ملامح عشق أسمى
هيام ضمرة - الأردن
آمنة صبية نضرة في عمر شجر الورد، ولدت على الأرض الفلسطينية عجوزاً، وتخضبت يداها من حمرة تربتها، لتستنبت من وهج روحها معنى الحياة، تُبصرها الشمس كل نهار، ويُعانق هلال الليل من أحلامها براعم، تنمو بانتشاءات ربيع أرضها وزنود الأبطال، لا توأدها يد الاحتلال، وليست على ذلك قادرة وعزم المنازلة متمكن في عمق الوجدان.
ظلت تكبر مع قضية الأرض المحتلة التي قامر عليها تارةً الفاسدون وتارةً المفسدون. كبرت مع الخوف والقلق على إخوة تغلي في عروقهم دماء الانتماء، تطلبهم قوات محتلة لتصلبهم على جدران غُلّها المستبد. وكبرت كذلك مع العزة والشموخ في ظلّ قيم أبيّة و أبٍ جبل بالعرق طين البناء ليُشيّد للحياة حضارة لا تقبل المراهنة، على أرض ورثها عن كابرالآباء، لا تُثنيه لعبة القهربالهدم التي تستهوي سلطات احتلال ديدنها الخراب.
وما كان لآمنة أن تكبر دون أن تعذبها دموع القهر، لأجساد تمزقها غياهب غِلّ بأوضار الحقد وسلاح الطغيان. كبرت أيضاً مع زغاريد أعراس الشهداء، ومعانقة أمهات مكلومات صلبْن صبرهن على لوح الانتظار، وسهام الفجيعة تخترق أفئدتهن كلما عربد داخلهن وجع الافتقاد.
ظلت آمنة تكبُرُ بسرعة عجيبة، على ركام بيوت أجثتها آلات هدم قوى الطغيان، وهي تستعرض سطوتها لتنكأ الجراح بجراح، يسكرون على مائدة تعسفّهم وهم مزروعون بوهم ظنوه كما الحقيقة، أنهم بذلك يطفئون انتفاضة البسالة ويصرعون نخوة النضال. كبرت الصبية وهي تحترق على صفيح الشوق ليوم ما زالت بوادره غبشى، وسماؤه يكتنفها الغمام، يختلط ليله بنهاره، وينداح سواده على بياضه، تعيش الحلم دون وضوح رؤية، والأمل دون ملامح أو ألوان، يختلط في عمرها الحزن بالفرح، والابتسام بالتوجع.
والحقيقة أن الصبية كبرت كثيراً، وسابقت بالنضوج صبايا الأرض، وهي ترفض التخاذل، وتمنع عن جبينها مُتكأ الكآبة، ولا تركعُ لاستفزازٍ غوغائيّ يغتصبُ أرضها وحقوقها، ما دامت تستشعر في جيل الشباب أصابع عزم للنضال وهي تضغط بقوة على الزناد، وحلمها يتورد لنصر آت يفك الإسار.
خطيبيها صبري، واحد من الذين يحترقون على جمر القهر، والوطن يضيق عليهم ويتآكل ليغدو رقعاً لا تغطي فتقاً. لكن قلبه يئن على جذوهِ ليقتبس من ملامح الصبر، ما يشحن ليوم التلاقي عمره، يتجالد وتنموا على سواعده قلاع مواجهة ترتقي ليوم آت.
واليوم إذ فرّغ الاحتلال أحقاد طغيانه في منزل حميه، وأهالت متفجراته البنيان على ممتلكاتهم الشخصية، بعدما رفضوا اخلاءه تهيأة لحفلة غيّهم واستهتارهم بالحقوق الانسانية، انهم لا يقتلون الانسان وحسب وانما يقتلون الانسانية ويعيدون الانسان الى عصر الغاب. لم ير صبري أثراً لخطيبته وظنها سقطت ضحية تحت أنقاض البيت، كان يبحث عنها بين قطع الاسمنت ووسط غيمة ترابية عفرته بالهوان، يودّ لو يضيق الكون حوله ويطمس الزلزال آثار الغزاة، فما لبطشهم نهاية وقوى عظمى تؤازرهم على هذا الظلم، لتفرض بالتالي لوجودها مبرراً، وها هم في نشوتهم يشربون كؤوس غلهم على قهر شعب مأسور.
