهم حدوث ذلك!
هذا في الوقت الذي لو دخلوا على اليوتيوب وعرضوا رابط (أشجع فتاة مصرية) لوجدوها تهتف في بداية الثورة المصرية، وأمام مبنى أمن الدولة المصري، بما لا يستطع أشجع المعارضين في الأنظمة الملكية الهمس به بين أصحابه وفي داره!
وقد شاهد العالم كيف تخرج التظاهرات في بعض دول الخليج، ويقوم المعارضون لا بالتنديد بالنظام وكشف فساده، بل بتمجيده والتسبيح بحمده، والدعاء لرأس النظام، والاقتصار فقط على نقد الحكومة ووزرائها!
وهي حالة نفسية لا يمكن فهمها إلا بدراسة طبيعة الأنظمة الوراثية وكيف يتشكل فيها وعي الإنسان تجاه الملك أو الأمير على نحو ديني يقوم على الخوف والإجلال لهذا الإله البشري، مهما كان هذا الإنسان ماديا ليبراليا، فضلا عن عامي أمي، دع عنك المتدينين على اختلاف تياراتهم!
ومن أوضح الأدلة على أن الملكية الوراثية أشد أنواع الأنظمة السياسية انحرافا واستبدادا، هو أنها كانت غاية طموح الرؤساء الطغاة المستبدين في الجمهوريات!
فقد كانت أقصى أماني حسني مبارك مع طغيانه واستبداده هو توريث الحكم لولده السفيه جمال، وكانت أقصى أماني القذافي توريث ابنه المجرم سيف الإسلام، وكانت أقصى أماني صالح توريث الحكم لولده من بعده، وكان ذلك ما تحقق للأسد حين ورث الحكم ابنه بشار!
فما يعد أقصى أماني الرؤساء الطغاة في الجمهوريات، هو أبسط الحقوق للملوك في الملكيات والأنظمة الوراثية!
وقد سبق أن كتبت مقالا بعنوان (الثورة العربية بين الأنظمة الجمهورية والملكية) تحدثت فيه عن حالة الهزيمة النفسية والخور لدى أفراد الشعب في ظل الملكيات، وسأحاول في هذا المقال كشف ما تمارسه الأنظمة الملكية من سحر ديني وإعلامي وثقافي تدجن من خلاله الشعوب لخدمتها وعبادتها والخضوع لها مع ضعفها وتخلفها!
فما هو هذا السحر في الأنظمة الوراثية حتى تنقاد لها الشعوب هكذا كقطيع من الأغنام على نحو وادع مهما سفك الطغاة من دمائها، وانتهكوا من أعراضها، وصادروا من حرياتها وحقوقها، ومهما نهبوا من ثرواتها!
وقد رأينا كيف مات ملوك وأمراء بلغت تركاتهم لورثتهم عشرات المليارات من ثروات شعوبهم وقوتهم، ومع ذلك بقي لهم في نفوس كثير من شعوبهم التي أفقروها وأذلوها كل حب وإجلال وتأليه!
إن السر وراء ذلك هو في قيام الأنظمة الملكية والوراثية في أصل نشأتها الفرعوني على أساس التأله البشري باسم الملك، وارتكازه على ثلاثة أركان (الخرافة والسحر والدين)، حيث تتشكل في ظلها ثقافة دينية وحالة نفسية، تجعل من الشعوب عبيدا في صورة مواطنين، وتجعل من الملوك آلهة وأربابا، في صورة بشر متميزين، مصوني الذات، مستحقي الثناء والمجد والمدح، فلا يتصور والحال هذه أن يكونوا مصدر الشر والظلم، بل يقع الظلم دون أذنهم ودون معرفتهم، وكل ما تحتاجه شعوبهم هو أن تتضرع إليهم أن يرفعوا عنها الظلم والضيم والضر، ويدفعوا عنها الفقر والشر، لينعم شعبهم بالأمان والعدل تحت ظل عروشهم، حيث لا ظل إلا ظلهم!
إنها الركائز الثلاث (الخرافة والسحر والدين) التي قامت عليها الملكيات المستبدة وما تزال!
فالخرافة حيث يغيّب العقل والمنطق، فلا تدرك العقول قبح ما هي فيه من عبودية وذل لبشر ضعيف ليس له من القوة إلا ما منحته الشعوب، ولا من السلطة إلا ما تنازلت عنها له!
