مدخل الى قلب الشاعر
أليس من المفارقة أن يفارق شاعر فلسطين الأول إبراهيم طوقان الحياة وفد ملأ شعره أسماع الوطن العربي دون أن ينشر له ديوان ، و أن يبقي كثير منشعره مبعثرا في صفحات الدوريات العربية أو مطويا في دفاتره المخطوطة ، كأنإبراهيم شعر بهذه المفارقة في أواخر حياته فسارع إلى انتقاء بعض من قصائده وسلطعليها ما يمتلكه من حس نقدي و اجتماعي ليصفيها من أي شائبة ، ولكن الموت عاجله بعدأن أتم إعداد قصائده للنشر ، و بعد وفاته وجد شقيقه احمد إن الوفاء لأخيه يقتضيهإكمال أعماله ، فإذا بل أحداث العاصفة للحرب العالمية الثانية ثم نكبةالتشرد تؤخر هذا العمل ، ولم يتح لديوان إبراهيم الظهور إلا عام 1955م ، فصدرتالطبعة الأولى من الديوان عن دار الشرق الجديد في بيروت ، وقد حافظ احمد طوقان عليالقصائد التي اختارهاإبراهيم وعددها (77)قصيدة و اقتصر عمله علي تشكيل بعض الكلمات ..وشرح بعض المناسبات..و إضافة عشر مقطوعات غزلية ، و بلغت أبيات هذا الديوان (1455)بيتا تقريبا ،و احتوي هذا الديوان - بالإضافة للقصائد – مقدمة لأحمد طوقانوكتيبا كانت قد أصدرته فدوي طوقان بعنوان ((أخي إبراهيم)) ، ثم رتبت القصائد حسبالموضوعات مع نشر بعض القصائد الطويلة المنفردة ، وقد ظلت هذه الطبعة تمثل الصوتالشعري المعروف لإبراهيم طوقان لجيل كامل من القراء العرب ، و بقي الكثير من نتاجهالشعري مطموسا لا يعرفه إلا قلة من المعاصرين للشاعر و المتصلين به.
حتى جاءتدار القدس في بيروت عام1975 و أصدرت طبعة جديدة لديوان الشاعر تمثل نقلة جديدة إذضمت الأشعار التي احتوتها دار الشرق ، و أضافت إليها(36) قصيدة جديدة دون أنتذكر مصادرها ، و بلغت أبيات هذه الطبعة (2132) بيتا تقريبا ، وقد اتبعت هذه الطبعةطريقة جديدة في الترتيب و هو الترتيب التاريخي للقصائد حسب تاريخ نظمها أو نشرهاواحتفظت للأناشيد بحيز خاص .
وظلت هاتان الطبعتان الأساس المعتمد لكل ما صدربعدهما ، فنهجت طبعتا دار العودة و دار المسيرة نهج طبعة دار الشرق الجديد ،بينما اتبعت طبعة المؤسسة العربية للدراسات و النشر طبعة دار القدس .
وعندماقررت مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري إصدار طبعة جديدة لديوانإبراهيم طوقان بمناسبة انعقاد دورتها الثامنة في البحرين كان أمامها تحدي جوهريأتكتفي بإعادة طبع إحدى النسختين و فيه توفير للجهد و الوقت آم تبدأ مغامرة جديدةمن مغامرات الكشف بكل من تتطلبه من جهد و عناء ، ووجدت المؤسسة أن من حق هذاالشاعر الكبير عليها الذي مازال الكثير من تراثه مغيبا ، أن تتحمل مسؤولية خاصةتجاهه في هذا الظرف الاستثنائي ، ووضعت هدفا لها أن تحاول الإحاطة بما نشر منأشعاره سواء في الدوريات أو في الكتب ، دون أن تسترق السمع إلى خصوصياته التيرغب أن تبقي طي أوراقه .