لم يعثر عليها، ولم يتسن له سماع أنفاس تند حياة وتخبر عن وجودها. أيقن أنها لم تشهد مهرجان الاستعباد لكسر الارادة وقهر العزيمة التي اليها يهدفون، ولم تحضر افتتاحية حفل التشريد لتحمل عينيها عدوى رمد الخذلان والهوان، انها بذلك تؤكد أنها إبنة الأرض الأم، إنتماؤها لها وليس للحجر الذي ابتناه الانسان. فراح كالملسوع يبحث عنها في الحقول والبساتين، وحين وجدها ترفع بالفأس ساعدها وتضرب به أرض الحقل البعيد عن ضوضاء مجون العدو، أدرك كم استطاعت هذه الفتاة أن تكبر، وتصبح أكبر كثيراً مما ظنّ وظنّه الناس. بل أكبركثيراً من وجح سلاح أعداء الانسانية وهي تستنبت فيهم القهر، لا يدركون أن طغيانهم المستبد يوقد في هذا الشعب الأبيّ جذوة الارادة والتصميم.
تأرجحت في رأسه أفكار شتى، لكنها تلاشت تماماً وآمنة تؤكد له:
"إن هذه الجدران الاسمنتية التي فرّغ العدو حقده الأسود فيها، وحولتها متفجراته وآلياته إلى تل مكدود من الحجارة، لم تكن يوما مما أعتبره ستراً لخصوصيتي، وملاذ أمن لإنسانيتي، وقد دأب جيش الاحتلال وبشكل يكاد يكون يومي إلى اقتحام أبوابها ببساطيرهم العسكرية، وبنادقهم الموجهة الى وجوهنا وهي تزرعنا بالرعب، تنتزع أشكال الأمن من عقولنا وأفئدتنا، وتهدر كرامتنا و كامل حقوقنا و في أدناها الأمن، ما عادت أبواب هذه المنازل تجد سبيلاً الى درء الأخطار عنا أو حمايتنا!"
وقالت آمنة بصوت لا تلوثه الفواجع، تطوحه كالسيف القاطع.
"إن ستري الحقيقي في أرض آلت اليّ من الأجداد، أنتمي بقوة اليها، منها انبجس سر الحياة و انبعث في شراييني. أرض تعشق من يعشقها، وتستر من يضمها في وجدان صادق، لا توهن ساعده أبدا إرادةً المساومون على استعبادنا، والراقدون على تماديات الجبن أمام وعود النِعَم من قبل قوى الهيمنة، فأنياب النوى لا تصرف خطر جوعهم المعفر بالألم دوماً."
توقفت نظرات صبري على وجه آمنه وهي تستطرد دون دموع ودون انهيارات..
"إن هدم منزلي ليس بالأمر الذي يفت عضد كفاحي، أو يبدد عزيمتي. إن هدم عزيمة الرجال العاشقون لأرض الوطن هو وحده ما يقتل داخلي وروحي، هو وحده ما يجعلني إمرأة مشردة بلا أستار، ينشر عريّي على الملأ، و يسقطني في قرار سحيق!"
توقفت الكلمات على أوتار حنجرة صبري، عندما قالت له وهي تضع حفنة من التراب في كفه.