والسحر بكل أنواعه وأشكاله ووسائله من الشعر والخطابة والدعاية والإعلام حيث تغيّب الحواس عن إدراك حقائق الأشياء، فلا ترى قبح صورة الطاغية، وقبح أفعاله، وقبح مآله، ولا ترى فيه إلا الخير والعدل لولا بطانته التي هي سبب الظلم والفساد!
والدين حيث تستسلم الإرادة بشكل مطلق للسمع والطاعة لغير من يستحقها، بل لمن يحرم طاعته، ويجب مقاومته!
ثم الترهيب بالسجن والتعذيب، والترغيب بالمال والجاه والزينة، فهذا كل ما يحتاجه الطاغية والإله البشري لتتحقق له السيطرة والعلو في الأرض!
إن هذه الحقيقة السياسية الاجتماعية تكاد تغيب عن الأنظار في المجتمعات العربية والإسلامية لشدة تماهيها في المخيال الشعبي مع دين الإسلام المبدل والثقافة العامة الممسوخة، مع أن القرآن جاء لهدم هذه الظاهرة الوثنية، التي كانت من أقدم وأخطر أسباب انحراف المجتمعات البشرية، إلا إنه وكما قال عمر الفاروق رضي الله عنه (تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا ولدت في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)!
فعلينا معرفة تلك الجاهلية العالمية قبل الإسلام، ومنها جاهلية الملكية الفرعونية، وسننها ووسائلها التي أخضعت الشعوب لسطوتها، وهذه بعض ملامح هذه الوثنية البشرية كما أثبتتها الدراسات العلمية للحضارة المصرية الفرعونية، والآشورية والبابلية العراقية، وهي أقدم الملكيات التي عرفتها البشرية، وعنها توارثت الملكيات سننها الجاهلية الوثنية، وكما جاء في كتاب التاريخ العام للحضارة (1/219) (لا تعتبر السلطة الملكية المطلقة التي تقررها إرادة الإله تجديدا في الشرق، وتعد هذه النظرية جزءا من مفهوم النظام الملكي المصري)، وهذا يؤكده ما جاء في القرآن الكريم من أخبار عن انحراف تلك المجتمعات على أيدي ملوكها وطغاتها، كما قال تعالى لموسى {اذهب إلى فرعون إنه طغى}، وهذا هو السبب في قص القرآن خبر فرعون مصر، وخبر نمرود العراق، حيث قال الأول لنبي الله موسى ولقومه {أنا ربكم الأعلى}، وقال الثاني لنبي الله إبراهيم وهو يحاججه{قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت}! وبين القرآن كيف تتشكل نفسية الإنسان في ظل طغيانهم، وكيف يستخف الطاغية بالشعب، فيتبعون أمره على غير هدى، ودون تردد ودون اعتراض {فاستخف قومه فأطاعوه}، {فاتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد}!
هذا ومن أبرز أسس الملكية الوراثية الفرعونية في كل عصر ومصر وأشد مفاهيمها خطرا على الإنسان والمجتمع كما أكدته الدراسات العلمية الاعتقاد بأن :
1- الوطن والأرض والشعب ملك خاص للملك وأسرته، لا بدعوى الملك فقط، بل باعتراف الشعب له بهذا الاستحقاق، سواء بلسان الحال أو المقال، فهم لا ينازعونه ولا يرضون أحدا ينازعه في ملكه، لاعتقادهم بأنه صاحب الأرض وهو سيدهم، وهو أحق بها وبهم منهم أنفسهم!
وأول ملكية عرفتها المجتمعات البشرية هي الفرعونية في مصر، ولهذا تحدث القرآن عنها بكل تفصيل لأنها أول من سن الربوبية البشرية، كما جاء في كتاب (التاريخ العام للحضارة) (1/55) : (كانت مصر إذ ذاك ملكا خاصا لسيدها وربها الفرعون، يستثمرها، كما يستثمر عقارا خاصا به.. كإله أو ابن إله، فالفرعون رب أرض مصر، وسيد من عليها، فلم نر أي تمييز ولو فكريا بين تملك خاص، أو تملك تابع للتاج، وبين دولة قائمة بذاتها، كل شيء في مصر الفرعونية يتوقف على الملك وعلى الملك وحده، وهذه هي القاعدة الذهبية الذي قام عليها تاريخ مصر قديما).
