ساعات الليل الوئيد - دينا سليم
انتشر النور داخل الحجرة الصغيرة عندما فُتح بابها، انبسط فيها باعثا ضوءه على سرير الجدة . لقد جيء لها بطعام الغداء ، أصبحت الساعة الواحدة ظهرا . لقاء الوجبات أدقُ من عقارب السّاعات. ما أن تنتهي من تناول وجبتها المعتادة حتى يوصد عليها بابها ليفتح مرة أخرى مساء حيثُ تأتيها كنتها الوحيدة بالعشاء.
صمت مهيب يهيمن على المكان منذ سنوات، ساعات طويلة من الانتظار، انتظار اللاشيء ، يخترقُ ذلك الصمت وقع أقدام تعرفها الجدة كلما اشتمت رائحة الطعام، لكنها تعودت أيضا على وقع أقدام أخرى، خطوات حقيقية لا تعيق الصمت أبدا. بسعاله العميق يغلق باب حجرته ليقف أمام نافذتها الوحيدة يتأمل صفحة السماء المضطربة حيث السروة العالية التي تقف بحزم . تمايلها الريح الجانحة متعارضة الاتجاهات.
يحدق في البعيد، غيوم تأبى التواري الا بعد أن تعلّق قطراتها الثقيلة عليها فتتسحب القطرات بين الأغصان الخضراء، تنتشيها وان أتاها الصحو احتلتها يمامتان تأخذان القمة للتداعب. كلما حطتا بجسديهما عليها مالت فتضطر احداهما الى التنازل فتطير تعبّ الريح لبرهات ثم تعود لتحلق بأجنحتها حول اليمامة الأخرى معاودة الكرة مرارا وتكرارا .
وحيدا يتخذ الأمل والانتظار ملاذا لهُ، تؤنسه الحركات المتموجة التي تغزو سروته المتوّجة .
تعاقبت الأيام على هذين الغريبين في هاتين الحجرتين، منفردين، منعزلين تغمرهما الذكريات ... الجدة تعيش الماضي بأحداثه فقد ضاع منها الوليف الونيس، زوجها تأنس بصورهِ كشريط سينمائي مكرر ، أحداث حصلت وانتهت تستمد الحياة من احدى اليمامتين، انها اليمامة التي لا تتمكن من مبارحة مكانها وربما هي التي تحلق مبتعدة، لم يعد لها مكان على تلك القمة. تنتظر الخلاص من داخل حجرتها البيضاء، لا تمتلك الا البكاء أسفا، بينما هو ينتظر الفرار ليعيش المستقبل، يحبس الأوهام ويطلق الأحلام، تتجول على غير مستقر تشبه ملاحا تائها يبحث عن خليلة يُتيمُ بها تنعش حجرته الكئيبة، تعينه على اجتياز حدود النهار وتعيق ليلهُ الوئيد .
ينظر الى الطيرين باهتمام بالغ فيرى نفسه يحوم حول خليلته، يطمح اليها، يطلق آهات مكبوتة، ينتفخ صدره وتعلق دقات فؤاده من أجل حب وهمي لفتاة أحلامه، يطبع ملامحها بين عينيه يسهد على زفرات أنفسها الدافئة، يحاورها جاهدا، يرمقها معاتبا ويبتسم حنينا لها. عبر الأفق يراها قاصدة
اياه تأتيه من الفضاء الخارجي، تتنصل من بين الغمام فتهوى على نافذته الموصدة تقف وراءها تدق زجاجها .
الهواجس تؤرق مضجعه وأحلام فاترة تصيبه بخيبة الأمل بينما تتشبث الجدة بالحياة، لم يعد يتحرك بها شيء الا دقات قلبها الواهن، دقات لم تعد تكفيها لاشغال حيز في الوجود. ما بعد الخريف الا شتاء باك قطراته تحمي آثار الغبار تهيء الفرص لجو صاف من أجل الاستمرار قدما في الحياة الجديدة .
أما هو فما زال يصبو الى الكثير، انه في ربيع العمر طموحاته تتعدى تلك الحجرة النائية لن يدعها تذهب هباء. استعد للخروج قدما في الحياة فتسمعه الجدة مغادرا، يتعمد اصدار الأصداء فربما بها يهزّ الصمت ويقلق الوجل .
وعند الرجوع الى المستقر يدير المفتاح داخل القفل بمهارة من خلال الليل يطرد الوساوس الدفينة، يبددها. يدخل حجرته شاحبا كامدا يخشى فقدان الوجود فيتيه عنه المستقبل. لقد سئم الليل الوئيد وحيدا الداعي الى اكفهرار وجهه فتخالجه شتى الأمور .
أشرقت الشمس مخترقة الثلوج في القمم ، بحث عن وليفته لم يلمحها على القمة، أحس بخوف فقدانها...
ارتعشت الجدة رعشة الموت عندما فقدتهما، انهما لستا هناك... ملأتها الدموع، بلغها الشعور بالوحدة، آرقتها العاصفة الخريفية المتعلقة بفصل الشتاء، مستقبلها الناهي. حدّقت بالنهار الأبيض أيقنت انها ستفارق الحياة، تحت وطأة البرد القارس، مثل الآخرين الذين سبقوها... ستغادر الحياة ...عادت اليمامتين الى مسقط رأسيهما، تتحاوران، تملآن الكون هديلا .
انقطعت أصوات الأقدام المتعاقبة، أقدام الكنة لتصل الى المكان أقدام تحذو كعبا يطرق السكون بدقاته... ضجيج مغاير...أصداء كأغنية يقرقع البلاط بضجيجه. تتجه نحو حجرته، تطرق بابه فتقطع عليه ساعات ليله الوئيد.