"عندما تملك إرادة نفسك الحرة، ويتنامى عشقك لأرض الوطن حد التضحية الشجاعة، تستطيع عينيك أن تغفو بهناء في محراب الأمن، ونساؤك في أخدانهن يمتشقن كبرياؤهن على شموخ يليق بالأحرار، وعندها سيتكسر كل الحزن الذي عبأ الأمهات بالكلم والصمود، اللاتي زغردن بعصارة الشغف المر، وهن يودعن أبنائهن الشهداء!"
قالت آمنة لصبري كلمات لا تخذله ولكنها تعبئ وجعه بالصمود والكفاح،تعبئ عقله بإصرار الرجال الأفذاذ. ولذلك قالت له أيضاً:
"إن رحم الحياة في نسائنا قادر على رفد ساحة النضال، وأحضانهن تستطيع أن تصنع الأبطال المقدامين، إذا ما حملت نُطفة التخليق ملامحَ خارطةٍ جينيةٍ غنية بالمرؤة والشجاعة والاقدام والانتماء. حقاً قدرنا أن نُظلم وتكتوي أفئدتنا بالقهر، إنما قضيتنا توحّدُنا ونحن نحمل وطناً خلقنا لنضمه بقوة بين أضلاعنا."
قالت آمنة أيضاً وشذى كلماتها يُعطر أحلام صبري ويُسجي خلاياه على شرفة الأحرار:
"ستكون رجُلي يا صبري، وستكون سَتري، ومُحقق أمْنَ نفسي، وسأنتصِبُ بك شامخة وأنت تدرك مدى جاهزيتك لرحلة النضال، فأنت إبنُ الأرض الذي لا تربكه الهزائم. للإباء فقط دقت أقدام النشامى الأرض في أهازيج الفرح، وللنصر سوف تدك أقدامهم أرْجاف الحُثالة وتُقصيهم عن أرضنا الطهور، فعش نفسك الأبية وانّهض بدورك فالوعد لأمتنا، وما اشتد زندك إلا لتكون صخرة على صدورأعدائنا تمنع عنهم الأنفاس!"
وكانت آمنة تقول كلاماً صلباً، كلاماً متماسكاً لا اهتزاز فيه، كلاما ينتشله من رومانسية العشق الدنيوي، ليحطه على روحانية الحب النابض بالخلود. ولذلك ظلت تؤكد له القول:
"هناك فرق يا صبري بين عريس يُخلّد في أحضان الحور، وعريس يتمرغ في أحضان رغباته، فيما الواجب الوطني يحتم علينا الحركة. فأخرج نفسك من تثاؤب الانتظار، وتذكّر ما سطَره قبلك الأولون، وما وعدك به من خلقك وهوقادر على فنائك، فأنت وسواك منْ سيُشيّد للغدِ أهرام الحياة، ليس لتكون قبور السادة، إنما لتصبح صروحاً للنصر!"
وآمنة كانت تستطيع أن تقول كلاماً مؤثراً لا تحترق ذؤابته على أوجاع الضجر، ولكن صابر أحسّ بنشوة الامتلاء، تعبأ بالقوة وهي تطلق فيه كبرياء الصمود، سمع هديرا داخله وهو يتدفق عن سمو، ففتح له قلبه وكفيه. صار مارداً، صار صنديداً، أصبح آلة نضال كاسحة، قادرة على كسر أسطورة الوهم.
حدّق في عينيها وقد صارتا محيطا يكسِر الموجَ على شطآنه المتباعدة. أمسك كتفيها المسلحتين بالأرادة وهو يقولُ بصوتٍ مُتفجّر:
"نحن يا آمنة شعبُ الحضارةِ والارادة، وُلدْنا من أرحام الإباء، ورضعنا الفداء والكرامة في شيم أعتى الشرفاء، عندما تجتاحُنا النيران نُصبح سجيلا يكوي العدا ويُذيب العظام. فاطمئني يا آمنة، وألقي برأسِك على صدر المحارب، ولتشرئب في كل العربيات الأعناق، فأنتُن قلاع عزتنا وقيمنا، وأنتن للدنيا فخر النساء."