وهذا معنى قوله تعالى عن فرعون ودعواه حين قال لقومه {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون}!
وهذا هو واقع كل الملكيات اليوم، فهناك ثقافة تتشكل بالخطاب الإعلامي والديني والثقافي توحي بهذا الاستحقاق المزعوم، تارة بشكل صريح، وترة بالتلويح، بأن الأرض والوطن للملك، ولهذا يقرن الملك بالله والوطن في الشعارات والنشيد الوطني (الله الوطن الملك)!
2- والملك هو السيد والمرجع الأعلى وهو فوق الجميع، وذاته مصونة عن النقد، وهو فوق المساءلة فضلا عن الحساب والعقاب، وإليه يرفع الشعب استرحامه وتضرعاته، ففي المصدر السابق (1/59) (الملك ليس رب البلاد ومالكها الأعلى فحسب، بل السيد المطلق الفعلي للأرض وما عليها)!
وفي (1/54) عن الفرعون (فالملك في مصر هو المرجع الأعلى وإليه وحده يرفع طلب الاسترحام)، وهو ما جاء في قوله تعالى عن فرعون ودعواه حين قال {أنا ربكم الأعلى}، وهذا هو الطغيان الذي نعاه الله عليه حين أرسل إليه موسى {اذهب إلى فرعون إنه طغى}!
وهي الدعوى ذاتها التي ينتحلها الملوك والأمراء اليوم، فهم المرجع الأعلى، وهم فوق السلطات كلها، ومنهم تستمد السلطات الثلاث شرعيتها، وباسمهم تصدر الأحكام، وباسمهم تنفذ، وباسمهم يوقف تنفيذها، وباسم يتم تعطيلها.. الخ
فهم آلهة وأرباب بشرية بحكم الواقع حتى وإن تظاهروا بغير ذلك مكرا لا تواضعا، وحتى إن نفى عنهم عبيدهم ذلك جهلا بحقيقة الربوبية والوثنية التي يمارسونها واقعيا!
3- ومشيئة الملوك نافذة، وسلطتهم لا حدود لها، فما يأمرون به يكون دينا وفرضا يجب طاعته والالتزام به وتطبيقه طوعا أو كرها، كما جاء في تاريخ الحضارة عن ملوك مصر وفرعونها (1/52) (فسلطته لا حدود لها، وليس لإرادته من رادع ولا حسيب.. فمشيئة الملك وإرادته هي القانون، ولها ما للعقيدة الدينية من قوة وشكيمة) وكما جاء في المخطوطات والأثريات المصرية (فكل ما يتفوه به صاحب الجلالة يجب أن يتم وأن يتحقق بالحال.. فهو يعمل ما يجب ولا يفعل قط ما يكره، وأقواله لها من الحتمية بحيث لا يسع المصري إلا التسليم والخضوع لأوامره مهما بدت له قاسية لا تحتمل، أو بغيضة لا تطاق)!
وهو ما أخبر به القرآن عن فرعون حين خاطب قومه {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}! وقوله للسحرة حين آمنوا {أآمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر. فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى..} وقال لموسى {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}!
فهو لا يحتمل أن يخالف أحد أمره، أو يرد عليه قوله، بل يجب على الجميع الخضوع له، وإلا فالجزاء عنده القطع والصلب والسجن والقتل!
وهذا هو حال الأنظمة الملكية والوراثية فإنها تتأله وتطغى وتخضع الشعوب للرب الأعلى، الذي يحتمل كل شيء، بما في ذلك نقد وزرائه والتظلم من ممارساتهم، إلا أنه لا يحتمل أن يتعرض له أحد، فهو شيء آخر، وله من القدسية ما يجعل الأبصار تخشع له، والأصوات تخفت عنده، والقلوب تخشى سطوته، مهما فعل من الجرائم فإنه لا يُسأل عما يفعل والجميع يُسألون!
وحتى الطاعة له لا مثنوية فيها ولا منازعة، ولهذا جاء القرآن ليهدم كل صور الألوهية البشرية هذه، وليقرر أن الله وحده هو {لا يسئل عما يفعل وهم يسألون}، وليقرر أنه {لا إكراه في الدين}، والدين هو الطاعة والعبادة، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بايع أصحابه على السمع والطاعة قال (فيما استطعتم) ويقول (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، ويقول (إنما الطاعة بالمعروف)، مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يأمرهم إلا بالحق والعدل والمعروف، إلا أن هذا كله منوط بقدرتهم واستطاعتهم، وهو ما لا يرضى به الملوك، فطاعتهم مطلقة!