انتشر النور داخل الحجرة الصغيرة عندما فُتح بابها، انبسط فيها باعثا ضوءه على سرير الجدة . لقد جيء لها بطعام الغداء ، أصبحت الساعة الواحدة ظهرا . لقاء الوجبات أدقُ من عقارب السّاعات. ما أن تنتهي من تناول وجبتها المعتادة حتى يوصد عليها بابها ليفتح مرة أخرى مساء حيثُ تأتيها كنتها الوحيدة بالعشاء.
صمت مهيب يهيمن على المكان منذ سنوات، ساعات طويلة من الانتظار، انتظار اللاشيء ، يخترقُ ذلك الصمت وقع أقدام تعرفها الجدة كلما اشتمت رائحة الطعام، لكنها تعودت أيضا على وقع أقدام أخرى، خطوات حقيقية لا تعيق الصمت أبدا. بسعاله العميق يغلق باب حجرته ليقف أمام نافذتها الوحيدة يتأمل صفحة السماء المضطربة حيث السروة العالية التي تقف بحزم . تمايلها الريح الجانحة متعارضة الاتجاهات.
يحدق في البعيد، غيوم تأبى التواري الا بعد أن تعلّق قطراتها الثقيلة عليها فتتسحب القطرات بين الأغصان الخضراء، تنتشيها وان أتاها الصحو احتلتها يمامتان تأخذان القمة للتداعب. كلما حطتا بجسديهما عليها مالت فتضطر احداهما الى التنازل فتطير تعبّ الريح لبرهات ثم تعود لتحلق بأجنحتها حول اليمامة الأخرى معاودة الكرة مرارا وتكرارا .
وحيدا يتخذ الأمل والانتظار ملاذا لهُ، تؤنسه الحركات المتموجة التي تغزو سروته المتوّجة .
تعاقبت الأيام على هذين الغريبين في هاتين الحجرتين، منفردين، منعزلين تغمرهما الذكريات ... الجدة تعيش الماضي بأحداثه فقد ضاع منها الوليف الونيس، زوجها تأنس بصورهِ كشريط سينمائي مكرر ، أحداث حصلت وانتهت تستمد الحياة من احدى اليمامتين، انها اليمامة التي لا تتمكن من مبارحة مكانها وربما هي التي تحلق مبتعدة، لم يعد لها مكان على تلك القمة. تنتظر الخلاص من داخل حجرتها البيضاء، لا تمتلك الا البكاء أسفا، بينما هو ينتظر الفرار ليعيش المستقبل، يحبس الأوهام ويطلق الأحلام، تتجول على غير مستقر تشبه ملاحا تائها يبحث عن خليلة يُتيمُ بها تنعش حجرته الكئيبة، تعينه على اجتياز حدود النهار وتعيق ليلهُ الوئيد .
ينظر الى الطيرين باهتمام بالغ فيرى نفسه يحوم حول خليلته، يطمح اليها، يطلق آهات مكبوتة، ينتفخ صدره وتعلق دقات فؤاده من أجل حب وهمي لفتاة أحلامه، يطبع ملامحها بين عينيه يسهد على زفرات أنفسها الدافئة، يحاورها جاهدا، يرمقها معاتبا ويبتسم حنينا لها. عبر الأفق يراها قاصدة
اياه تأتيه من الفضاء الخارجي، تتنصل من بين الغمام فتهوى على نافذته الموصدة تقف وراءها تدق زجاجها .
الهواجس تؤرق مضجعه وأحلام فاترة تصيبه بخيبة الأمل بينما تتشبث الجدة بالحياة، لم يعد يتحرك بها شيء الا دقات قلبها الواهن، دقات لم تعد تكفيها لاشغال حيز في الوجود. ما بعد الخريف الا شتاء باك قطراته تحمي آثار الغبار تهيء الفرص لجو صاف من أجل الاستمرار قدما في الحياة الجديدة .
أما هو فما زال يصبو الى الكثير، انه في ربيع العمر طموحاته تتعدى تلك الحجرة النائية لن يدعها تذهب هباء. استعد للخروج قدما في الحياة فتسمعه الجدة مغادرا، يتعمد اصدار الأصداء فربما بها يهزّ الصمت ويقلق الوجل .
وعند الرجوع الى المستقر يدير المفتاح داخل القفل بمهارة من خلال الليل يطرد الوساوس الدفينة، يبددها. يدخل حجرته شاحبا كامدا يخشى فقدان الوجود فيتيه عنه المستقبل. لقد سئم الليل الوئيد وحيدا الداعي الى اكفهرار وجهه فتخالجه شتى الأمور .
أشرقت الشمس مخترقة الثلوج في القمم ، بحث عن وليفته لم يلمحها على القمة، أحس بخوف فقدانها...
ارتعشت الجدة رعشة الموت عندما فقدتهما، انهما لستا هناك... ملأتها الدموع، بلغها الشعور بالوحدة، آرقتها العاصفة الخريفية المتعلقة بفصل الشتاء، مستقبلها الناهي. حدّقت بالنهار الأبيض أيقنت انها ستفارق الحياة، تحت وطأة البرد القارس، مثل الآخرين الذين سبقوها... ستغادر الحياة ...عادت اليمامتين الى مسقط رأسيهما، تتحاوران، تملآن الكون هديلا .
انقطعت أصوات الأقدام المتعاقبة، أقدام الكنة لتصل الى المكان أقدام تحذو كعبا يطرق السكون بدقاته... ضجيج مغاير...أصداء كأغنية يقرقع البلاط بضجيجه. تتجه نحو حجرته، تطرق بابه فتقطع عليه ساعات ليله الوئيد.