هيام ضمرة - الأردن
آمنة صبية نضرة في عمر شجر الورد، ولدت على الأرض الفلسطينية عجوزاً، وتخضبت يداها من حمرة تربتها، لتستنبت من وهج روحها معنى الحياة، تُبصرها الشمس كل نهار، ويُعانق هلال الليل من أحلامها براعم، تنمو بانتشاءات ربيع أرضها وزنود الأبطال، لا توأدها يد الاحتلال، وليست على ذلك قادرة وعزم المنازلة متمكن في عمق الوجدان.
ظلت تكبر مع قضية الأرض المحتلة التي قامر عليها تارةً الفاسدون وتارةً المفسدون. كبرت مع الخوف والقلق على إخوة تغلي في عروقهم دماء الانتماء، تطلبهم قوات محتلة لتصلبهم على جدران غُلّها المستبد. وكبرت كذلك مع العزة والشموخ في ظلّ قيم أبيّة و أبٍ جبل بالعرق طين البناء ليُشيّد للحياة حضارة لا تقبل المراهنة، على أرض ورثها عن كابرالآباء، لا تُثنيه لعبة القهربالهدم التي تستهوي سلطات احتلال ديدنها الخراب.
وما كان لآمنة أن تكبر دون أن تعذبها دموع القهر، لأجساد تمزقها غياهب غِلّ بأوضار الحقد وسلاح الطغيان. كبرت أيضاً مع زغاريد أعراس الشهداء، ومعانقة أمهات مكلومات صلبْن صبرهن على لوح الانتظار، وسهام الفجيعة تخترق أفئدتهن كلما عربد داخلهن وجع الافتقاد.
ظلت آمنة تكبُرُ بسرعة عجيبة، على ركام بيوت أجثتها آلات هدم قوى الطغيان، وهي تستعرض سطوتها لتنكأ الجراح بجراح، يسكرون على مائدة تعسفّهم وهم مزروعون بوهم ظنوه كما الحقيقة، أنهم بذلك يطفئون انتفاضة البسالة ويصرعون نخوة النضال. كبرت الصبية وهي تحترق على صفيح الشوق ليوم ما زالت بوادره غبشى، وسماؤه يكتنفها الغمام، يختلط ليله بنهاره، وينداح سواده على بياضه، تعيش الحلم دون وضوح رؤية، والأمل دون ملامح أو ألوان، يختلط في عمرها الحزن بالفرح، والابتسام بالتوجع.
والحقيقة أن الصبية كبرت كثيراً، وسابقت بالنضوج صبايا الأرض، وهي ترفض التخاذل، وتمنع عن جبينها مُتكأ الكآبة، ولا تركعُ لاستفزازٍ غوغائيّ يغتصبُ أرضها وحقوقها، ما دامت تستشعر في جيل الشباب أصابع عزم للنضال وهي تضغط بقوة على الزناد، وحلمها يتورد لنصر آت يفك الإسار.
خطيبيها صبري، واحد من الذين يحترقون على جمر القهر، والوطن يضيق عليهم ويتآكل ليغدو رقعاً لا تغطي فتقاً. لكن قلبه يئن على جذوهِ ليقتبس من ملامح الصبر، ما يشحن ليوم التلاقي عمره، يتجالد وتنموا على سواعده قلاع مواجهة ترتقي ليوم آت.
واليوم إذ فرّغ الاحتلال أحقاد طغيانه في منزل حميه، وأهالت متفجراته البنيان على ممتلكاتهم الشخصية، بعدما رفضوا اخلاءه تهيأة لحفلة غيّهم واستهتارهم بالحقوق الانسانية، انهم لا يقتلون الانسان وحسب وانما يقتلون الانسانية ويعيدون الانسان الى عصر الغاب. لم ير صبري أثراً لخطيبته وظنها سقطت ضحية تحت أنقاض البيت، كان يبحث عنها بين قطع الاسمنت ووسط غيمة ترابية عفرته بالهوان، يودّ لو يضيق الكون حوله ويطمس الزلزال آثار الغزاة، فما لبطشهم نهاية وقوى عظمى تؤازرهم على هذا الظلم، لتفرض بالتالي لوجودها مبرراً، وها هم في نشوتهم يشربون كؤوس غلهم على قهر شعب مأسور.