4- والملوك والأمراء هم مصدر الأمن والاستقرار، وفي فقدهم يضطرب الأمن وتضيع الدولة، ويعش الشعب في فوضى واقتتال، فهذا التصور الخرافي يُلقى في روع الشعب حتى يصبح عقيدة راسخة مهما كان الملك فاسدا، ومهما كان وجوده عائقا للإصلاح، ومدعاة للاضطراب! ولهذا خاطب الحكيم المصري إيبور فرعون مصر - كما في المصدر السابق (1/52) - حين اضطربت أحوال مصر بقوله (إن ما تشهده البلاد بعض نتائج الاضطراب الذي زرعته يداك في طول البلاد وعرضها، ولذا ترى الناس يلجؤون إلى العنف بعضهم ضد البعض الآخر، إن الشعب يتمثل أمرك)! (فالدعوة للثورة على الملك لم ترتد يوما رداء العقيدة، فسلطة الملك حتى لو أصبحت مدعاة للضر والأذى تحافظ على طابعها الإلهي)!
فمع أن مصر عاشت حالة من الفوضى والحرب الأهلية بسبب فساد الحكم، وضعف الملك نفسه، وهو سبب حدوث الاضطراب، إلا أن الشعب لا يقاتل الملك، ولا يثور عليه، بل يقاتل بعضه بعضا، وفي الوقت نفسه يطيع الجميع الملك!
وحتى الذين يثورون على الملك لا يرتدون رداء العقيدة الدينية، لأن الدين قرين الملك، ولا يمكن الثورة على الدين الملكي باسم الدين، فالملك إله بشري، والدين هو طاعته، ومن يخرج عليه يخرج عن الدين!
وقد أخبر القرآن عن هذه الظاهرة الفرعونية كما في قوله تعالى {وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}!
ففرعون يخشى على دين شعبه أن يتبدل بخروجهم عن طاعته، ويخاف عليهم من فساد الأحول واضطراب الأمور!
فالملك هو صمام الأمن، وسبب الاستقرار، وجامع الوحدة الوطنية، بحيث لو ذهب لتقاتل الشعب فيما بينهم، وفسد حالهم!
5- والملك والأمير هو محور وحدة الدولة والشعب، وهو موحد الوطن، وتاريخ الدولة والشعب يبدأ ببداية حكم الملك وأسرته، كما جاء في المصدر السابق (1/44) (الملك محور الوحدة وخالقها .. يعزو المصريون إلى ملكهم الأول تنظيم البلاد على أساس توحيدها، فالملكية في نظرهم بدء تاريخ الإنسان في البلاد، وقد جعلوا من نقطة الانطلاق هذه حدثا إلهيا دبرته الآلهة وهيأت له الأسباب)!
وهذا حال كل الملوك والأنظمة الوراثية، فالدولة وتاريخها يبدأ ببداية حكم الأسرة الحاكمة، وأول ملوكها هو مصدر وحدة الدولة، وهو موحدها ومؤسسها! وما جرى على يديه هو باصطفاء من الله وتوفيق منه!
فكما أن الوجود مصدره الله الخالق الواحد الأول، فالدولة والمملكة مصدرها الأسرة الحاكمة، فوجودها مرتبط بوجود الملك، فهو البداية والأول والموجد!
6- وفي الملكيات تتجلى روح الخضوع المطلق للشعب أمام الملك بكل جلال وخشية ورهبة، كالعبد أمام سيده، والعابد بين يدي ربه وإلهه، فهناك تتماهى الطاعة له كأب للشعب تارة، وكإله تارة أخرى، وكرئيس تارة ثالثة، فتختلط مشاعر الحب والخشية والرهبة، وتتشكل حالة نفسية تطبع الشعب كله بطابع العبودية للملك والأمير ذلك الرب والإله البشري، وكما جاء في المصدر السابق (1/55) (الرعب والقلق والاضطراب العام يشل أسباب الحياة .. وهذا ما يفسر روح الخضوع والامتثال التي ميزت الشعب المصري، فالفكرة الدينية مهما بلغ من قوتها وشدة تأثيرها، لم تكن تستطيع وحدها أن تضفي على النفس المصرية مثل هذه المشاعر والأحاسيس، وهي مشاعر وأحاسيس كثيرا ما اتخذ منها الفراعنة يدا لكبت النوازع الأمارة بالسوء)!