و إذا كان أي إبداع يبدأ من استيعاب ما سبقه ثم يعملعلي تجاوزه فقد وضعنا الطبعتين السابقتين كأساس لعملنا و طرقنا العواصم العربيةالأربع :القاهرة ، و دمشق ، و بيروت ، وعمان ، نبحث في خزائنها عما نشر لإبراهيم منقصائد في الدوريات القديمة ، و اطلعنا علي اغلب ما كتب عن طوقان في الكتب المنشورة، وقد جمعنا كل ما استطعنا الحصول عليه من قصائد آو مقطوعات آو أبيات للشاعرالكبير و لم نستثن من ذلك إلا بيتا خرج عن حدود اللياقة ، آو مقطوعة غلبت عليهاالعامية ، و كلفنا ذلك الكثير من الصبر و العنت تحملناه راضين و نعترف انه مع كل مابذلناه من جهد لم نتمكن من تحقيق كل ما كنا نطمح أليه ، لان بعض الدوريات تاهت آوتهنا عنها، و بقي بين حلمنا وواقعنا مسافة لا باس بها ، ولعل هذه المسافة التيتلازم أي جهد بشري صادق لا مهرب منها لأنها تذكر بان النقص من طبيعة البشر ، حتىنلتزم بفضيلة التواضع ، ونترك لمن سيأتي بعدنا فرصة لكي يتجاوزنا كما تجاوزنا منقبلنا ، و قد رتبنا قصائد هذه الطبعة ترتيبا موضوعيا ، و حرصنا علي تسلسلالقصائد زمنيا داخل كل باب ، و جمعنا ما تناثر من أبيات و مقطوعات للشاعر في بابخاص ، و أفردنا ملحقا خاصا لأربع قصائد اشترك إبراهيم طوقان في نظمها مع شعراءآخرين .
و قد بلغت عدد قصائد ومقطوعات هذه الطبعة(158( و عدد أبياتها (2530) بيتاتقريبا وإذا كنا نعترف بالفضل العميم لمن سبقنا في إخراج شعر إبراهيم طوقان إلىالنور فإننانأمل في أن يأتي من بعدنا من يمضي خطوات ابعد مما قطعناه في جمع تراثهذا الشاعر الكبير ، لعلنا بذلك نكون قد أدينا قسطا من الواجب تجاه شاعر جعل منهمومنا
............................................
تصدير..
"ماذا يبقى من إبراهيم طوقان"؟
ما الذي يدفعنا إلى إعادة نشر شعر إبراهيم طوقان وبعد أكثر من ستين سنةعلى غيابه، إن مرور جيلين على وفاة شاعر هو محك حقيقي للكشف عن أصالته، فإذا كانالزمن يطوي بين تلافيفه أنصاف الشعراء فإنه يقف عاجزاً أمام الشعراء الكبار الذينيزيدهم البعد الزمني حضوراً، فالشاعر الأصيل وهو يعيش عصره لا يرى فيه مجموعة منالأحداث المتراكمة الساكنة، بل يلحظ بعين الصقر في عصره سريان العصور، ويرى من خلالالحدث اهتزازاته السابقة واللاحقة، وبهذا الاستشراف يبقى شاعراً معاصراً في كل زمنلأنه يدرك بحسّه الصادق المستمرّ والجوهري ولا يستنفده المتحوّل والعرضي.
ويحقلنا أن نسأل: ماذا بقي لنا من إبراهيم طوقان وشعره؟.
رافق إبراهيم طوقان المأساةالفلسطينية مذ كانت مشروعاً إلى أن أصبحت أزمة وتوفي وهي توشك أن تتحول إلى كارثة،وفي خضم هذه العاصفة التي تهدّد الوطن والمواطن كتب شعره على ضوء الدم الفلسطيني،ورحل إبراهيم وبقي لنا شعره والكارثة، وكما حاصرته الأزمة وتجاوزت جيله، فإنالكارثة ما تزال تحاصرنا وتكاد تتجاوزنا، فهل نجد في شعر إبراهيم، وهو وصيتهالمتبقية لنا، ما يضيء لنا عتمة الأزمة؟ مع أن الشاعر غير مطالب كالسياسي بتقديمخطة مفصلة لمواجهة الأزمة فإنه بتقمصه لروح شعبه يمكن له أن يوحي بالاتجاه الذي بهنوقف الأزمة ولا ندعها تتجاوزنا.