لم يعثر عليها، ولم يتسن له سماع أنفاس تند حياة وتخبر عن وجودها. أيقن أنها لم تشهد مهرجان الاستعباد لكسر الارادة وقهر العزيمة التي اليها يهدفون، ولم تحضر افتتاحية حفل التشريد لتحمل عينيها عدوى رمد الخذلان والهوان، انها بذلك تؤكد أنها إبنة الأرض الأم، إنتماؤها لها وليس للحجر الذي ابتناه الانسان. فراح كالملسوع يبحث عنها في الحقول والبساتين، وحين وجدها ترفع بالفأس ساعدها وتضرب به أرض الحقل البعيد عن ضوضاء مجون العدو، أدرك كم استطاعت هذه الفتاة أن تكبر، وتصبح أكبر كثيراً مما ظنّ وظنّه الناس. بل أكبركثيراً من وجح سلاح أعداء الانسانية وهي تستنبت فيهم القهر، لا يدركون أن طغيانهم المستبد يوقد في هذا الشعب الأبيّ جذوة الارادة والتصميم.
تأرجحت في رأسه أفكار شتى، لكنها تلاشت تماماً وآمنة تؤكد له:
"إن هذه الجدران الاسمنتية التي فرّغ العدو حقده الأسود فيها، وحولتها متفجراته وآلياته إلى تل مكدود من الحجارة، لم تكن يوما مما أعتبره ستراً لخصوصيتي، وملاذ أمن لإنسانيتي، وقد دأب جيش الاحتلال وبشكل يكاد يكون يومي إلى اقتحام أبوابها ببساطيرهم العسكرية، وبنادقهم الموجهة الى وجوهنا وهي تزرعنا بالرعب، تنتزع أشكال الأمن من عقولنا وأفئدتنا، وتهدر كرامتنا و كامل حقوقنا و في أدناها الأمن، ما عادت أبواب هذه المنازل تجد سبيلاً الى درء الأخطار عنا أو حمايتنا!"
وقالت آمنة بصوت لا تلوثه الفواجع، تطوحه كالسيف القاطع.
"إن ستري الحقيقي في أرض آلت اليّ من الأجداد، أنتمي بقوة اليها، منها انبجس سر الحياة و انبعث في شراييني. أرض تعشق من يعشقها، وتستر من يضمها في وجدان صادق، لا توهن ساعده أبدا إرادةً المساومون على استعبادنا، والراقدون على تماديات الجبن أمام وعود النِعَم من قبل قوى الهيمنة، فأنياب النوى لا تصرف خطر جوعهم المعفر بالألم دوماً."
توقفت نظرات صبري على وجه آمنه وهي تستطرد دون دموع ودون انهيارات..
"إن هدم منزلي ليس بالأمر الذي يفت عضد كفاحي، أو يبدد عزيمتي. إن هدم عزيمة الرجال العاشقون لأرض الوطن هو وحده ما يقتل داخلي وروحي، هو وحده ما يجعلني إمرأة مشردة بلا أستار، ينشر عريّي على الملأ، و يسقطني في قرار سحيق!"
توقفت الكلمات على أوتار حنجرة صبري، عندما قالت له وهي تضع حفنة من التراب في كفه.