فسطوة هذه المشاعر والأحاسيس التي تتشكل في ظل العبودية للملوك، أشد تأثيرا من سطوة الدين على نفوس الشعوب! ولهذا قد يعصي الشعب ربه الخالق، ولا يعصي ربه الحاكم!
وهذا معنى قوله تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}، وقوله {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله} قال ابن جرير الطبري عن السدي (قال الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله)!
7- المال للملك وحده يهب منه ما يشاء ويمنع من يشاء، ويتصرف في الثروة كما يتصرف في السلطة بشكل مطلق، فهو السيد الأعلى للدولة والشعب وإرادته نافذة في الجميع، وإذا كان له الحق في التصرف في السلطة فمن باب أولى تصرفه في الثروة، كما جاء في المصدر السابق (1/107) (الملك إله متسلط على الحياة والدين وهو الملك الذي يملك كل شيء، ويهب على هواه) وفي (1/132) (فوفرت - الفرعونية - لملوك كثيرين مثلا أعلى للعقيدة الملكية، التي تبرر سلطتهم المطلقة، ولتنظيم الإدارة التي توجه الثروة نحو الحكومة المركزية)!
وهذا أبرز ملامح الملكيات والأنظمة الوراثية منذ وجودها خاصة العربية في هذا العصر، فالملوك يتصرفون في المال العام بناء على هذه (العقيدة الملكية الفرعونية)، فلا حسيب ولا رقيب على تصرفهم في الثروة والمال العام، فما يمنحونه للشعوب هو مكرمة ملكية وأميرية، من صاحب الفضل والنعمة، ربهم الذي ينعم على عبيده بما يشاء!
8- وللملك والأمير حق التوريث للسلطة كما يورث ماله الخاص، فالملوك والأمراء في الأنظمة الوراثية يورثون الحكم على أساس أن الوطن والشعب ملك خاص يورثه الأب للابن، وقد يشركه بالأمر في حياته، وهي أبرز مظاهر الفرعونية، كما جاء في التاريخ العام للحضارة (1/48) (فالابن البكر يخلف أباه الملك، ويعمد الملك أحيانا إلى تأمين خليفته بنفسه، فيختاره أو يشركه بأعباء الحكم وهو في قيد الحياة، فيحكم كوصي مشارك)!
فالأنظمة الملكية التي تقوم على قهر الشعب، لا تصل إلى هذه الحالة من القدرة على التوريث إلا بعد تدجين الشعوب، واستلابها إرادتها وحريتها وكرامتها، وبعد تشكل حالة عامة من الخضوع الطوعي، وفقدان الإنسان فيها لإنسانية، ليصبح متاعا ينتقل من ملك الأب للابن!
ثم يبلغ الانحطاط بالشعب والإنسان في ظل الأنظمة الوراثية أن يفقد كرامته وإنسانيته وحريته حتى لا يشعر أصلا بأن في ذلك مشكلة حين تنقل ملكيته كإنسان وكشعب من الأب إلى ابنه الوريث، فهناك دستور ونظام أساسي ينظم عملية انتقال الملكية بشكل طوعي، بل وبكل سرور وبهجة، يستقبل الشعب مهمة نقل الملكية كقطيع أغنام من الملك أو الأمير إلى ولي عهده ووريث شعبه من بعده!
9- وإرادة الملك سامية لا تهدف إلا لتحقيق السعادة لشعبه، ولا يمكن أن تكون أوامره اعتباطية، فهو بشر في الصورة، إله في الحقيقة، لا يصدر عنه إلا الخير، كما جاء في وصف الفرعون (1/52) (كان الأساس لدى الجميع أن الإرادة الملكية، لا يمكن أن تهدف إلا لسعادة مصر، كذلك من الأمور البدهية عند المصري أن إرادة الملك وقضاءه أحكام لا يمكن أن تأتي اعتباطية، فالأحكام التي تصدر عنه حق وعدل)!