انغمس إبراهيم طوقان بحسّه الوطني في نهرالأحداث المتدفق ولكنه لم يغرق فيه، فظل على وعي تام بالخيوط التي تحرّك الأحداث،ورائياً في تفاصيل المشهد وسكونه قسماته الأساسية وحركته المقبلة.
امتلك إبراهيممنذ البدء رؤية واضحة لطبيعة الصراع في فلسطين، وإذا كان البعض قد خدع بالعباراتالملتبسة للمحتلّ، وعلّق آمالاً على صداقة متوهمة، فإن إبراهيم كان يرى الأمر عارياً من أي أوهام، فليس الخطب في فلسطين - كما في باقيالبلاد العربية - احتلالاً، بل هو اغتصاب بكل تداعياته، وعندما تصبح المعركة أنتكون أو لا تكون تختفي من القاموس كلمات المهادنة والمساومة وتنحصر الألوان فيلونين فقط: أبيض وأسود. وتنتفي الميوعة والتداخل ويأخذ كل أمر حدوده الصلبةالواضحة.
شعر إبراهيم أن الأزمة ستتحول إلى معركة مفتوحة لاحدود لها، مادامالمتنازع عليه قدس الأقداس: أرض الوطن، وفي معركة مصيرية كهذه فإن تحديد العدوونواياه يصبح ضرورة لا غنى عنها:
لنا خصمان ذو حَوْلٍ وَطَوْلٍ
وآخرُ ذو احتيالٍ واقتناصِ
مناهجُ للإبادة واضحات
وبالحسنى تُنفّذ والرصاص
وفي مواجهة المحو والإلغاء تصبحكل وسائل الاحتجاح المعتادة لغواً وعبثاً، ولا يقف أمام منهج الإبادة إلا منهجالشهادة. فالقوة تلغيها القوة:
لا يلين القويُّ حتى يلاقي
مثله عزّةً وبطشاً وجاها
وكما أدرك إبراهيم طوقان قيمةالأرض وجعلها في مرتبة القداسة أيقن أن الإنسان لا يستحق هذه الأرض إلا عندمايغسلها بدمه:
صهروا الأغلالَ وانصاعوا إلى
دنسِ الأرضِ فقالوا اغتسلي
وإذ ذاك يبلغ الإنسان الفاني شجرة الخلد، ويسقط الحاجز بينالموت والحياة:
عاشت نفوسٌ في سبيل بلادها ذهبتْ ضحيّه
هكذا امتلك إبراهيمطوقان رؤية واضحة لطبيعة الصراع فوق أرض فلسطين، ولكنه لم يكن يمتلك سلطة القرارليحيل هذه الرؤية إلى واقع، وإذ افتقدت فلسطين في ذلك الوقت القيادة التاريخية التيتتمتع بعمق النظر وصلابة الموقف، فإن مسار الأزمة كان واضحاً في مخيلة طوقان، إنهالكارثة:
لا تلمني إن لم أجدْ من وميضٍ
لرجاءٍ ما بين هذا السوادِ
لقد بقيت لنا من شعر إبراهيم طوقان رؤيته الواضحة لآلية الصراعفي الأرض المقدسة، ونحن ما زلنا ننتظر القرار الذي يحول هذه الرؤية إلى واقع ويفكعنا هذا الحصار الخانق الذي يسمّم كل مفردات حياتنا.
وإذا كنا ندرك أن كلماتالشعراء مهما كانت حرارتها لا تكفي لتحرير وطن، فإننا على يقين بأن هذه الكلمات هيالتي تذكّر الإنسان بالحق المغتصب، وتبقي هذا الحق مؤرقاً للوجدان حتى يستدعيالرصاصة التي تحرر الوطن وتحقق للقول الشعري نبوءته ووعده الذي لن يخيب.
عدل سابقا من قبل زهرة اللوتس المقدسية في 2011-09-25, 4:46 pm عدل 1 مرات