"عندما تملك إرادة نفسك الحرة، ويتنامى عشقك لأرض الوطن حد التضحية الشجاعة، تستطيع عينيك أن تغفو بهناء في محراب الأمن، ونساؤك في أخدانهن يمتشقن كبرياؤهن على شموخ يليق بالأحرار، وعندها سيتكسر كل الحزن الذي عبأ الأمهات بالكلم والصمود، اللاتي زغردن بعصارة الشغف المر، وهن يودعن أبنائهن الشهداء!"
قالت آمنة لصبري كلمات لا تخذله ولكنها تعبئ وجعه بالصمود والكفاح،تعبئ عقله بإصرار الرجال الأفذاذ. ولذلك قالت له أيضاً:
"إن رحم الحياة في نسائنا قادر على رفد ساحة النضال، وأحضانهن تستطيع أن تصنع الأبطال المقدامين، إذا ما حملت نُطفة التخليق ملامحَ خارطةٍ جينيةٍ غنية بالمرؤة والشجاعة والاقدام والانتماء. حقاً قدرنا أن نُظلم وتكتوي أفئدتنا بالقهر، إنما قضيتنا توحّدُنا ونحن نحمل وطناً خلقنا لنضمه بقوة بين أضلاعنا."
قالت آمنة أيضاً وشذى كلماتها يُعطر أحلام صبري ويُسجي خلاياه على شرفة الأحرار:
"ستكون رجُلي يا صبري، وستكون سَتري، ومُحقق أمْنَ نفسي، وسأنتصِبُ بك شامخة وأنت تدرك مدى جاهزيتك لرحلة النضال، فأنت إبنُ الأرض الذي لا تربكه الهزائم. للإباء فقط دقت أقدام النشامى الأرض في أهازيج الفرح، وللنصر سوف تدك أقدامهم أرْجاف الحُثالة وتُقصيهم عن أرضنا الطهور، فعش نفسك الأبية وانّهض بدورك فالوعد لأمتنا، وما اشتد زندك إلا لتكون صخرة على صدورأعدائنا تمنع عنهم الأنفاس!"
وكانت آمنة تقول كلاماً صلباً، كلاماً متماسكاً لا اهتزاز فيه، كلاما ينتشله من رومانسية العشق الدنيوي، ليحطه على روحانية الحب النابض بالخلود. ولذلك ظلت تؤكد له القول:
"هناك فرق يا صبري بين عريس يُخلّد في أحضان الحور، وعريس يتمرغ في أحضان رغباته، فيما الواجب الوطني يحتم علينا الحركة. فأخرج نفسك من تثاؤب الانتظار، وتذكّر ما سطَره قبلك الأولون، وما وعدك به من خلقك وهوقادر على فنائك، فأنت وسواك منْ سيُشيّد للغدِ أهرام الحياة، ليس لتكون قبور السادة، إنما لتصبح صروحاً للنصر!"
وآمنة كانت تستطيع أن تقول كلاماً مؤثراً لا تحترق ذؤابته على أوجاع الضجر، ولكن صابر أحسّ بنشوة الامتلاء، تعبأ بالقوة وهي تطلق فيه كبرياء الصمود، سمع هديرا داخله وهو يتدفق عن سمو، ففتح له قلبه وكفيه. صار مارداً، صار صنديداً، أصبح آلة نضال كاسحة، قادرة على كسر أسطورة الوهم.
حدّق في عينيها وقد صارتا محيطا يكسِر الموجَ على شطآنه المتباعدة. أمسك كتفيها المسلحتين بالأرادة وهو يقولُ بصوتٍ مُتفجّر:
"نحن يا آمنة شعبُ الحضارةِ والارادة، وُلدْنا من أرحام الإباء، ورضعنا الفداء والكرامة في شيم أعتى الشرفاء، عندما تجتاحُنا النيران نُصبح سجيلا يكوي العدا ويُذيب العظام. فاطمئني يا آمنة، وألقي برأسِك على صدر المحارب، ولتشرئب في كل العربيات الأعناق، فأنتُن قلاع عزتنا وقيمنا، وأنتن للدنيا فخر النساء."