وهذا ما تدعيه الأنظمة العربية الوراثية، فالإعلام فيها يعبر عن هذه الظاهرة أوضح تعبير، فالملك أو الأمير هو صاحب الجلالة والعظمة الذي إرادته سامية كريمة، وأوامره حكيمة، وظهوره للناس مكرمة عليهم... الخ
كما أخبر القرآن عن دعوى فرعون حين خاطب قومه {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}!
ففرعون يزعم بأن كل ما يصدر عنه هو رشد وحكمة وعدل وحق، فهو معصوم عن الخطأ والظلم والسفه، بما له من حظ في الألوهية والربوبية!
قال ابن جرير الطبري (قال فرعون : ما أريكم أيها الناس من الرأي والنصيحة إلا ما أرى لنفسي ولكم صلاحا وصوابا, وما أهديكم إلا سبيل الرشاد، يقول: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصواب).
10- والملك وأسرته فوق القانون وفوق عامة الشعب، وهذه الفوقية في الأنظمة الوراثية قائمة على أساس من الشعور الزائف بألوهية بشرية، تجعل لهم من الخصوصية والاستحقاق المزعوم ما ليس لغيرهم، كما كان عليه حال الفرعونية (1/46) (الملك في مصر منذ بدء الملكية فيها إله، للتدليل على سلطته المطلقة، وتساميه فوق العامة، ليس بصورة رمزية أو مجازية، بل عكس ذلك تماما فالنص الحرفي ينم عن هذه العقيدة)!
ولا يحتاج الواقع المعاصر للأنظمة الملكية والوراثية العربية إلى كبير عناء لأثبات هذه الحالة الفرعونية في ممارساتها الواقعية، فالملوك والأمراء وأسرهم وحاشيتهم فوق القانون، ولهم من الخصوصية والامتيازات والمعاشات ما ليس لعامة الشعب، بناء على هذه العقيدة الملكية الفرعونية، ويعزز هذه الحالة ثقافة شعبية ودينية ترى مشروعية هذه الممارسات، وتبررها وتدافع عنها وباسم الإسلام والسنة!
11- والملك هو معبود الجماهير وملهمهم، ومصدر عزتهم ومجدهم، يقبلون يده، ويخشعون بحضرته، ويسبح بحمده الشعراء، ويمجده الخطباء، وتهتف باسمه العامة، ويخرج بموكبه وزينته ليقفوا له، وتصرف له كل صور الإجلال كإله بشري، وهي أبرز ملامح الحكم الفرعوني كما جاء في المصدر السابق (1/48) (فحياته على مر الأيام حياة إله، وابن إله، وهو موضوع عبادة الجميع وتكريمهم، فالكل يعفر جبينه أمامه، ويتشرف أسعدهم حظا بتقبيل قدميه، وحركاته وسكناته تجري وفقا لمراسم معينة، فلا يظهر للناس إلا برداء خاص، مرصع بالأحجار الكريمة ..)، وفي (1/107) (الفرعون إله على الأرض له كهنته وعبادته اليومية، وأناشيده الخاصة، وله أعياده أعياد الجلوس على العرش، والأعياد التذكارية، والمواكب)!
وهو ما أخبر به القرآن عن فرعون كما قال تعالى في شأنه {فخرج على قومه بزينته}، {قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى}!
وهذه الفرعونية لم تنته بزوال الحكم الفرعوني في مصر بل انتقلت إلى كل النظم الوراثية التي أعقبتها في كل مكان، كما حدث في فارس (1/291) (بعد داريوس نظمت مبادئ دقيقة جدا جميع أعمال الملك، ولم يشاهده الخاضعون لحكمه إلا في أيام الاحتفالات حيث يخضع الجميع أمامه عندما يطل على عرش العظمة، أو عربة الأبهة)!
ويشاهد العالم كله ومن خلال وسائل الإعلام في الأنظمة العربية الوراثية كيف يقف رجال الدولة وقادة الجيش وعامة الشعب طوابير ليتشرفوا بمصافحة الملك أو الأمير، وتقبيل يده وكتفه، والانحناء أمامه، على نحو وثني لا يقع مثله حتى في الدول الوثنية!
12- والحكومة ومؤسسات الدولة وإداراتها السياسية والإدارية والمالية والعسكرية في النظم الملكية والوراثية هي لخدمة الملك، ولتنفيذ إرادته وطاعته، وكل ما يصدر عن مؤسسات الدولة يصدر باسم سموه، كما كان شأن الدولة المصرية في الحقبة الفرعونية (1/220) (يجري كل شيء باسم الملك، وتتخذ القوانين الملكية العمومية شكل تصريحات شفوية)!
وفي (1/ 434) (إن الملوك بقبولهم تعظيم هؤلاء الهاتفين أو بلجوئهم إليهم، قد استهدفوا إعلاء شأن نفوذهم الشخصي، وإثبات تعلق مؤمنيهم بهم، وألفت الملكية بين نظرية الإنسان المتفوق، وبين النظرية القانونية الشرعية أي نظرية الحق السلالي في التملك، وتكون هذه النظرية قاعدة متينة للسلطة المطلقة كحق إلهي وبشري معا من جهة، وانطلاقا من هذه السلطة تشكل جهاز إداري ومالي وعسكري كامل، توجته العبادة السلالية بغية ضمان تنفيذ قرارات الملك، وجمع القوى المادية والأدبية في أراضيه على يديه)!
13- والملك هو محل عناية الله واختياره، وهو ظل الله في الأرض، والملك والدين قرينان، فحاجة الملك للدين أساسها الاعتقاد بأن الله يتجلى بقضائه وقدره في الملوك، فبأيديهم الحياة والموت، والمنع والرزق، والإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، ولهذا يتحالف الملوك مع رجال الدين والسحرة والعرافين لتعزيز سلطتهم باسم الله وباسم عالم الأرواح والقوى الخفية، كما جاء في شأن ملوك الآشوريين في العراق (1/139) (السلطة الملكية تستند دوما إلى أساس إلهي " لقد هبط النظام الملكي من السماء " فالملوك الآشوريون الأوائل مع تسمية ذواتهم بالملوك إلا إنهم لا ينفكون عن اعتبار أنفسهم " نواب الإله آشور " ويظهر كل هذا الدور السياسي الذي يلعبه رجال الكهنوت، أو الكاهن الأعظم في شئون المملكة، وهكذا فإن النظام يحتفظ بالمظهر الثيوقراطي (الديني)، فالسلطة الملكية لا تصبح علمانية، ويفترض في الآلهة أمر تعيين صاحب السلطة ولا غرابة في التوفيق بين هذا الاصطلاح ومبدأ الوراثة إذا أن الملوك يفخرون بالأصل الملكي الذي ينتسبون إليه، ولكنهم مع ذلك لا يتناسون في الوقت نفسه عن التذكير بالانتخاب الذي وقع عليهم من قبل الآلهة، ويباشر الملك وهو على قيد الحياة بانتخاب أحد بنيه)!
14- وصور الملك وتماثيله هي تجلي لذاته المصونة على شعبه، فيجب أن تكون في كل مكان في الدولة، فتنصب تماثيله في الميادين، وتعلق صوره في الطرقات والإدارات، حتى لا ينساه أحد، وحتى يتذكر الشعب في كل مكان أن الملك والأمير معهم، يطلع على أعمالهم، ويراقب تصرفاتهم.. الخ وهي مظاهر للملكية الفرعونية التي ورثها الملوك في كل عصر، كما في المصدر السابق!
15- والملك مصدر البهجة والسرور والسعادة، فالقرب منه سعادة، والإقصاء عنه شقاء، فهو جنة الحياة ونارها، جاء في المصدر السابق (1/47) (كان على الناس أن يفرحوا ويبتهجوا، لأن أحد الأرباب أقيم رئيسا على البلاد، والحياة رغد بين لهو وضحك.. ويرافق اسم الملك إشارات ترمز للحياة والصحة والقوة، وبواسطة الملك تتجه - هذه النعم - إلى كل المملكة وسكانها...)! كما إن الملك يحب القنص والصيد وكل ما يرمز إلى القوة والبهجة ..الخ (1/49)!
وكل ما سبق ذكره من مظاهر وسمات لكل الملكيات والأنظمة الوراثية على اختلاف الشعوب التي خضعت لها، وعلى اختلاف أديانها، منذ العصر الفرعوني إلى اليوم، تكرس ظاهرة ألوهية الملك، مهما تظاهر في البشرية، ولهذا تم في الثقافة الدينية المعاصرة تصوير الألوهية التي ادعها فرعون مصر على نحو يخالف حقيقتها لقطع الصلة بينها وبين الملكيات المعاصرة، مع أن القرآن جاء وبكل وضوح لبيان هذه الألوهية البشرية التي يعيشها الملوك في كل عصر، ولهذا جعل الله من الإيمان به وتوحيده اعتقاد أنه وحده ملك الناس {رب الناس. ملك الناس. إله الناس}، وأن الملك له وحده لا شريك له {ولم يكن له شريك في الملك}، وأنه سبحانه {رب العرش العظيم}، وأنه جل جلاله {له ملك السموات والأرض}، وأن {لله جنود السموات والأرض} ..الخ وفي الحديث الصحيح (ينادي الله يوم القيامة أنا الملك! أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ لمن الملك اليوم؟)!
فالله جل جلاله لا ينازعه في الأرض في الملك والحكم والطاعة والتشريع والكبرياء والجلال إلا الملوك الطغاة، فهم أرباب العروش، وهم أرباب الجنود، وهم أدعياء الملك.. الخ
ويستخدمون لترويج ذلك وتكريسه (الخرافة والسحر والدين) افتراء على الحق، وتضليلا للخلق!
وقد تحدث القرآن عن هذه الوسائل في قصة فرعون، وكيف تمت له السيطرة على شعب مصر بالخرافة والسحر والدين!
فقد ذكر القرآن علوه في الأرض{إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم}!
وادعاءه ملك الأرض{أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون}!
وادعاءه استحقاق الطاعة استظهارا بالقدرة على السجن والتعذيب{لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين}!
وادعاءه الخوف على الدين واستحلال قتل الأبرياء بحجة حماية الدين {وقال فرعون ذروني أقتل موسى إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}!
وذكر استخدامه للسحر وتضليل الشعب بالخرافة {سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم}!
وذكر القرآن بأن الله جلال جلاله أبطل سحر فرعون، وكشف فساده في الأرض على يد موسى{قال لهم موسى إن ما جئتم به السحر إلن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين}!
وذكر إكراهه للسحرة ليمارسوا تضليل الرأي العام ليطيعوه {إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر}!
وذكر القرآن بأن فرعون كان يغوي الناس بالأموال والزينة، ويصدهم عن الحق ويفتنهم بهما، {قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك}!
وهو حال الأنظمة الملكية والوراثية في عالمنا العربي اليوم فهي تقوم بشراء الناس وشراء ولائهم بالأموال، وفتنتهم بالزينة، وسحرهم وتضليلهم برجال الدين وبالأدباء والشعراء والخطباء، وإرهابهم بالسجن والتعذيب والقتل، لينشأ بعد ذلك أجيال تستمرئ العبودية، وترفض الحرية، كما حصل لقوم موسى على يد فرعون وملئه، حين قال موسى لفرعون{وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل}، {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون}، قال ابن جرير الطبري في تفسيره (لنا عابدون) يعنون: أنهم لهم مطيعون متذللون، يأتمرون لأمرهم، ويدينون لهم، والعرب تسمي كل من دان لملك : عابدا له. ومن ذلك قيل لأهل الحيرة: العباد؛ لأنهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم)!
فلما دعاهم موسى ليحررهم من عبوديتهم لفرعون وطاعتهم له وللملأ من قومه، رفض بنو إسرائيل حتى قال شيوخهم وكبارهم {أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض}!
ولهذا لم يؤمن مع موسى ويخرج عن طاعة فرعون إلا بعض الشباب الفتية كما قال تعالى {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم}!
وهو حال الشعوب العربية التي تم تعبيدها عقودا طويلة للأنظمة الوراثية، حتى لم تعد تعرف معنى الكرامة والحرية، ولا تعرف حقيقة الشرك والوثنية، ولهذا كانت أضعف من أن تثور، فضلا عن أن ترفع شعار (الشعب يريد إسقاط النظام)، فهي أحوج ما تكون إلى تحريرها من أوهامها ومخاوفها، وفك سحر فرعون عنها، وتحرير عقولها ونفوسها، حتى تستعيد إنسانيتها، ثم بعد ذلك تستعيد حريتها وكرامتها!
ملحوظة : للإجابة عن كل الأسئلة التي تطرأ أثناء قراءة هذا المقال وما قد يرد على ذهن القارئ من إشكال يمكن الرجوع إلى كتابي (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان)!